قلنا وكررنا في مقالات سابقة إن النظام الستاليني الذي يقوده الصبي الطائش «كيم جونج أون» في كوريا الشمالية لن يستطيع الصمود يوماً واحداً دون دعم النظام الصيني الذي يمده بأوكسجين الحياة، ويوفر له ما يعينه على التملص من العقوبات الدولية المفروضة عليه، كما قلنا إن بكين، لا تفعل ذلك كرماً أو حباً في سلالة «كيم» التي تتوارث الحكم في بيونج يانج، كما لو كانت «جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية» دولة ملكية، وإنما تفعله بهدف استخدام بيونج يانج، وقت الضرورة، كمخلب قط ومصدر تهديد (صوتي على الأقل) ضد الدول التي تقف أو قد تقف مستقبلاً في وجه الطموحات الصينية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية.
وكان من رأي قادة بكين، كما بينا في مقال سابق، ترك الأمور تأخذ مسارها بين الغرب ونظام بيونج يانج تصعيداً دون تدخل منها إلا إذا شعرت أن الأمور قد تنفلت بصورة تهدد أمنها هي، وليس أمن العالم أو الدول المجاورة في شمال غرب آسيا. وقد ثبت مؤخراً، على هامش التصعيد الأخير بين واشنطن وبيونج يانج، أن الصين تستطيع أن تلجم القيادة الكورية الشمالية وتوقفها عند حدها إنْ أرادت وإن أيقنت أنها قد تحصل على مكاسب. وبعبارة أخرى، فإن بكين تستخدم بيونج يانج كورقة ضغط ومقايضة للحصول على تنازلات من الإدارة الأميركية في الملفات السياسية والاقتصادية الشائكة بين البلدين، تماماً مثلما تستخدم واشنطن قضية تايوان (الإقليم المتمرد في الأدبيات الصينية الرسمية) كورقة ضغط ضد بكين، على نحو ما فعله الرئيس دونالد ترامب حتى قبل دخوله البيت الأبيض رسمياً حينما أجرى حديثاً هاتفياً مع الرئيسة التايوانية «تساي إينغ وين».
على مدى أسبوع كان العالم كله يحبس أنفاسه على وقع قرع طبول الحرب بين دولة عظمى تملك إمكانيات تدميرية هائلة، ويقودها رئيس جديد يريد أن يعيد لبلاده هيبتها ومكانتها العالمية التي اهتزت بسبب سياسات رئيسها السابق باراك أوباما، وبين دولة جائعة محاصرة يقودها زعيم غير آبه بشيء سوى ترسيخ سياسة «عبادة الفرد» وصنع أدوات الدمار الشامل والتلويح بها ضد «قوى الإمبريالية المعادية».
ولعل ما زاد من مخاوف اندلاع حرب عالمية ثالثة إرسال واشنطن لحاملة طائراتها «كارل فينسون» إلى قبالة شبه الجزيرة الكورية، وإعلان حالة التأهب في صفوف القوات المسلحة الكورية الجنوبية وقوات الدفاع اليابانية، ناهيك عن قيام السلطات الكورية الشمالية بإخلاء العاصمة من السكان، وقيام بكين بإيقاف كل رحلات طيرانها المتجهة إلى المدن الكورية الشمالية، وتهديد بيونج يانج بأنها ستقصف القواعد العسكرية الأميركية أينما وجدت، وأنها «لن تتوسل السلام أبداً وستنفذ أقصى عمل مضاد ضد المستفزين»، ثم قيامها باستفزاز جديد تمثل في إطلاق صاروخ باليستي متوسط المدى فوق بحر اليابان عشية احتفالاتها السنوية بذكرى ميلاد مؤسسها الجد «كيم إيل سونج»، والتى صادفت أول قمة بين ترامب ونظيره الصيني «شي جينبينج» في فلوريدا.
لكن فجأة حدث شيء ما نزع فتيل الأزمة أو على الأقل خفف من حدتها ومنع وصولها إلى حافة الانفجار. فما هذا الذي جعل العالم يتنفس الصعداء وقتياً على الأقل، لعلمنا أن سياسات بيونج يانج الطائشة لن تتوقف، ناهيك أن ترامب يفضل ألا يفصح عن ردود أفعاله القادمة؟ ما حدث هو قيام بكين باستخدام نفوذها السياسي والاقتصادي لحل الأزمة مقابل تفاهمات مع واشنطن أثناء قمة فلوريدا التي طغى عليها الملف الكوري. ودليلنا هو إشادة ترامب بالصين على عكس ما سجل عنه أثناء حملاته الانتخابية للفوز بالرئاسة لمساعدتها في ممارسة ضغوط على كوريا الشمالية مقابل قيام واشنطن بتليين موقفها إزاء التجارة مع الصين، بل ذهب ترامب إلى حد إبداء الإعجاب بقرار الصين بإعادة 12 سفينة شحن كورية محملة بالفحم من حيث أتت ووقف استيراد الفحم من كوريا الشمالية، وذلك حينما قال: «عاد كثير من السفن المحملة بالفحم. لم ير أحد هذا من قبل. لم ير أحد من جانبنا تحركاً إيجابياً مثل هذا من جانب الصين».
أما الدليل الآخر فجاء على لسان وزير الدفاع الأميركي «جيم ماتيس» الذي صرح قائلاً إن واشنطن وبكين تعملان معاً لوضع الأزمة المتفاقمة مع بيونج يانج تحت السيطرة ونزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية، مضيفاً أن تجارب بيونج يانج الصاروخية تبين «لماذا نعمل عن قرب مع الصينيين بعد قمة فلوريدا».
وعلى حين تبدو إدارة ترامب مستعدة لانتهاج سياسات أقل تشدداً مع بكين حول قضايا معوقات التجارة والاستثمار وتلاعب الصينيين بأسعار العملة والمناخ، فإن على قادة بكين أن يتعاونوا معها ويفعلوا أشياء كثيرة أولاً طبقاً لما ذكره الباحث «جرانت نيوشام» في صحيفة «إيشيا تايمز» الصادرة في هونج كونج. على رأس هذه الأشياء: التزام صيني أقوى بتشديد العقوبات الدولية المفروضة على بيونج يانج بدلاً من الالتزام الفاتر، العمل الدؤوب على تجفيف منابع الأموال القذرة المتأتية لكوريا الشمالية من عمليات تجارة المخدرات وتزوير العملات، وقرصنة الإنترنت وتهريب العمالة، وتبييض الأموال من خلال مكاتب تعمل من خلف الستار في مكاو وهونج كونج، محاربة المصارف التي تقدم تسهيلات لشخصيات وهمية أو سفارات كورية شمالية.
عبدالله المدني
صحيفة الاتحاد