تصرّف فلاديمير بوتين ببراعة غير عادية. حوّل الأزمة السورية فرصة روسية. يمكن القول إنه تصرّف كصياد ماهر. تخطئ إذا بكرت في التسديد. وتخطئ إن تأخرت. لا بدّ من التسديد في اللحظة المناسبة.
ويمكن القول إن سيرغي لافروف ترجم ببراعة خيارات سيد الكرملين. دعك من مئات آلاف القتلى وملايين اللاجئين والنازحين. صناع السياسات الكبرى لا يذرفون الدموع ولا يتسلّحون بالمناديل. على نار الحريق السوري، أنضج بوتين معركة استعادة الهيبة. استخدم كلَّ الأسلحة بلا استثناء. صرّح وأوحى ولمّح. وأطلق تسميّات وأفرغها من مضمونها. تقدّم وتراجع والتف. ولا غرابة في ذلك، فالتضليل جزء من هذه المواجهات المعقدة.
استخدم بوتين أهوال المسرح السوري ليسجّل اعتراضه على عالم القوة العظمى الوحيدة. ثم راح يحاول تحويل الاعتراض إلى انقلاب. استثمر إلى أقصى حدّ وجود رئيس أميركي انسحابي الميول تحت وطأة «العقدة العراقية». انتظر اقتراب النظام من حافة الهاوية ليمدّ له حبل الإنقاذ عبر التدخل العسكري المباشر. ومنذ تلك الساعة لا يمكن صناعة حل لا يحمل بصماته.
ما كان ممكناً في ظل عهد باراك أوباما لم يعد ممكناً في عهد دونالد ترمب. على الأقل حتى الآن. التقط بوتين الفرصة. بحث عن نقطة يمكن أن تكون جاذبة لإدارة ترمب والدول المجاورة واللاعبين الإقليميين والأسرة الدولية. وقع خياره على «المناطق الآمنة» أو على «المناطق المخففة التصعيد»، وفق التسمية الوافدة من آستانة.
تكاد «المناطق الآمنة» تكون مطلب معظم اللاعبين أو المعنيين، حتى وإن اختلفت القراءات لحدودها وطبيعتها وما يفترض أن يليَها. لتركيا والأردن ولبنان مصلحة فعلية في قيام هذا النوع من المناطق. ستشعر هذه الدول بأن اللاجئين السوريين لن يتحولوا عبئاً دائماً. ستفتح هذه المناطق ملف عودة السوريين إلى ديارهم أو ما تبقى منها.
إدارة ترمب تحدثت هي الأخرى عن ضرورة قيام هذه المناطق، لتخفيف معاناة الناس من ويلات القصف، ولتمكين التحالف الدولي من الاهتمام بتصعيد الحرب على الإرهاب. يضاف إلى ذلك أن إدارة ترمب لمّحت إلى استعدادها للقبول بسوريا الروسية إذا كانت ستقوم، ولو تدريجياً، على أنقاض سوريا الإيرانية. الأمم المتحدة تريد أيضاً قيام هذه المناطق لتخفيف أزمة اللاجئين والتمكن من القيام بأعمال الإغاثة، خصوصاً في المناطق المحاصرة.
المعارضة تريد أيضاً المناطق الآمنة، علَّها تكون فرصة لالتقاط الأنفاس بعد ما تعرضت له من ضربات قاسية على يد النظام وحلفائه. وطبيعي أن تثير المعارضة نقاطاً من نوع التساؤل عن قدرة إيران على لعب دور الضامن مع الاستمرار في دور المحارب. وعن علاقة «المناطق الآمنة» بضرورة الحل السياسي استناداً إلى القرارات الدولية.
لا بد هنا من الالتفات إلى أن التأييد الواسع لفكرة «المناطق الآمنة» لا يحجب اختلاف التفسيرات لحدودها ودور المراقبين فيها، وعلاقة هذه الخطوة بالحل الشامل. تركيا مثلاً تريد مناطق آمنة من دون مسلحين من الأكراد. والأكراد يريدون هذه المناطق بلا قصف تركي.
أغلب الظن أن إيران كانت تفضل حدوث مزيد من «الترتيبات» في محيط دمشق والغوطة قبل قيام المناطق التي يجري الكلام عليها. لكن منحها دور الضامن قد يكون دفعها إلى القبول. أما النظام، فكان يفضل بالتأكيد الانتصار الكامل، لأنه يعرف أن الانتصار الناقص لا بد من أن ينعكس على طاولة جنيف.
يمكن قراءة فكرة المناطق بطريقة أخرى. تحمل في جانب منها بصمات براعة لافروف. الانهماك بترتيبات «المناطق الآمنة» سيعيد موضوع مصير بشار الأسد إلى الصف الثاني، بعدما كان في الواجهة خلال الأسابيع الماضية. والحقيقة أن موسكو لم تغير موقفها في هذا الموضوع. فهي تقول إن على من يريدون محاربة الإرهاب وفتح الباب لخروج الميليشيات الإيرانية من سوريا، والذين يطالبون بجولان آمن، أن يسألوا عن الجهة القادرة على ضمان ذلك، وهي الجيش السوري إذا تلقى الدعم اللازم. وتقصد روسيا الجيش السوري في ظل الأسد الذي تشترط إدارة ترمب أن يكون بقاؤه مربوطاً بمرحلة انتقالية.
ثمة حقيقة جديدة وهي أن إدارة ترمب أوحت في الأيام المائة الأولى من ممارستها بأنها أعادت إحياء تحالفاتها القديمة في المنطقة، والتي اضطربت بفعل «السياسات الأكاديمية» لأوباما. إننا أمام قراءة أميركية جديدة لأهمية التحالف مع الرياض، وهو ما يؤكده افتتاح ترمب جولاته الخارجية بزيارة السعودية ولقاءاته الموسعة هناك. وهناك أيضاً القراءة الأميركية لدور مصر في المنطقة، فضلاً عن التحالف مع إسرائيل. وكان لا بد لبوتين من أن يستبق هذه المشاهد كلها بمحاولة تقديم نفسه في صورة القادر على بلورة حل في سوريا يوزع الضمادات والضمانات انطلاقاً من «المناطق الآمنة».
أي نجاح لبوتين في جعل «المناطق الآمنة» محور الاهتمام لدى المعنيين بالأزمة السورية وتحصينها بإعادة إطلاق عملية جنيف، سيعني أن الصياد الروسي ما زال قادراً على التسديد في اللحظة الملائمة. طبعاً مع الالتفات إلى أن شروط الرقص مع ترمب تختلف عن شروط الرقص مع سلفه، ما يجعل الإسراف في ممارسة البراعة خطراً كالافتقار إليها.
غسان شربل
صحيفة الحياة اللندنية