يهودية الدولة أسبق من ديمقراطيتها
ما انفك “المعسكر القومي”، وهي التسمية التي تُطلق على تحالف اليمين واليمين المتطرّف في إسرائيل الذي يشكل الحكومة الإسرائيلية، بقيادة بنيامين نتنياهو، يعمل بنجاحٍ ملحوظٍ لإعادة صياغة حدود الإجماع القومي الإسرائيلي، وكذلك حدود المعارضة والديمقراطية في إسرائيل، تحت سقف الصهيونية، أو ما يسميها “القومية اليهودية”. ويشدّد اليمين على يهودية الدولة، كونها جوهرية، أي سابقة على ديمقراطيتها، فالدولة، من زاوية النظر هذه، يهودية في “جوهرها”، أما شكل الدولة فديمقراطي. والديمقراطية المقصودة هي ديمقراطية يهودية، وهذا يجعل الفلسطينيين العرب من مواطني إسرائيل، في موضع المتسامَح مع وجودهم، في إطارها في أفضل الحالات.
وانسجامًا مع هذا التوجه ذي السمات الفاشية، سنّ الكنيست، في العقد الماضي، عشرات القوانين العنصرية، بتأييد ليس من أحزاب “المعسكر القومي” فحسب، وإنما بتأييدٍ ملحوظ أيضًا من أجزاء واسعة من أحزاب الوسط واليسار الصهيوني. وقد استهدفت هذه القوانين العرب الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل، وكذلك الجمعيات والمؤسسات الإسرائيلية ذات الطابع المدني الليبرالي المعارضة للسياسات العنصرية.
ومع تعاظم الهوس العنصري بشأن يهودية الدولة الذي قاده نتنياهو ومعسكره، وفرضه على المجال العمومي، وحتى على عملية التفاوض مع السلطة الفلسطينية، طُرح في السنوات الست الماضية عددٌ من الاقتراحات لسن قانون أساس (أي قانون دستوري) يعرّف إسرائيل بوصفها “دولة قومية للشعب اليهودي”. ويرمي هذا القانون إلى تحقيق جملةٍ من الأهداف، في مقدمتها ترسيخ يهودية الدولة دستوريًا بوصفها القيمة العليا والمرجعية القانونية والمعنوية الحاسمة في الدولة، في مقابل قيمتي المساواة والحرية المؤسِّستين للديمقراطية، ورفع صفة اليهودي فوق المواطن.
وفي ما عدا ترسيخ ثقافة الأجواء اليمينية القومية واليمينية القومية – الدينية، وجعلها عقيدة الدولة نصًا، يفتح هذا القانون الباب واسعًا أمام مؤسسات الدولة قانونيًا لممارسة مزيد من التمييز ضد المواطنين العرب الفلسطينيين، وتصنيفهم رسميًا طارئين على تعريف الدولة ذاتها ومجالها العمومي، فضلًا عن رفض حقوقهم الجماعية القومية. ونناقش هنا خلفيات القانون ومضامينه وتأثيراته في طابع الدولة ومدى أخطاره على الفلسطينيين في إسرائيل.
بداية تشريع القانون
في آب/ أغسطس 2011، قدّم رئيس جهاز المخابرات العامة الأسبق عضو الكنيست، أبراهم (آفي) ديختر (كان في حزب “كاديما” حينئذٍ) وعضو الكنيست، زئيف إلكين، من حزب
الليكود اقتراح “قانون أساس: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي”، الذي كان قد بلور مسودته، وأعد صيغته “المعهد لإستراتيجية صهيونية” اليميني المتطرّف المرتبط بالحركات اليهودية اليمينية المتطرّفة، مثل حركة “زو أرتسينو”. ووقع على اقتراح القانون إلى جانب ديختر وإلكين أربعون عضو كنيست من معظم الأحزاب الصهيونية، كان من بينهم أعضاء في حزبي كاديما والعمل. ولكن، ما أن جرى طرح هذا القانون في الكنيست، حتى ثارت معارضةٌ شديدةٌ له من أوساط مختلفة، كان ضمنها المستشار القانوني للكنيست، فقد أكد الأخير، في تدخلٍ نادرٍ من جانبه، أن هذا القانون يخلّ – بما وصفه – بالتوازن الحساس القائم بين يهودية الدولة وديمقراطيتها، وأنه يضع مبدأ يهودية الدولة في قمة السلم الدستوري، ويخضع له مبدأ ديمقراطية الدولة. ودعا مستشار البرلمان القانوني إلى إجراء حوارٍ معمّق بشأن القانون. وقد تدخلت رئيسة حزب “كاديما” في حينه، تسيبي ليفني، وأرغمت ديختر على سحب اقتراح القانون. وبالتدريج، أخذ يظهر اصطفاف جديد بشأن هذا القانون في الخارطة الحزبية الإسرائيلية؛ فقد وقف أنصار “المعسكر القومي” إلى جانب سنّه في الكنيست، بينما تحفظت أحزاب الوسط واليسار الصهيوني منه، وطالبت بإدخال تعديلاتٍ عليه، للحفاظ على ما وصفته بالتوازن بين مبدأي يهودية الدولة وديمقراطيتها.
وفي عام 2014 أقرّت حكومة نتنياهو السابقة عددًا من اقتراحات قانون القومية، تقدم بها أعضاء كنيست، كان من بينهم زئيف إلكين وأييلت شاكيد وبنيامين نتنياهو، بيد أنها لم تستطع تقديم أيٍ من مقترحات القوانين هذه إلى السلطة التشريعية (الكنيست)، بسبب معارضة تسيبي ليفني الشديدة لها، والتي شغلت في حينه منصب وزيرة القضاء.
وبعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، شملت اتفاقات الائتلاف الحكومي الحالي الذي شكله نتنياهو في عام 2015، والذي اقتصر على أحزاب “المعسكر القومي”، بندًا خاصًا بقانون القومية، جاء فيه أنّ رئيس الحكومة سيقيم لجنةً مؤلفةً من ممثلي أحزاب الائتلاف الحكومي، لبلورة مشروع “قانون أساس: القومية اليهودية”. وفي ضوء ازدياد ضغط اليمين المتطرّف للإسراع في سنّه، ولا سيما بعد تسلّم دونالد ترامب مقاليد الرئاسة في الولايات المتحدة، صدّقت اللجنة الوزارية لشؤون التشريع في السابع من أيار/ مايو 2017 على مشروع القومية الذي قدمه ديختر. وفي الوقت نفسه، أعلنت وزيرة القضاء، أييلت شاكيد، أنه من المتوقع أن تقدّم الحكومة الإسرائيلية، خلال الشهرين المقبلين، صياغة جديدة للقانون، لكي يكون مقبولًا من جميع الأحزاب التي يتشكل منها الائتلاف الحكومي. وفي العاشر من أيار/ مايو، صدّق الكنيست في القراءة التمهيدية على هذا القانون. وما زالت أمامه ثلاث قراءاتٍ، يفترض أن يمر خلالها بأغلبية 61 نائبًا، أي أغلبية النواب (وليس الحاضرين فقط).
بنود القانون
على الرغم من الاختلافات الطفيفة بين اقتراحات قانون القومية التي قدّمها عديدون من أعضاء الكنيست، فإنها تتشابه، في مضمونها الجوهري، في ترسيخ تعريف الدولة وهويتها دولة
يهودية، وفي فرض تفوق يهوديتها على أي قيمة أخرى، وفرض تفسير القوانين الأخرى، وفقًا لذلك. ويمكن هنا تحليل “قانون أساس: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي” الذي قدمه آفي ديختر وصدّق عليه الكنيست في قراءته التمهيدية، علمًا أن من المرجح أن تجري الحكومة تغييراتٍ فيه، قبل أن تقدمه إلى الكنيست للقراءة الأولى، وقد يأخذ ذلك وقتًا طويلًا.
يتكون هذا القانون من 15 بندًا. ينص الأول “أ” على أن “دولة إسرائيل هي البيت القومي للشعب اليهودي، وفيها حقق تطلعه لتقرير المصير، استنادًا إلى تراثه الثقافي والتاريخي”. ويحمل هذا البند المغالطات الصهيونية الأيديولوجية المعروفة، وأهمها: أولًا، التعامل مع أتباع الديانة اليهودية في إسرائيل والعالم كشعب واحد عابر للحدود والقارات واللغات والقوميات. ثانيًا، يحاول أن يؤسس حق تقرير المصير “استنادًا إلى تراثه الثقافي والتاريخي”، وأن يربطه بفلسطين، علمًا أنّ الوجود اليهودي الاستيطاني طرأ حديثًا، وجاء في سياق حركة كولونيالية عنصرية متحالفة مع الاستعمار، بغرض إقامة دولة يهودية، وأنّ جميع أعضاء الهيئة التي أعلنت “استقلال إسرائيل”، والبالغ عدد أعضائها 37 عضوًا، لم يكن أيٌ منهم، ولا أحدٌ من أجدادهم أو أجداد أجدادهم مولودًا في فلسطين، باستثناء عضوٍ واحد منهم، كان قد هاجر والده من المغرب إلى فلسطين. ثالثًا، يتجاهل هذا البند ليس فقط أنه ما كان لإسرائيل أن تقوم، لولا تشريد صاحب الأرض الشرعي، الشعب الفلسطيني، بالقوة ومصادرة أرض وطنه، وإنما يتجاهل أيضًا وجود العرب الفلسطينيين الذين وقعوا تحت الاحتلال الإسرائيلي في حرب 1948، وفرضت عليهم إسرائيل المواطنة الإسرائيلية، والذين يشكلون خمس مجموع المواطنين في إسرائيل.
ويحصر البند الأول “ب” “حق تقرير المصير القومي في دولة إسرائيل” باليهود فقط، ويستثني العرب الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل من حقوقهم القومية، ومن حقهم في تقرير المصير. أما البند الأول “ج” فيؤكد أنه ينبغي تفسير كل ما ورد في هذا القانون، وما ورد ويرد في أي تشريع آخر، وفق ما جاء في البندين “أ” و”ب” المذكورين أعلاه؛ أي أن هذا البند يضع قانون القومية فوق أي قانون آخر، ويخضع جميع القوانين الأخرى له.
ويحدّد البند الثاني أن هدف هذا القانون هو الدفاع عن مكانة إسرائيل “بوصفها الدولة القومية للشعب اليهودي وتثبيت قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية، وفق روح مبادئ إعلان إقامة إسرائيل في قانون أساس”. ومن الواضح أن هذا البند يدفع ضريبةً كلاميةً للمقولة الصهيونية “دولة يهودية وديمقراطية”، فالقانون لم يشر أو يدعو إلى أي حقٍّ من الحقوق الديمقراطية، أو أي سمةٍ من سماتها، في الوقت الذي يعجّ بالنصوص التي تؤكد نقيض الديمقراطية.
ويؤكد البند الثالث الرموز اليهودية للدولة، مثل النشيد القومي هتكفا وعلم الدولة وشعارها. أما البند الرابع فينص على أن القدس هي عاصمة الدولة. ويؤكد البند الرابع “أ” أن العبرية هي لغة الدولة. ويلغي البند الرابع “ب” الاعتراف القائم باللغة العربية لغة رسمية في الدولة، ويمنحها “مكانة خاصة” فقط توفر لمتحدثيها الحق في تلقي الخدمات العامة بلغتهم. ويهدف إلغاء اعتراف الدولة باللغة العربية لغة رسمية، ليس فقط إلى تبرير سياسة الدولة المتبعة فعليًا، والهادفة إلى تهميش اللغة العربية في المجال العام والجهاز التعليمي ومؤسسات الدولة المختلفة، وإنما أيضًا إلى إرغام المحكمة العليا الإسرائيلية على عدم بحث سياسة الدولة وممارساتها في تهميش اللغة العربية، ومنعها من اتخاذ القرارات التي ترغم الدولة على احترام اللغة العربية لغة رسمية ثانية.
ويؤكد البند السادس على “حق كل يهودي في الهجرة إلى إسرائيل والحصول على المواطنة فيها”، وبالطبع يحرم اللاجئين الفلسطينيين أصحاب البلاد الشرعيين من حق العودة إلى ديارهم. أما البندان السابع والثامن، فيُلزمان الدولة بـ “العمل على جمع الشتات” اليهودي في العالم، وتعزيز العلاقة بين إسرائيل واليهود في العالم، ويلزمانها أيضًا بالحفاظ على التراث الثقافي اليهودي والتاريخي “للشعب اليهودي في العالم”.
من الواضح في البنود الثلاثة الأخيرة أن القانون يتعامل مع إسرائيل كدولة يهود العالم، وليست فقط دولة اليهود في إسرائيل. وتعطي هذه البنود أفضلية لليهود في العالم على مواطنيها العرب؛ فالقانون يرغم الدولة على استعمال الخير العام الذي يشارك في إنتاجه المواطنون العرب، لتحقيق أهدافٍ تخصّ اليهود في العالم، مثل تشجيع هجرة اليهود إلى إسرائيل، والحفاظ على التراث اليهودي الثقافي والتاريخي لليهود في العالم، وتقديم العون لهم.
وفي مقابل ذلك، لا يطلب القانون من الدولة الحفاظ على ثقافة العرب المواطنين فيها وتراثهم، وإنما يترك هذه المهمة للمواطنين أنفسهم؛ إذ يؤكد البند التاسع “أ” أنّ من حق كل مواطن العمل على الحفاظ على ثقافته وتراثه ولغته.
أما البند التاسع “ب” فيتيح إمكانية الفصل في أماكن السكن بين مواطني الدولة بشكل قاطع،
ومن دون شروط على أساس ديني أو قومي. ويهدف ذلك إلى منع المواطنين العرب من السكن في تجمعات وقرى يهودية كثيرة في داخل الخط الأخضر التي أقيمت أصلًا على الأراضي العربية التي كانت الدولة قد صادرتها منهم عنوة (يبدو أنّ هذا النص السافر في عنصريته سوف يُحذف من اقتراح الحكومة).
أما البنود، العاشر والحادي عشر والثاني عشر، فتعالج التقويم الرسمي، وما يطلق عليه “يوم الاستقلال” والعطل والمناسبات.
ويعطي البند الثالث عشر “القضاء العبري”، أي الشريعة اليهودية الدينية، أفضلية، ويجعل منها مرجعيةً قانونيةً ملزمة في القضايا التي لا يتوفر بشأنها نص قانوني واضح؛ إذ ينص هذا البند على أنه إذا عالجت محكمةٌ قضيةً ما، ولم تجد نصًا قانونيًا تستند إليه، أو نصًا واضحًا من الشريعة اليهودية لتحكم وفقه، فيتعين عليها اتخاذ القرار وفق “تراث إسرائيل” الذي يشمل أساسًا التلمود. ولا تخلو نصوص التلمود، كما هو معروف، من الأحكام العنصرية المعادية للقيم الإنسانية.
أما البند الرابع عشر فيعالج الأماكن المقدّسة، ويستهدف هذا البند المسجد الأقصى. وكان الكنيست قد سنّ قانون الأماكن المقدسة قبل عقود. وتستند الجماعات والجمعيات والأحزاب الدينية اليهودية اليمينية المتطرّفة إلى هذا القانون، لتسهيل اختراقها الدائم حرمة المسجد الأقصى الذي يطلقون عليه “جبل الهيكل”. وتكمن خطورة هذا البند في القانون، عند إقراره قانوناً أساساً، أنه سوف يتمتع بمنزلة أعلى من القوانين الأخرى. ويهدف اليمين الحاكم بذلك إلى إيجاد مناخٍ رسميٍّ يسهل على الجماعات اليهودية مخططاتها المعروفة، مثل الوجود في الحرم القدسي الشريف على مدار الساعة والصلاة فيه، وإقامة كنيس “صغير” فيه، خطوة أولى لتقاسم الأقصى مكانيًا وزمانيًا في الطريق إلى بناء الهيكل مكان مسجد قبة الصخرة.
أما البند الخامس عشر فيحصّن هذا القانون، ويصعّب من إمكانية إجراء تغييرٍ فيه أو إلغائه، بخلاف قانونٍ أساس “حرية الإنسان وكرامته” غير المحصّن، إذ يمنح قانون القومية لنفسه مكانةً أعلى منه، كما جاء في البند الأول “ج”. وينص هذا القانون على أنه لا يمكن تغييره إلا بواسطة سنّ قانون أساس، يحظى بأكثر من نصف أعضاء الكنيست.
الخاتمة
يسعى قانون “الدولة القومية للشعب اليهودي” إلى حسم التناقض البنيوي القائم في مقولة “دولة يهودية وديمقراطية” التي تتصدّر قوانين الأساس كلها، لمصلحة يهودية الدولة. ويهدف هذا القانون الذي يكثف الأيديولوجية الصهيونية إلى إرساء أيديولوجية اليمين القومي، والقومي رسميًا، وتثبيتها في الدستور، وإجهاض أي نزعةٍ مدنيةٍ ترمي إلى الوصول إلى دولة المواطنة، أو أن تكون الدولة لجميع مواطنيها، كما يشرعن التمييز القائم ضد العرب في الداخل قانونيًا ويضع سقفًا لتطلعاتهم وشروطًا لممارستهم اللعبة الديمقراطية الإسرائيلية.
لن تتمكّن الحكومة من سنّ القانون كما هو، وسوف تضطر إلى إجراء بعض التعديلات، وذلك ليس لأسبابٍ داخلية، بل أخذًا في الاعتبار لعوامل خارجية، ليس أقلها أهميةً احتمالات فتح جبهاتٍ جديدة ضدها في الرأي العام في الغرب بتهمة العنصرية. ولكن هذا لا يغيّر من حقيقة الدستور العنصري غير المكتوب القائم في إسرائيل، وتحويلة الزاحف والتدريجي، لكن المثابر، إلى دستور مكتوب.