خمسون عاما مضت على حرب يونيو 1967، التي انتهت في ستة أيام، ورسّخت وجود إسرائيل، وأكدت نجاحها في إقامة دولتها قبل عقدين (1948)، الأمر الذي كان موضع استخفاف وتجاهل من النظام العربي.
لم يكن انتصار إسرائيل في تلك الحرب بمثابة فوز عسكري كبير فقط على جيوش عدة دول عربية، ولا سيما على عنتريات أنظمة تغطت بالقومية وكرست الاستبداد، وإنما كان نصرا سياسيا كبيرا لها، فضلا عن عوائده الاقتصادية، هذا إضافة إلى معانيه بالنسبة لوجودها ومكانتها في العالم. فمع ما حققته في الحرب المذكورة نقلت إسرائيل النقاش حول وجودها، شرعيته واستمراريته، إلى النقاش حول شكل هذا الوجود أو حدوده، ومن مسألة النكبة إلى مسألة الأراضي المحتلة، ومن ملفات 1948 إلى ملفات 1967. أي إن نتائج هذه الحرب التي ضاعفت مساحتها ثلاث مرات، أجبرت النظام العربي على وضع فكرة إنهاء وجودها جانبا، بالاعتراف بها، مباشرة أو مداورة، وبالتركيز فقط على إنهاء احتلالها لسيناء والجولان والضفة وغزة. كما أن معنى إسرائيل بالنسبة لليهود فيها، ويهود العالم، بات مختلفا أو محسوما لجهة تعزيز الثقة بها، إضافة إلى أن ذلك عزز مكانتها الإقليمية والدولية.
مع كل ذلك فإن وضع إسرائيل بعد هذه الحرب انطوى على مفارقات كثيرة أيضا، فهي وحدت الشعب الفلسطيني في 48 والضفة وغزة، ووجدت نفسها إزاء معضلة تتعلق بتعذّر كونها دولة يهودية، مع إضافة أعداد كبيرة من الفلسطينيين، بحيث بات عددهم اليوم في فلسطين التاريخية يعادل عدد اليهود فيها، وفوق ذلك فإن إسرائيل المتجبرة غير قادرة على فرض إملاءاتها عليهم.
ومن نواح أخرى، ومع أن إسرائيل أضحت بعد هذه الحرب دولة قوية ومتفوقة ومستقرة وسط العالم العربي إلا أنها بدت أيضا، قلقة على مصيرها وحائرة بالنسبة لمستقبلها، لا سيما بين كونها دولة دينية أو دولة علمانية، وبين كونها دولة ديمقراطية لمواطنيها اليهود، ودولة عنصرية إزاء مواطنيها أو المقيمين في المناطق التي تسيطر عليها من الفلسطينيين، وبين كونها دولة رفاه اجتماعي وكونها دولة رأسمالية بمعنى الكلمة. وفي مراحل أخرى بدت إسرائيل الحريصة على تأكيد انتمائها إلى الغرب أكثر دولة يحرص الغرب على انتقادها واعتبارها عبئا عليه، سياسيا وأخلاقيا وأمنيا.
انتهت حرب يونيو في ستة أيام، لكن مفاعليها لم تنته بعد، فإسرائيل أضحت إزاء مشكلة في داخلها، وإزاء مشكلة مع العالم المحيط بها، ففي داخلها باتت الاتجاهات القومية الدينية تعزز وضعها على حساب ترويجها لذاتها كدولة ليبرالية وديمقراطية، كما باتت إزاء مشكلة الاستيطان في الأراضي المحتلة، وإزاء انكشافها في العالم كدولة استعمارية وعنصرية تسيطر على شعب آخر بالقوة. والمعنى أن بقاء فلسطينيي الضفة في أرضهم هو بحد ذاته مشكلة لإسرائيل، الأمر الذي باتت تصفه بمصطلحات عنصرية مثل الخطر الديمغرافي أو القنبلة الديمغرافية.
أيضا تبدو مشكلة إسرائيل في أنها لم تستطع ترجمة انتصارها العسكري في يونيو 1967 سياسيا ولم تحاول استثماره لإيجاد نوع من تسوية مع محيطها، أما الفلسطينيون الذين عملت إسرائيل على نفي وجودهم بعد النكبة، فإن نتائج حرب 1967 أعادتهم إلى الوجود على شكل حركة تحرر في الخارج، وعلى شكل خطر ديموغرافي في الداخل أي في الأراضي المحتلة.
بعد مرحلة الحرب الباردة، ومنذ مطلع التسعينات، لم تستطع إسرائيل استيعاب المتغيرات والتطورات الحاصلة في العالم، بدءا من انهيار الاتحاد السوفييتي (السابق) وهيمنة الولايات المتحدة كقطب أوحد على النظام الدولي، مرورا بانطلاق مسارات “العولمة”، وصولا إلى إطلاق عملية التسوية في الشرق الأوسط من مؤتمر مدريد (أواخر العام 1991) ثم من اتفاق أوسلو (1993). فكما حصل إبان مرحلة الحرب الباردة فإن إسرائيل لم تعمل على الاستفادة من مرحلة القطب الأميركي الأوحد، ولم تحاول استغلال كل هذه التطورات لتطبيع وجودها في المنطقة وترسيخ شرعيتها فيها، عبر التوجه نحو نوع من المصالحة مع التاريخ والجغرافيا والبشر فيها، مستغلة الاحتضان الدولي لعملية التسوية، وضمان الولايات المتحدة لأمنها وتفوقها في المنطقة، وضمن ذلك تلقف مبادرة السلام العربية (بيروت 2001).
والواقع فإن إسرائيل بدءا من ذلك ازدادت غطرسة وتعنتا وعتوا بممارساتها الوحشية تجاه الفلسطينيين وبمحاولاتها فرض إملاءاتها عليهم، كما باستهتارها بمسارات التسوية والتطبيع مع العالم العربي، بل إنها باتت من أهم عوامل انهيار مشروع النظام الشرق أوسطي الذي حاولت الولايات المتحدة إقامته في المنطقة، في تلك الفترة، إبان عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
في هذه المرحلة أيضا يبدو أن الغرور والصلف يأخذان بإسرائيل، لا سيما وهي في ظل حكومة ليكود المتطرفة بزعامة بنيامين نتنياهو، توهما منها بأنها تستطيع استثمار الانهيار الدولتي والمجتمعي في بلدان المشرق العربي، وتركيز العرب جهودهم على درء الخطر الإيراني، لا سيما في إصرارها على ممانعة قيام دولة فلسطينية مستقلة، وعلى الاعتراف بها كدولة يهودية، ورفضها تقديم أي تنازلات سياسية للدول العربية مقابل التطبيع، أو مقابل ما يسمى السلام الاقتصادي المطروح حاليا.
باختصار حرب يونيو أدخلت إسرائيل إلى التاريخ وأخرجت النظام العربي منه، لكن إسرائيل لا تستطيع الاستمرار على هذا النحو، معاندة حقائق التاريخ والجغرافيا والبشر في منطقة وفي عصر، لا يمكن التكهن بما يخبئانه لها ولغيرها.
ماجد كيالي
صحيفة العرب اللندنية