المعلومات والتقديرات الاستخبارية المعلنة تجزم بأن تنظيم «داعش» الإرهابي يزداد ضعفاً، بينما تشير قدرته على شن عمليات إرهابية جديدة، وآخرها في مدينة مانشستر البريطانية، إلى العكس تماماً. فهل يكسب «داعش» المزيد من القوة، أم يتجه إلى التحلل والاندثار؟
الحقيقية المثيرة للدهشة أن التنظيم يمر بالحالتين معاً: تتراجع قدراته وتزداد خطورته. وكلما مني بهزائم على الأرض وفقد المزيد من المواقع في سوريا والعراق، كلما ضاعف نشاطه الخارجي بشن عمليات إرهابية جديدة في العالم، شرقاً وغرباً.
الأرقام التي يكشف عنها المسؤولون الأمريكيون تؤكد هذه الازدواجية الغريبة في مسيرة «داعش»، وأسلوب عمله. على صعيد الانتكاسات خسر التنظيم 66% من الأراضي التي احتلها في 2004 في العراق، ونصف ما احتله من أراض في سوريا. وهي مساحة تعادل مساحة الأردن تقريباً.
وبانسحابه من تلك الأراضي أصبح أربعة ملايين مواطن أحراراً. بينما لا يزال تحت سيطرته 2,7 مليون مواطن في العراق و1,4 مليون في سوريا. ويفيد تقرير للمخابرات الأمريكية كشفت عنه شبكة «إن بي سي» التلفزيونية، بأن عدد مقاتلي التنظيم تراجع إلى 12 ألف مقاتل، وهو نصف حجم قوته العددية في 2015. ويكافح التنظيم حالياً للحفاظ على ما تبقى من معاقله، خاصة الموصل والرقة، بعد أن خسر الرمادي، وتكريت، والفلوجة، وسنجار، وعين العرب، وتدمر.
الخسائر المادية أيضاً استمرت بالتوازي مع تحرير تلك المدن التي كان يجبي من سكانها الضرائب والإتاوات، ويمارس فيها عمليات تهريب النفط، وغيرها من الأنشطة الإجرامية. ويشير تقرير للمركز الدولي لدراسة التشدد في لندن إلى أن العائدات السنوية للتنظيم هبطت من 1,9 مليار دولار في 2014 إلى 870 ألف دولار على أقصى تقدير العام الماضي.
كل تلك الهزائم تفترض أن التنظيم يحتضر، وأن خطره يتقلص، إلا أن ما يحدث هو العكس تماماً. فما زالت لديه القدرة على شن هجمات موجعة يدفع ثمنها عشرات، بل مئات الضحايا في العالم. يخسر التنظيم الأرض والموارد والمقاتلين، ولكنه يربح على جبهة أخرى، هي الحرب الدعائية التي يشنها عبر الإنترنت لكسب متعاطفين، وتابعين، ومن ثم إرهابيين جدد.
خطورة هؤلاء أنهم لا ينتمون تنظيمياً إلى «داعش»، ولا تربطهم به صلة، ولا يوجد اتصال مباشر بهم، وبالتالي لا يمكن رصدهم. إنهم يتأثرون بدعايته السامة ويبادرون بشن هجماتهم التي يخططون لها وينفذونها بمفردهم. ولذلك يطلق عليهم اسم «الذئاب المنفردة». لا يملك هؤلاء في أحيان كثيرة أسلحة نارية، ويستخدمون الأسلحة البيضاء، أو الدهس بالسيارات. وهو سبب آخر يجعل ضبطهم قبل الجريمة صعباً للغاية.
هؤلاء هم القوة الحقيقية ل «داعش» حالياً. ويكشف تجنيدهم إلى أي حد نجح التنظيم في إطلاق حملته الدعائية الماكرة، والفعالة التي أصبحت أخطر أسلحته، وأشدها فتكاً ودماراً. وكلما توالت الضربات على مواقعه في سوريا والعراق كلما كثف دعايته لتعويض خسائره على الأرض. وتبدو هذه الاستراتيجية الشيطانية ناجحة بالفعل، قياساً بما تكشفه التحقيقات من تجنيد شباب جدد ينتمون إلى ثقافات ومناطق مختلفة، بعضهم من الدول الغربية ذاتها.
وبعد هجوم مانشستر نشرت مجلة «نيويوركر» الأمريكية تقريراً جاء فيه أنه منذ 2014 انضم إلى «داعش» مالا يقل عن 40 ألف مقاتل أجنبي، بينهم خمسة آلاف من أوروبا، منهم نحو 800 من بريطانيا. و145 من الولايات المتحدة، وفقاً لما ذكرت شبكة «إن بي سي» و200 من فرنسا، و2400 من روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.
وإذا كان 30% من هؤلاء قد عادوا لبلادهم، فهذا لا يعنى تراجع قدرة «داعش»، بل ازديادها وتمددها جغرافياً بحكم الخطر الذي يمثله العائدون المشبعون بأفكاره وسيبقون قنابل موقوتة قد تنفجر في أي وقت.
خلاصة كل هذا أن «داعش» ينكمش في سوريا والعراق ولكنه يتمدد جغرافياً في العالم. وبالتالي سيظل الاحتفال بهزيمته مؤجلاً حتى بعد تدمير ما بقي له من قواعد معلومة على الأرض.
عاصم عبدالخالق
صحيفة الخليج