غزة – تعيش حركة حماس أزمة مركبة تعمّقت أكثر بإقرارها وثيقة سياسية عُدت بمثابة انقلاب على مرجعيتها السياسية والفكرية التي بنيت عليها، وتلاقي اعتراضات داخل هيكلها التنظيمي عبّر عنها في أكثر من مناسبة القيادي محمود الزهار.
وحرص الزهار، المحسوب على إيران داخل المكتب السياسي للحركة في أكثر من إطلالة له في الأسبوعين الأخيرين، على التقليل من أهمية ما جاء في الوثيقة الجديدة التي اعتبرها امتدادا لميثاق الحركة الأساسي الصادر في العام 1988 وليست بديلا له، رافضا المقارنة بين حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية التي سبقتها في عملية تعديل ميثاقها عام 1996 والذي شدد على مبدأ حل الدولتين واحترام الاتفاقات المبرمة مع إسرائيل، واعتماد النهج السلمي للوصول إلى تحقيق المطالب الفلسطينية المشروعة.
وأكد عضو المكتب السياسي في حماس الأحد أن “الثوابت جزء من ديننا لا نفرط في أي منها، وندافع عن حق الإنسان الفلسطيني مسلما كان أو مسيحيا، ولا نفرط في شبر واحد من أرضنا ومقدساتنا”.
وشدد الزهار على أن الحركة “لن تسقط البندقية وسـتحافظ على الثوابت”، معتبرا أن “الثوابت الفلسطينية لا تتغير في كل القواميس، ولا تتغير بتغير الزمان أو المكان، ولا تحابي أي إنسان، ولا تخضع لأي جبروت كان”، وقال إن “الدفاع عن المقدسات في فلسطين واجب وسنواصل العمل حتى تحرير كل شبر منها”.
واعتبر أن وثيقة حماس جاءت لتحفظ الحقوق والثوابت وأنّ القبول بدولة بحدود 1967 لا يعني الاعتراف بإسرائيل.
وقبل أيام صرّح الزهار بأن الوثيقة لا تعني بالمرة التخلي عن أراضي الـ48، وأن فكرة قبول حماس بما قبلت به منظمة التحرير غير صحيحة، “فحماس متمسكة بالثوابت الفلسطينية دون أدنى تراجع”.
تصريحات عضو المكتب السياسي بالحركة تجافي ما جاء في مضمون الوثيقة الجديدة التي نصت بشكل واضح لا يقبل الجدل على اعتراف حماس بحل الدولتين على أراضي 1967، وأن السلاح ليس هو الطريق الأوحد لنيل الحقوق الفلسطينية، وهذا يكاد يكون جوهر التعديل الذي قامت به منظمة التحرير الفلسطينية على ميثاقها.
ويرى مراقبون أن تصريحات الزهار تعبّر عن الشق الرافض للثمن الذي تدفعه الحركة بضغط من قوى إقليمية لمحاولة تعويمها وجعلها مقبولة دوليا وعربيا.
ويقول هؤلاء إن اعتراضات الزهار قد تؤشر على بداية تصدع فعلي في حركة حماس التي شهدت منذ انطلاقة ما سمي بـ”الربيع العربي” هزات داخلية كبيرة أفضت إلى عملية فرز داخلية بين جناح مؤيد لتركيا وقطر (التيار السياسي مع وجود استثناءات على غرار الزهار) وآخر مؤيد لإيران وحلفائها (الجناح العسكري كتائب عزالدين القسام).
وأبدت طهران تحفظا واضحا على الوثيقة رغم حرصها على الإبقاء على شعرة معاوية قائمة مع المكتب السياسي الجديد برئاسة إسماعيل هنية عبر تهنئته بالمنصب الجديد.
وهذا التحفظ ترجم بشكل واضح في وسائل الإعلام الإيرانية التي ركّزت على مضمون الوثيقة مرجحة أن تقود الخطوة الحمساوية إلى تفككها.
ونقل موقع “بولتن نيوز” المقرب من الحرس الثوري عن المحلل الإيراني حسن هاني زادة قوله “الوثيقة تهدف في الواقع إلى إفشال تطلعات الشعب الفلسطيني، وصدع المقاومة والتصالح مع الكيان الصهيوني”.
اعتراضات الزهار تؤشر على بداية تصدع في حماس التي شهدت منذ انطلاقة ما سمي بـ”الربيع العربي” هزات داخلية كبيرة
وأضاف هاني زادة “خالد مشعل يتجه نحو تكرار خطأ حركة فتح، كما أنه يحاول إظهار نفسه بأنه ينتمي إلى المعارضة المعتدلة، وأنه معاد للمقاومة”.
واعتبر هاني زادة أن حماس تعاني اليوم من “العزلة”، وقال إنها تتجه نحو “الانشقاق”.
التحفظات عبّرت عنها كذلك أذرع إيران في المنطقة وعلى رأسها حزب الله اللبناني الذي قال على لسان نائب الأمين العام نعيم القاسم “الحزب ليس مع المقاومة التي تمهّد للتسوية، كما أنه ليس مع المقاومة التي تقسّم فلسطين إلى دولتين أو المقاومة التي تبادل الدم بالأرض”.
وجدير بالإشارة أن العلاقة بين الحزب والمكتب السياسي القديم لحماس شهدت توترا واضحا منذ اندلاع الأزمة السورية في العام 2011، حيث يرى الحزب الشيعي أن خالد مشعل والمجموعة المحيطة به في المكتب السياسي خذلوا المحور الداعم للحركة بالاصطفاف إلى جانب قطر وتركيا في معاداتهما لنظام الرئيس بشار الأسد.
ويقول محللون إن الوثيقة السياسية سيكون لها تأثير كبير على الحركة، حيث ستعزز الانقسام في صفوفها في ظل تنافس إيراني وقطري تركي على ترجيح كفة المناصرين لهذه الدول للهيمنة على مفاصل القرار داخلها.
ولا يتوقع أن يجنح الشق المعارض للوثيقة إلى الخروج من حماس الآن والانشقاق عنها، بل من المرجح أن يعمد إلى تبني نهج المعارضة من الداخل، ولكن يبقى هذا مرتبطا بالخطوات المستقبلية التي قد يقدم عليها المكتب السياسي الجديد.
وتتطلع قطر وتركيا بعد الوثيقة إلى دفع القيادة السياسية الجديدة إلى الجلوس والتفاوض مع إسرائيل، وسبق وأن مهد خالد مشعل إلى ذلك عبر حوار مع قناة “السي أن أن” الأميركية، وجاء ذلك بعد أقل من يومين من إعلانه عن الوثيقة من الدوحة.
ويرى محللون أنه في حال سجلت خطوات جدية لمفاوضات مباشرة بين حماس وإسرائيل وهذا مستبعد في الوقت الحالي على الأقل ليس لغياب رغبة من المكتب الجديد بقدر ما هو لرفض إسرائيل الاعتراف بوجود تغير في خط حماس التي تسمّها بـ”الإرهاب”، عندها يمكن الجزم بعملية انشقاق كبيرة تنتظر الحركة.
وتحاول حماس اليوم حرف الأنظار عن الأزمة التي تعيشها عبر التركيز الإعلامي الكثيف على مسألة العمالة لإسرائيل فضلا عن تصعيد لافت دبلوماسيا وأمنيا ضد فتح.
وتقول أوساط سياسية فلسطينية إن إعلان حماس عن إلقائها القبض على العشرات من الفلسطينيين متهمين بالتخابر لصالح إسرائيل، وقبلها الإعلان عن قاتل قياديها مازن فقهاء على لسان إسماعيل هنية ليس بريئا من حيث التوقيت.
وأعلنت وزارة الداخلية التابعة للحركة في قطاع غزة الثلاثاء أنها اعتقلت 45 فلسطينيا من المتخابرين مع إسرائيل تم اكتشافهم خلال التحقيقات التي أجرتها في عملية اغتيال فقهاء القائد في كتائب عز الدين القسّام.
وعرضت الوزارة فيديو مصور يظهر ثلاثة أشخاص يعترفون فيه بالمشاركة في اغتيال القيادي، في رسالة أرادت توجيهها مفادها أن الحركة ما تزال قوية وأن بوصلتها ما تزال مصوبة على إسرائيل وعملائها.
وتشير الأوساط الفلسطينية إلى أن تصعيد حماس ضد فتح وتكثيف عمليات اعتقالها لكوادر فتحاوية في قطاع غزة الذين بلغوا العشرات في الأيام الأخيرة، يندرج في إطار عملية تضليلية لإشاحة الأنظار عن الخلافات داخلها.
العرب اللندنية