انعكاسات النظام الرئاسي بتركيا على حزب العدالة والتنمية

انعكاسات النظام الرئاسي بتركيا على حزب العدالة والتنمية

كعادته بعد كل منافسة انتخابية؛ يعكف حزب العدالة والتنمية التركي على دراسة نتائجالاستفتاء الشعبي  الأخير على التعديل الدستوري، للوقوف على الدلالات والرسائل المتضمنة، وبدء الإعداد للمحطات الانتخابية القادمة، أي الانتخابات المحلية (البلدية) في مارس/آذار 2019، والانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.

تصويت العدالة والتنمية
لعل أحد أهم استنتاجات نتائج التصويت في الاستفتاء الأخير أن القاعدة الجماهيرية والانتخابية لحزب العدالة والتنمية لم تصوت كلها بتأييد التعديل الدستوري. ورغم أن المناسبة كانت استفتاءً على النظام الرئاسي وليست انتخابات برلمانية أو رئاسية، فإنه تبقى للأمر دلالته باعتبار أن العدالة والتنمية حزب منظّم ومعروف بتماسكه وبتقاليد الانضباط العالية فيه.

ولئن كان من غير الممكن الجزم بنسبة كوادر وأنصار الحزب الذين صوتوا ضد التعديل الدستوري أو امتنعوا عن التصويت، فإن هناك أربع قرائن على الأقل تشير إلى صحة هذا الاستنتاج:

“لعل أحد أهم استنتاجات نتائج التصويت في الاستفتاء الأخير أن القاعدة الجماهيرية والانتخابية لحزب العدالة والتنمية لم تصوت كلها بتأييد التعديل الدستوري. وإن كانت المناسبة استفتاءً على النظام الرئاسي وليست انتخابات برلمانية أو رئاسية”

الأولى هي نتيجة تأييد التعديل الدستوري في عموم تركيا التي تزيد بقليل على نسبة العدالة والتنمية في آخر انتخابات برلمانية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 (%51.4 مقابل %49.5).

ورغم التسليم بعدم دقة هذه المقارنة في المطلق لاختلاف المناسبتين الانتخابيتين من حيث الفلسفة والمنطلقات والديناميات ودلالات النتائج، فإن حساب تأييد أطراف وأطياف أخرى للتعديل -من إسلاميين ومحافظين وقوميين وأكراد- يشير بوضوح إلى أن هناك من لم يصوت له من أنصار الحزب الحاكم.

تكمن القرينة الثانية في مقارنة نسبة تأييد التعديل الدستوري بكل محافظة على حدة بنسبة التصويت لكل من العدالة والتنمية والحركة القومية (الحزبين اللذين دعما التعديل) في الانتخابات الأخيرة، حيث تقاربت النسبتان في معظم المحافظات مما يعني أن نسبة المؤيدين من الحركة القومية توازي نسبة المعارضين من العدالة والتنمية.

وبينما يحمل تصويت مناطق الأغلبية الكردية في شرق البلاد وجنوبها الشرقي دلالة ثالثة واضحة، تتبدى القرينة الرابعة في تقدم الرافضين للتعديل الدستوري ببعض أهم المدن الكبرى التي يفوز فيها الحزب الحاكم تقليدياً، مثل إسطنبول وأنقرة وأنطاليا وأضنة، فضلاً عن إزميرمعقل العلمانيين وديار بكر معقل الأكراد.

عزوف نسبة ما من كوادر العدالة والتنمية وأنصاره عن تأييد التعديل الدستوري لم تخف على أردوغان الذي قال ليلة إعلان النتائج “يبدو أننا أخفقنا في إقناع البعض”، بينما ألمح رئيس الحزب ورئيس الوزراء بن علي يلدرم إلى إجراء تغييرات في الحزب والحكومة، مما يشير إلى فهم الحزب وتفهمه لرسائل التصويت ودلالاته، فضلاً عن تشكيل الحزب لجنة لإعداد ملف تقييمي مفصّل لنتائج الاستفتاء.

ثمة أسباب ثلاثة يمكن رصدها لهذا العزوف؛ أولها عدم مرور مشروع النظام الرئاسي بحوار مجتمعي ومؤسسي عميق ومطول قبل عرضه على البرلمان ثم الاستفتاء، وثانيها التحفظ على بعض مواد النظام الرئاسي، لا سيما تلك المتعلقة برقابة البرلمان على الحكومة والعلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية، والثالث التخوف من اختلال التوازن بين السلطات المختلفة لصالح الرئيس بشكل واضح على المدى البعيد، أي في مرحلة ما بعد أردوغان.

قيادات سابقة
تميل تحليلات إلى وجود معارضة منظمة داخل حزب العدالة والتنمية تتزعمها قيادات سابقة، مثل رئيس الجمهورية السابق عبد الله غل ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو وبولند أرينتش وعلي باباجان وغيرهم.

“الفترة الانتقالية الحالية وحتى نهاية 2019 ستشهد إصدار البرلمان لـ”قوانين المواءمة” للتدرج في الانتقال من النظام البرلماني للرئاسي، ويُتوقع أن تشمل تغيير قانونيْ الانتخاب والأحزاب السياسية، فضلاً عن خفض “العتبة الانتخابية””

لم تدْعُ هذه الأسماء إلى تأييد التعديل الدستوري علانية، ولا استخدموا مواقعهم وحساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي لدعم هذا التوجه، ولا كانوا جزءاً أصيلاً من الحملة الانتخابية التي قادها أردوغان والحزب. وحتى حينما شارك داود أوغلو في مهرجان مدينته قونيا رفقة أردوغان، فإنه قدم خطاباً عاماً ولم يحث بشكل واضح ومباشر على الموافقة على النظام الرئاسي وفق المقترح المستفتى عليه.

رغم ذلك، لا يبدو أن هناك تنسيقاً في موضوع التعديل الدستوري بين هذه الشخصيات، فضلاً عن أنهم لم يتحدثوا عن موقفهم منه في العلن لا إيجاباً ولا سلباً. ولقد أثبت هؤلاء غير مرة أنهم يقدمون مصلحة الحزب و/أو البلاد على مصالحهم الشخصية.

فقد خرج غل من حلبة السياسة بصمت، وترك داود أوغلو رئاسة الحزب والحكومة بهدوء وحكمة، بينما لم يصدر عن الباقين أي هجوم علني على الحزب رغم انتقادهم لبعض سياساته وقراراته.

أكثر من ذلك، يعرف الجميع أن العمل المنظم داخل الحزب ضد توجهات أردوغان غير ممكن ولا حتى مفيد من الناحية العملية، لما يتمتع به الرجل من ثقة وكاريزما وحضور وقوة وتأثير على قيادات الحزب قبل كوادره وأنصاره، ومثل هذا العمل المنظم لا يبدو أنهم قد أقدموا عليه ولا يوجد دليل يمكن أن يُساق بين يدي هذا الادعاء على الأقل.

انعكاسات مستقبلية
سيترك تطبيق النظام الرئاسي أثره البالغ في كافة الأحزاب السياسية وفي مقدمتها العدالة والتنمية. إذ على عكس النظام البرلماني -الذي تحظى فيه الأحزاب بالدور الأساسي لجهة ثقلها في البرلمان ودورها في تشكيل الحكومة والعديد من الصلاحيات الأخرى- يتراجع هذا الدور في النظام الرئاسي الذي تتمحور السلطة التنفيذية فيه خلف الشخص/الرئيس، ويكتفي فيه البرلمان بالمسؤولية التشريعية والرقابية.

كما أن الفترة الانتقالية الحالية وحتى نهاية 2019 ستشهد إصدار البرلمان لـ”قوانين المواءمة” للتدرج في الانتقال من النظام البرلماني للرئاسي، ويُتوقع أن تشمل تغيير قانونيْ الانتخاب والأحزاب السياسية، فضلاً عن خفض “العتبة الانتخابية” المطلوبة من الأحزاب لدخول البرلمان من 10% إلى 7% أو 5%.

يعني ذلك أن الخريطة الحزبية في البلاد ستتغير وسيدخل عدد أكبر من الأحزاب (الصغيرة) تحت قبة البرلمان، وهو ما قد يخصم -على المدى البعيد- من حصة حزب العدالة والتنمية المستفيد حالياً من الاستقطاب والخوف من التراجع.

الأهم أن تطبيق النظام الرئاسي سيحوّل -على المدى البعيد- الخريطة الحزبية والسياسية والأيديولوجية في تركيا من أحزاب متعددة إلى تيارين رئيسييْن، يضم الأول الأحزاب والتيارات اليمينية أي الإسلامية والمحافظة والقومية (التركية)، ويشمل الثاني الأحزاب والتيارات العلمانية واليسارية والقومية (الكردية).

“استئناساً برسائل ودلالات نتائج الاستفتاء، واستعداداً للمحطات الانتخابية المقبلة؛ ستطرأ تغييرات على بنية الحزب القيادية وعلى تنظيماته في المدن ومسؤوليه في المحليات، وعلى تشكيلة الحكومة التي تتواتر تسريبات حول تعديل وزاري فيها قبيل أو بعد المؤتمر الاستثنائي”

وفي معادلة كهذه، سيتحول العدالة والتنمية إلى رأس للتيار الأول وعموده الفقاري، لكنه لن يكون بنفس ثقله اليوم وحضوره المستقل والمركزي في الحياة السياسية.

إحدى المواد الثلاث التي يفتح التعديل الدستوري المجال لتطبيقها بشكل فوري هي انتماء الرئيس إلى أحد الأحزاب، ولذا فإن الرئيس أردوغان عاد يوم 2 مايو/أيار الجاري إلى صفوف حزب العدالة والتنمية بعد توقيعه استمارة طلب انتساب إليه في حفل بمقر الحزب في العاصمة أنقرة.

ويُعِدُّ الحزب أيضاً لمؤتمر استثنائي يوم 21 من الشهر الحالي لانتخاب أردوغان رئيساً له مرة أخرى، بعد أن فتح التعديل الدستوري الطريق لذلك.

عودة أردوغان إلى رئاسة الحزب لن تكون شكلية بطبيعة الحال، بل ستترك بصماتها وآثارها العميقة في الحزب وفي الحياة السياسية التركية بشكل عام. وستكون شارة البدء للاستعدادات للاستحقاقات الانتخابية عام 2019.

سيكون أردوغان -خلال الفترة الانتقالية- رئيساً للجمهورية ورئيساً لأكبر الأحزاب التركية الذي يشكل الحكومة، مع بقاء بن علي يلدرم رئيساً للوزراء، وهي توليفة جديدة على تركيا ستحمل معها بالتأكيد بعض التحديات.

استئناساً برسائل ودلالات نتائج الاستفتاء، واستعداداً للمحطات الانتخابية المقبلة؛ ستطرأ تغييرات على بنية الحزب القيادية وعلى تنظيماته في المدن ومسؤوليه في المحليات، وعلى تشكيلة الحكومة التي تتواتر تسريبات حول تعديل وزاري فيها قبيل أو بعد المؤتمر الاستثنائي، وقد تضم لأول مرة أسماء من الحركة القومية.

خلاصة لكل ما سبق؛ تتأهب تركيا لدخول مرحلة جديدة كلياً في تاريخها الحديث، ستلقي بظلالها الكثيفة على كل قوى المشهدالسياسي الداخلي، وفي المقدمة منها حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ 20022.

لن تبقى للحزب -على المدى البعيد- نفس الكينونة والدور والثقل وربما البنية والهيكلية الإدارية والبشرية، وقد تتفرع عنه أو منه أو تنضم إليه وتندمج فيه أحزاب أخرى صغيرة مستقبلاً، لكن ليست لذلك علاقة بالمواقف الحالية لبعض الشخصيات والأطياف داخل الحزب من التعديل الدستوري والنظام الرئاسي، بقدر ما هي انعكاس لحالة التدافع المنبثقة من تطبيق النظام الرئاسي نفسه في البلاد.

إن عامين ونصف عام -أي حتى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية نهاية 2019- ينبغي أن تكون مدة كافية لأردوغان والحزب لترتيب أوراقهم الداخلية، والتواصل والحوار المعمق مع المعترضين أو المتحفظين أو الخائفين من مستقبل تطبيق النظام الرئاسي، أو من مواد بعينها في التعديل الدستوري.

هذا فضلاً عن ضرورة الانفتاح مستقبلاً على أي تعديلات أو إضافات أو تصويبات ستقتضيها الممارسة العملية، التي ستكشف بالضرورة بعض الهفوات و/أو النواقص و/أو الثغرات في المواد المستفتى عليها حديثاً، إذ يبقى التطبيق العملي أهم بكثير من نصوص المواد القانونية الجافة.

لكن يبقى التحدي الأكبر للعدالة والتنمية -على المدى البعيد- هو التحضير لمرحلة ما بعد أردوغان، خصوصاً لجهة إعداد القيادات -من كل المستويات- وترميزها، إذ غالباً ما تتراجع الأحزاب والتيارات السياسية بعد مرحلة قيادتها المؤسِّسة.

سعيد الحاج

الجزيرة