يناقش هذا التحليل الأبعاد الإسرائيلية المستقبلية لمستقبل مدينة القدس، لاسيما بعيْد إرجاء الولايات المتحدة نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، وعقد الحكومة الإسرائيلية اجتماعها أخيرا قرب حائط البراق، وصدور تصريحاتٍ فلسطينية رسمية تفيد ضمنا بإمكانية حدوث تنازلاتٍ ما في موضوع القدس ضمن مفاوضات الحل النهائي.
تتزامن هذه الأحداث مع نشر نتائج استطلاعٍ للرأي، أظهر أن غالبية الإسرائيليين يفضلون استمرار سيطرتهم على القدس على التوصل إلى سلامٍ مع الفلسطينيين، وقال غالبية الجمهور الإسرائيلي، بمن فيهم أنصار اليسار، إنهم ليسوا مستعدين لقبول سيادة فلسطينية على القدس.
تقسيم المدينة
قبل استعراض المواقف الإسرائيلية أخيرا من مدينة القدس، وما أظهرته من غضبٍ من تراجع إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن وعوده الانتخابية بنقل سفارة بلادها إلى المدينة المحتلة، لا بد من الحديث عن السيمفونية الرسمية، الحكومية والدينية، حول ما يعرف بـ”حق الشعب اليهودي” في القدس، ونفي المطالب الفلسطينية فيها، وتعزيز ذلك بإيراد إحصائياتٍ ديموغرافيةٍ ومؤشراتٍ خطيرة من داخل المدينة، بجانب التأثيرات الأمنية المتوقعة في حال تقسيم القدس، وهي تحذيراتٌ صادرةٌ من داخل أوساط نافذة من الحكومة الإسرائيلية الحالية، بما فيها رئيس الوزراء ذاته.
تنطلق هذه المواقف من تفنيد الزعم الأساسي لبعض دعاة تقسيم المدينة إنه ينبع من ضرورة
الحاجة لإعادة التوازن الديموغرافي بين اليهود والعرب من سكانها، على أن يكون هذا التوازن لصالح السكان اليهود، من خلال ما يوصف في إسرائيل بـ”اقتلاع” التجمعات السكانية العربية من داخل حدود المدينة.
وقد أظهرت أوساط سياسية إسرائيلية، في الأشهر القليلة الماضية، حماساً ملحوظاً لضرورة الفصل بين التجمعات العربية واليهودية، كونه يبدو حاجةً ملحةً، ولا مفر منها، في سبيل وضع حد للتقلص الجاري للوضع السكاني اليهودي في المدينة.
وفي ضوء هذه المخاطر الكامنة في المدينة، على الصعيد الديني التاريخي للشعب اليهودي، تقترح هذه الأوساط التكيّف مع “المشكلة الديموغرافية” للقدس، من خلال معالجة أصلية أساسية للمشكلة، من خلال البحث في حلولٍ لظاهرة هجرة اليهود من القدس، ومحاولة التخلص منها، والقضاء عليها مستقبلاً. مع العلم أن مستقبل القدس يحتوي على مخاطر كبيرة، تجعل الإسرائيليين يخسرون نقاطاً كثيرة، وتعرّض الدولة لإشكاليات عديدة، أهمها أن بقاء الأحياء العربية، بما فيها الصغيرة، يعرّض سكان المدينة اليهود، خصوصا القاطنين على خط التماس على حدودها، لمخاطر أمنية صعبة ومحيطة بهم من كل جانب، أخطرها أن هؤلاء السكان اليهود سيكونون عرضةً لنيران الفلسطينيين.
كما أن المخاطر المتوقعة لتطبيق قرار تقسيم المدينة، قيام عشرات الآلاف من اليهود بهجرها، والرحيل عنها، كما حصل عقب حرب عام 1948، وتقسيم المدينة آنذاك، حيث غادر المدينة نحو 25 ألف يهودي، وهم ربع سكان المدينة اليهود تقريباً.
ويتوقع باحثون سياسيون إسرائيليون انتقال عشرات آلافٍ من سكان المدينة العرب إلى السكن في الجانب الإسرائيلي من حدود المدينة التي ستغدو “مقسّمة”، وهي إمكانية واقعية وقائمة، لاسيما أن بقاء الأحياء العربية في المدينة غدا يشكل “أمراً واقعاً”.
ويدفع هذا الواقع الجديد عشرات الآلاف من سكان المدينة الفلسطينيين إلى الانتقال والإقامة في الجانب الإسرائيلي من جدار الفصل العنصري، في ظل تراجع خيار تقسيم المدينة بصورة مقلصة، بفعل بنائه بشكلٍ يحيط بشمال المدينة.
تزامنا مع ذلك، هناك توقعات إسرائيلية بأنه على جانبي الفصل في القدس قد تحدث مكاسب اقتصادية وديموغرافية، لاسيما على صعيد تحلّل عرب شرقي القدس من الضرائب المختلفة التي تتم جبايتها بواسطة سلسلة من الأوامر القضائية الإسرائيلية، كما أن هذا التقسيم سيأتي بأضرار محدقة بما يسميه الإسرائيليون “الحق اليهودي” للإقامة في المدينة، وسيكون مسّاً خطيراً بما يسمونه “جذورها اليهودية”.
التهديد الديموغرافي
في سياق متصل، هناك مخاوف إسرائيلية من أن معدل المواليد المرتفع في أوساط العرب
المقدسيين يتساوى تقريباً مع معدل المواليد اليهود، ما يؤثر سلباً على الصورة الديموغرافية للمدينة، علماً أن ذلك ليس السبب الوحيد للتقلص الآخذ في التزايد بين الأوساط اليهودية.
وبالتالي، يتمثل العنصر الأساسي الذي يؤثر على تراجع نسبة السكان اليهود في المدينة المقدسة في نسبة الهجرة اليهودية المرتفعة منها، فالإحصائيات “المخيفة” تفيد بأن المعدل السنوي لهجرة اليهود منها تصل إلى 16 ألفاً، وخلال الـ20 سنة الماضية غادر القدس ما يقرب من 300 ألف يهودي.
ولمواجهة هذا “النزيف” اليهودي، يقترح الإسرائيليون جملةً من الخطوات، يمكن اتباعها لوقف معدل الهجرة هذا، بعد أن أوضحت الأبحاث واستطلاعات الرأي، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الأسباب الرئيسة لهذه الظاهرة تكمن في صعوبة العثور على فرص عمل مناسبة لليهود من جهة، والارتفاع الباهظ في إيجارات الشقق السكنية.
وهناك عشرات القرارات التي اتخذتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ولجان وزارية عديدة لشؤون القدس، وطواقم من الخبراء، واللجان المهنية المتخصصة لدراسة وضع المدينة، أوصت بوضع خطط مختلفة ومطالب عديدة لوقف ما أسمته “النزيف” اليهودي الحاصل في تزايد معدلات الهجرة اليهودية، والحفاظ على أكبر نسبةٍ ممكنة من سكانها اليهود للبقاء فيها.
وتلخص جزء من التوصيات التي قدمت للحكومات واللجان الوزارية في “ضخ” مزيد من الأموال، لتثبيت العائلات اليهودية التي تشكو من ارتفاع باهظ في إيجارات السكن، وتوفير أكبر قدرٍ ممكن من الأرباح المالية لسكان المدينة من اليهود.
وطالبت بوضع سلسلة من الخطوات أمام صانع القرار الإسرائيلي قابلة للتنفيذ، ومن شأن تطبيقها إحداث تغيير جوهريٍّ، ذي أثر ملموس على مسألة الهجرة اليهودية من المدينة، وصولاً إلى تغيير حقيقي في معدلات التفوق الديموغرافي التي تقف في صلب خطط تقسيم المدينة المقدسة.
ويتمثل جزءٌ أساسي من الخطوات المتوقعة بتوسيع حدود بلدية القدس، والتجمعات اليهودية المحيطة بها، وتعني ضم كل يهود المدينة، حتى لو كانوا خارج الإدارة المحلية للبلدية الحالية، مثل تجمعات معاليه أدوميم وجبعات زئيف وغيرهما، مع العلم أن المؤشرات الاقتصادية تشير إلى الفوارق الواضحة والكبيرة بين المرافق التحتية للمدينة في قسميها اليهودي والعربي.
اضطهاد غير اليهود
قطاع عريض من صناع القرار الإسرائيلي، وفي خضم الاعتداءات المتواصلة على المسجد الأقصى، خلال الأشهر القليلة الماضية، من الجماعات الدينية اليهودية، يظهرون “اعترافاً” إسرائيلياً بأن مدينة القدس مقدّسة في نظر الديانات السماوية الثلاث، وفي أنحائها توجد سلسلة من الأماكن المقدسة لليهود، المسلمين، والمسيحيين، وفي مركزها: المسجد الأقصى وحائط البراق وكنيسة القيامة.
لكنها، في الوقت نفسه، تتراجع عن هذا “الاعتراف” النظري، وتبدي تذرّعاً بالنكوص عنه، من خلال رفض أي محاولاتٍ سياسيةٍ لإمكانية تقسيم المدينة، في ظل وجود مخاوف من تراجع الحرية الدينية لرواد الأماكن المقدّسة، سواء للمسلمين والمسيحيين، وهو تخوّفٌ مردّه وجود مؤشراتٍ شهدتها السنوات الماضية، من خلال عدم قدرة أتباع الديانتين، الإسلامية والمسيحية، على ارتياد أماكنهم المقدسة.
الغريب أن إسرائيل تحاول، في تجنيد آلتها الإعلامية والفكرية، ترديد بعض الدعايات المشوهة لتبرير “احتكارها” الأماكن الدينية في القدس، لاسيما ما أشيع بشأن هجرة مسيحيين عديدين الأراضي الفلسطينية، وذهابهم إلى الخارج.
في المقابل، تكثر الآلة الدعائية الإسرائيلية من تسويق الأنباء المتفرّقة عن استهداف الأماكن المقدسة اليهودية، مثل قبر يوسف في مدينة نابلس، أو قبة راحيل في بيت لحم التي تعرّضت لحوادث إطلاق نار من الفلسطينيين، وهناك أماكن أخرى، مثل الكنيس القديم في أريحا، وقبر أفنير في الخليل، التي استخدمت أماكن للجوء المطلوبين إليها.
كما تزعم إسرائيل أنه، في حالات عديدة، نقلت فيها أجهزة الأمن الإسرائيلية المسؤولية الأمنية عن المسجد الأقصى لأجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، وقد باءت جميعها بالفشل، وتحولت ساحة الحرم إلى أحداث فوضى عارمة بين المصلين المسلمين واليهود في حائط البراق.
ولذلك، تحذّر الدراسات الإسرائيلية، الصادرة في هذا السياق، صنّاع القرار في تل أبيب من أن قرار تقسيم مدينة القدس، فيما لو تم، سيعيدها حتماً إلى ما كانت عليه قبل عقود طويلة، حيث عدم الاستقرار الأمني، والتراجع الاقتصادي.
المخاطر الأمنية
تعتمد الأوساط السياسية الإسرائيلية، لاسيما في الائتلاف اليميني الحاكم اليوم على أن خطوة
تقسيم مدينة القدس ستكشف مزيداً من التجمعات اليهودية فيها أمام عمليات المقاومة الفلسطينية، بعد أن شهدت الفترة الماضية عدداً من هذه الهجمات، في قلب المدينة وعلى حدودها.
وتعود المراكز البحثية الإسرائيلية، بغرضٍ تحريضي مكشوف، بذاكرة صناع القرار في الدولة، إلى أن القدس التي تقع في صلب الصراع الديني القومي تحولت، مع بداية سنوات العقد الماضي، إلى هدفٍ مركزي للهجمات التفجيرية، وحصدت ثمناً باهظاً من سكان المدينة اليهود، 210 قتلى وآلاف الجرحى، وإضراراً شديداً بمستوى المعيشة في المدينة.
كما تستشهد بجملةٍ من التحقيقات الأمنية والاستخبارية التي أكّدت مشاركة واسعة لعرب شرقي القدس في العمليات الفدائية خلال تلك السنوات. وبالتالي، تحتم المكافحة اللازمة لهذه المشاركة، العمل على الفصل بين الأحياء العربية في القدس ونظيرتها اليهودية، لأن هناك التصاقاً كبيراً بينها لايتتعدى، في مناطق كثيرة، عشرات ومئات من الأمتار فقط.
وبالتالي، باتت خطوة إبعاد هذه الأحياء بعضها عن بعض ضروريةً وملحة لأكثر من سبب، سواء من أجل إحباط تلك العمليات من جهة، ومن جهة أخرى لتسهيل مهمة جمع المعلومات الاستخبارية، وثبت ذلك من خلال حملات أمنية عديدة، قامت بها أجهزة الأمن في المدينة، كما تقول بذلك أوساط إسرائيلية.
وتؤكد أن التعامل مع المسألة الأمنية والمجموعات المسلحة في المدينة المقدسة لا يمكن من إخراج مسألة بحث موضوعها ومستقبلها إلى حيز الوجود، كما ينطبق ذلك على تعاملها مع مسألة الحروب، لأن الدفاع عن المدينة في حال اندلاع حروب مع جيوشٍ نظاميةٍ يحتم على إسرائيل سيطرة مطلقة من جيشها على تخوم المدينة أكثر من السيطرة الحالية.
أخيراً.. ما يحدث في مدينة القدس، وما قد يحدث في مقبل الأيام، كما هو متوقع، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمرجعيات الفكرية والسياسية للحكومة الإسرائيلية الحالية، وليس استجابةً فقط لتوجهات بعض الأطراف فيها، أو خضوعاً لضغوط المنظمات الدينية، ما قد يجعل ما تبقى من عمر هذه الحكومة حتى نهايتها، سنين حبلى بكثير من المخاطر التي تهدّد المدينة ومستقبلها على مختلف الأصعدة، سياسياً واقتصادياً ودينياً.
عدنان أبو عامر
صحيفة العربي الجديد