مر شهر تقريباً منذ دفع هجوم بغاز السارين على قرية خان شيخون السورية الرئيس ترامب إلى قصف قاعدة جوية للحكومة بصواريخ كروز. والأخبار الجيدة منذ ذلك الحين هي أنه لم يتم شن أي هجمات أخرى على المدنيين السوريين باستخدام السارين –ولو أنه يُعتقد بأن نظام بشار الأسد يمتلك عدة أطنان إضافية منه- أو بالكلور، ولو أن “قنابل البراميل” المملوءة بتلك المادة الكيميائية كانت تُسقَط بشكل روتيني على المشافي والمدارس ومباني الشقق السكنية قبل 7 نيسان (أبريل).
أما بالنسبة للأخبار السيئة، التي تجاهلها بشكل شبه كامل تقريباً بيتٌ أبيضُ انتقل منذ وقت طويل إلى الاهتمامبقضايا أخرى، فهي أن الطائرات السورية والروسية ظلت تقصف الأهداف المدنية في كل أنحاء سورية على أساس يومي بالقنابل الخارقة للتحصينات، والقنابل العنقودية، وقنابل الفسفور والبراميل المملوءة بالشظايا. وفي يوم نمطي في الأسبوع الماضي، قُتل ما بين 70 و80 شخصاً في الحرب الأهلية السورية، وفقاً لتقارير صدرت عن المرصد السوري لحقوق الإنسان –وهو تقريباً نفس عدد الذين قتلوا جراء هجوم الغاز في قرية خان شيخون.
هل جعل ترامب السوريين أكثر أمناً بأي مقدار؟ “للأسف، كلا”، كما يقول رائد الصالح، رئيس منظمة “الخوذات البيضاء” للدفاع المدني، التي أخبرت العالم عن الهجوم بغاز السارين. وأضاف الصالح: “لقد تمكنوا من وقف استخدام الأسلحة الكيميائية. لكن القتل مايزال جارياً ومستمراً بكل أنواع الأسلحة الأخرى”.
خلال زيارة قام بها إلى واشنطن الأسبوع الماضي، وصف الصالح بقتامة الأنقاض التي يحفر فيها أعضاء فريقه بحثاً عن الضحايا في الأسابيع القليلة الماضية. كان هناك “مستشفى الشام”، الذي بني في كهف تحت الأرض على بعد ستة أميال إلى الغرب من قرية خان شيخون: وقد أسقطت الطائرات الروسية ست قنابل خارقة للتحصينات عليه في 22 نيسان (أبريل)، وهدمته لتترك الأطباء والمرضى عالقين تحت الحجارة الثقيلة. ويومي الأربعاء والخميس، تم قصف ثلاث مستشفيات أخرى في نفس المنطقة الشمالية الغربية. وفي اثنتين من هذه الحالات، عادت الطائرات لتقصف عمليات الإنقاذ التي يقوم بها أفراد “الخوذات البيضاء”.
أصبحت هذه المنظمة هدفاً أساسياً روسياً لأنها قدمت الأدلة على شن الهجوم بغاز السارين، كما قال الصالح. وفي الأيام التي أعقبت الضربة الصاروخية الأميركية، تعرض مركز “الخوذات البيضاء” في خان شيخون للقصف؛ ونجا العاملون المختفون في ملجأ تحت الأرض، لكن عرباتهم دُمرت. كما تم ضرب مرفقين مجاورين للخوذات البيضاء، بما في ذلك مسقط رأس الصالح، بلدة جسر الشغور. وفي الأثناء، شنت روسيا هجوماً دعائياً شاملاً: ففي مؤتمر صحفي عقده في موسكو يوم الخميس، اتهم ناطق باسم وزير الخارجية المجموعة بالتعاون مع “داعش” وفرع تنظيم القاعدة في سورية، بالإضافة إلى تزويد “الولايات المتحدة بالذريعة للقيام بعمل من أعمال العدوان”.
في حقيقة الأمر، كانت منظمة “الخوذات البيضاء” جزيرة للإنسانية في مشهد هو بخلاف ذلك قاتم وبربري. وبحلول الأسبوع الماضي، كانت المنظمة قد أحصت إنقاذ نحو 91.000 شخص منذ ساعد الصالح في تأسيس المجموعة في شمال سورية الذي يسيطر عليه الثوار في العام 2013. ويقول الصالح أن لدى المنظمة الآن 3.300 عامل في 120 مركز تنتشر في تسع محافظات سورية. وقد قتل من عاملي المنظمة 184 وأصيب 500 آخرون بجراح، بما في ذلك ثمانية قتلوا في الضربات الجوية يوم السبت. وقد سقط معظم الضحايا جراء عمليات القصف المتعمد لعمليات الإنقاذ. ومع ذلك، يقول الصالح أن هناك قائمة انتظار طويلة من المتطوعين المستعدين للانضمام إلى المجموعة عندما تشغر المواقع: “عندما نطلب 10 متطوعين، نحصل على طلبات من 700”.
يُدفع للمنقذين العاملين في المنظمة راتب شهري قدره 150 دولاراً –لكن حافزهم الحقيقي هو إنقاذ أصدقائهم وجيرانهم. ويقول فاروق حبيب، منسق المساعداتوالتدريب للمجموعة: “كل مرة يسحبون فيها طفلاً من تحت الأنقاض، يجدون حافزاً إلى المضي قدماً”. وكان الدعم الدولي للمنظمة كثيفاً: حيث قدمت معظم الحكومات الغربية الرئيسية التمويل، بما في ذلك أكثر من 20 مليون دولار من إدارة أوباما؛ وجمعت حملة على الإنترنت أكثر من 200.000 دولار من مانحين صغار، وأكثر من 12 مليون دولار في شكل مساهمات.
أصبحت منظمة “الخوذات البيضاء” مرشحاً بارزاً لنيل جائزة نوبل للسلام. لكن الرجل صاحب الأربعة وثلاثين عاماً الذي يقودها ليس متفائلاً على الإطلاق. ويتحدث الصالح، في بذلة سوداء وقميص أسود وربطة عنق سوداء ذاتخطوط أرجوانية، بنغمة رتيبة كئيبة، بينما يصف استراتيجية المجموعة لتفادي ضربات روسيا “المزدوجة” للمنقذين: “في الحقيقة، ليست لدينا استراتيجية. يجب أن نكون متاحين مباشرة في الموقع. يمكن للدقائق أو الثواني أن تنقذ الأرواح. لذلك، ليس لدينا خيار الانتظار”.
عندما سألت الصالح عن كيف يمكن أن تنتهي المذبحة الجارية في سورية، استشهد بما قال أنه اليوم الوحيد منذ العام 2011، الذي لم يُقتل فيه أي سوري: 28 شباط (فبراير) 2016، عندما دخل وقف لإطلاق النار توسطت فيه الولايات المتحدة وروسيا حيز التنفيذ. وسرعان ما انهار ذلك الاتفاق، لكن الصالح يقول أن ذلك هو الطريق الوحيد للخروج: “حل سياسي” يأتي من “إرادة جدية من القوى السياسية الرئيسية”.
بعبارات أخرى، ليست ضربة أميركية واحدة كافية. وما لم يكن ترامب راغباً في فعل المزيد، فإن منظمة “الخوذات البيضاء” سوف تواصل الحفر في الأنقاض.
جاكسون ديل
صحيفة الغد