لزهاء قرن كامل، اعترضت الطموحات القومية الكردية اعتبارات سياسية فوقية أثارتها قوى فاعلة متعددة، في المنطقة والعالم. فبقيت الهوية الكردية ممنوعة أو مهمشة، أو حتى مطعون بها، فيما طرحت هويات قومية جامعة قسرية، عربية وإيرانية وتركية، كبدائل مدعومة.
وفي المنطقة المغاربية، لم يكن المسعى الأمازيغي في النصف الثاني من القرن الماضي داعياً للسيادة السياسية. إلا أن الثقافة الأمازيغية عانت من التضييق والإنكار ومحاولات الدمج بالمجموع القومي العربي المتشكل، ما يوازي التجربة الكردية في المشرق.
واليوم، مع بروز الخطاب القومي في الوسطين الكردي والأمازيغي، يبدو وكأن التاريخ مقدمُ على قدر من التصحيح. فلا بد هنا من بعض الاعتبارات التنبيهية.
كان يراد للقومية العربية أن تكون سردية كبرى معادية للاستعمار وداعية لاستنهاض أهل البلاد تحقيقاً لعزّتهم، من خلال التأكيد على ما يجمع الشعوب الناطقة بلغة الضاد ويميزها عن غيرها. غير أن أية من الصيغ المختلفة للقومية العربية لم تنجح في تحديد مقنع وواضح لما هو مشترك بين هذه الشعوب. بل بعد عدد من المحاولات العقائدية والسياسية المتوالية، تراجعت القومية العربية لتمسي خطاب سلطة تشهره الدول التي تفتقد الديمومة في مشروعيتها، مع العودة إلى القضية الفلسطينية كحجة جوّالة لتبربر الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة من الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية.
ومع اجتياح صدام حسين للكويت عام ١٩٩٠، تلاشى ما تبقى من مصداقية مشروع القومية العربية السياسي، وهو المتراجع لتوّه آنذاك. بل يلاحظ أن القومية العربية لم تعد ترد كالقوة المحركة لأي نشاط سياسي منذ ذلك الفصل.
وتتقاطع مسارات القوميات العربية والكردية والأمازيغية في عقد التسعينات من القرن الماضي تحديداً، وإن كان مسار القومية العربية حينئذ إلى تراجع فيما القوميتان الكردية والأمازيغية تتقدمان باتجاه التأكيد الذاتي. ولكن، بدلاً من اعتماد مقاربات جديدة، يبدو أن كل من هاتين القوميتين الناشئتين قد استحوزت على ملامح ملتبسة مستقاة من سابقتهما، ما يؤسس لتجاذبات وصراعات مستقبلية.
فالقومية العربية قد أفرطت في رسمها لحدود وطنها. وتعدّت هذه الحدود الأقطار التي رسا الاعتبار على كونها أجزاءاً من الوطن الكبير. ففي التصور الأقصى لهذا الوطن الكبير كان امتداده من خليج فارس (والذي أعبدت تسميته «الخليج العربي»)، بما في ذلك ضفافه الإيرانية، إلى المحيط الأطلسي، مع إضافة الأجزاء من الصحراء الكبرى غير التابعة للأقطار المعنية، وصولاً إلى منطقة الساحل عند جنوبها. واليوم تكرر القومية الكردية الرؤية التوسيعية. فالخارطة التي تعتلي الصفوف المدرسية في أربيل والسليمانية ليست خارطة إقليم كردستان العراق، بل هي خارطة وطن تصوري كبير يبتدئ عن ضفاف الخليج ويشمل هلالاً متعاظماً من الأراضي يبلغ البحر الأبيض المتوسط بعد ضمّ أجزاء كبيرة من إيران وتركيا وسوريا، بالإضافة إلى كردستان العراق. وكذلك حال التصورات القومية الأمازيغية في أشكالها القصوى، حيث الوطن الأمازيغي يجمع الدول المغاربية بكاملها ويتجاوزها إلى واحة سيوة في مصر شرقاً وبلاد التوارگ على مدى الساحل جنوباً وصولاً إلى الجزر الخالدات (الكناري الإسپانية) غرباً. والخيال الجغرافي القومي في جميع هذه الحالات مبني على أحقية حصرية للجماعة القومية المفترضة تتجاهل الوقائع المركبة وتسقط المزاعم المنافسة. ولكن الخيال الجغرافي القومي ليس مجرد مناجاة عاطفية، بل هو يشكل تحديات جوهرية لمفهوم الدولة الوطنية.
وبالإضافة إلى المنحى التوسيعي في رسم الحدود، فإن السرديات القومية العربية ثم الكردية والأمازيغية تعمد إلى تسطيح افتراضي حول الوحدة الثقافية وإلى إلزام المجتمعات المعنية بالهوية الجامعة. وفي الحالة العربية، عند أقصاها، القاعدة غير المعلنة كانت أن العروبة هي الأساس لدى أي قئة سكانية ضمن الأقطار المعتبرة عربية، إذا كانت هذه الفئة إما تعتمد لهجة عربية كلغة أم أو يغلب عليها الدين الإسلامي باعتباره وسيط تعريبي. فالهوية العربية تقع إذن على المصريين الأقباط، وهم من الناطقين بالعربية من غير المسلمين، كما على عموم الأكراد، لطابعهم الإسلامي، بمن فيهم من اليزيديين (بعد أن جرى تصنيغهم تعسفياً أمويين). أما الأرمن مثلاً، حين يختلفون في اللغة والدين، فقد جاز لهم عدم الاتصاف بالعروبة. واليوم فإن الهوية الكردية تمتد بشكل مشابه، من اليزيديين، متجاوزة خصوصيتهم الثقافية، إلى فئات قد تكون هذه الهوية لديها غير راسخة أو حتى غير محبّذة، مثل الشبك والظاظا وأهل الحق. وكذلك الحال أمازيغياً، حيث يطلق مسّمى الأمازيغ على فئات ومجتمعات متباينة من حيث التجربة التاريخية ونمط المعيشة. وتلقي المسّمى يختلف وفق اعتبار العلاقة بين الجماعات كما على أساس التباين الريفي المديني ولكنه لا ينفي الإلزام. فامتناع التوارگ عن الانضواء التلقائي في إطار الهوية الأمازيغية الواحدة مثلاً ينسب إلى غياب مفترض للوعي القومي قابل من وجهة النظر القومية إلى التصحيح.
والبحث في إطار القومية الأمازيغية عن جوهر الهوية لا يتوقف عند البعد اللغوي. فالقراءة هنا هي أن المنطقة المغاربية مثلثة في انتماءات أهلها، إذ هم إما أمازيغ ناطقون بالأمازيغية، أو أمازيغ معرّبون ناطقون بالعربية، أو عرب «عاربة». وبما أن هذه القراءة تعتبر أن الفئة الثانية هي الأوسع عدداً، فالأمازيغ كمجموعة مفترضة هم بالتالي الغالبية العظمى. بل الهوية الأمازيغية لأهل البلاد هي بالتالي كينونة (être، في الفرنسية المستعملة لهذا التصوّر)، فيما العربية هي كسب (avoir). فالمنطقة المغاربية هي بالتالي أمازيغية في الأصل، أما المادة العربية، على أهميتها، فهي طارئة، بل هي وحسب إحدى مواد عدة طارئة (مع الأفريقية والأندلسية واليهودية). وهذه الرؤية القومية قد وجدت سبيلها إلى ديباجة الدستور الجديد للمملكة المغربية. وهي إذ قد تعكس حال الفكر القومي الأمازيغي في تحديدها للطارئ والأصيل، فإنها من حيث تدري أو لا تدري، تستعيد الأدوات التشكيلية للقومية العربية في هذا الموضوع، قي التبسيط والاختزال والخطّية التي تلقيها على التاريخ المغاربي.
والسرديات القومية الكبرى تقرر وطناً واحداً، وأمة واحدة، ثم لغة واحدة. في الحال العربية، سبقت اللغة العربية الفصيحة المعاصرة القومية العربية في الظهور، ويمكن بالفعل تصنيفها على أنها حالة نجاح لغوية. فابتداؤها كان في القرن التاسع عشر، يوم اقتصرت على نخبة قليلة في مجتمعات تسودها لهجات متشعبة هي في واقع الأمر لغات متباعدة، فإذ هي بعد قرن ونيّف قد استقرت في الثقافة الواسعة والمجتمعات في مناطق انتشارها، وشكلت عالماً لغوياً متواصلاً، بل أسست لمقادير من التقارب بين اللهجات التي تعتليها. هو إنجاز تاريخي دون شك، يعود الفضل فيه إلى مكانة اللغة العربية الفصحى واستعمالها الشعائري في صميم الدين الإسلامي. إلا أن هذا النجاح قد أسس كذلك لوهم الأصل المشترك للغات المجتمعات العربية ودعوة العودة إلى هذا الأصل، ما اعترض التعبير الحر باللغات المحكية وساهم في تعميق الشحة في الانتاج المعرفي في المنطقة.
ليس لدى أي من المشروعين القوميين الكردي والأمازيغي ما يقابل العربية الفصحى، لا كمرجعية معنوية ولا كمخزون لغوي أو رصيد أدبي، كي يتم بناء لغة معيارية مشتركة عليه. ورغم ذلك فإن كل منهما ينشط في تجربة صياغة لغوية كبرى، وإن انضوت على قدر مشهود من الإبداع، فإنها تعتمد في نهاية المطاف السلطوية اللغوية. فالسعي إلى المعيارية وإلى «التفصيح» يستنزف الثروات اللغوية للهجات والصيغ المحكية بقدر ابتعادها عن الصيغة التأحيدية المنشودة. ويشهد المغرب مغامرة لغوية إضافية إذ يجري اعتماد حروف التيفيناغ، وهي سابقاً ذات الاستعمال المحدود لأغراض غير أدبية لدى التوارگ، على أنها الأبجدية لثلاث صيغ معيارية من الأمازيغية. واعتماد اللغة الأم من شأنه تحسين التجربة التعليمية للتلاميذ. أما التلاميذ في المغرب، فيوجهون، من أجل الاعتزاز القومي، إلى تخصيص قدر هام من مواردهم في تجربة تعليمية لا يمكن الفصل لا في ديمومتها ولا في تواصل تجانسها. وفي ليبيا كما في الجزائر، وحتى تونس، ثمة اهتمام لتكرار التجربة المغربية في تعليم اللغة الأمازيغية وخطها، لاعتبارات قومية أكثر منها تعليمية.
وقد يكون المثال القدوة هنا تجربة اللغة الغالية في بريطانيا، والتي شهدت إحياءاً ناجحاً إلى حد ما. غير أن الغالية، والتي تستعمل في مجتمع يستعمل الإنكليزية، لم تطرح لا على أساس الحصرية المسقطة للإنكليزية ولا على أساس الندية معها. أما في كردستان العراق، فإن التوجه الصريح على مدى العقدين الماضيين ويزيد كان اجتثاث اللغة العربية من التعليم واستبدالها باللغة الكردية، وهو بالفعل ما تحقق. بل يمكن الإشارة إلى نتاج إيجابي محلي كحصيلة لهذا المجهود، مع بروز ساحة فكرية وأدبية نشطة. على أن ذلك يقتصر فعلياً على اللهجة السورانية المحلية، ويشكل بالتالي مادة تنافس اللغة الكردية الموحدة العتيدة. هذا فيما ترسّخ نتيجة هذه الجهود فصل قطعي على مستوى اللغة بين الجيل الجديد في إقليم كردستان العراق وسائر العراقيين. وقد أمسى اليوم على العراقيين اللجوء إلى اللغة الإنكليزية للتواصل بين الناطقين بالعربية والناطقين بالكردية. والتوجهات في المغرب تقوم بدورها على افتراض ندّية غير واقعية بين اللغتين الأمازيغية والعربية، ما يحقق على أرض الواقع انفصال عن اللغة العربية للناطقين باللهجات الأمازيغية، أكثر من أن يدفع باتجاه اعتناق الصياغات الجديدة للغة الأمازيغية. بل في كل من الحالتين الكردية والأمازيغية، فإن المستفيد هي اللغات الثالثة، أي الإنكليزية في الحالة الكردية والفرنسية في الحالة الأمازيغية، وإن بمستوى كفاءة دون الكمال. والواقع أن جهود التعريب في المنطقة المغاربية يوم كان الغالب هو الطرح القومي العربي، كانت قد ضاعفت من الخلل في تحصيل المعرفة وإنتاجها. فبدلاً من تصحيح الإشكالية المترتبة عن ذلك، يبدو أن المنحى الغالب على القومية الأمازيغية يضاعف الإشكالية وحسب.
والسرديات القومية الكبرى تكاد أن تكون مشغولة بـ «الآخر» بقدر ما هي معنية بـ «الذات». و «الآخر» في الحالة العربية ابتدأ تركياً ثم استحال غربياً مستعمراً قبل أن يستقر يهودياً، وإن بغشاء يصفه بالصهيونية. والانشغال بهذا «الآخر» يبقى حاضراً حتى بعد غياب القومية المنشئة له، ويبقى كذلك مستنزفاً مستهلكاً للثقافة. واليوم سقط غشاء الصهيونية عن تحديد الآخر، ليمسي يهودياً صراحة، مع إضافة عناصر صورية شتى من الموروث الأوروپي الطاعن باليهود. أما «الآخر» في السردية القومية الأمازيغية فهو دون شك العربي. وقد جرت مراجعة تاريخ المنطقة المغاربية لتعدو أفعال متواصلة من المقاومة إزاء هذا الآخر، من شذرات أخبار الكاهنة التي تصدت للفتح العربي الإسلامي في القرن السابع وصولاً إلى الزمن الحاضر، مع إيلاء مكانة خاصة لتغريبة بني هلال في القرن الحادي عشر، على أنها عامل تدمير. وهذه المراجعات تسترجع التصور الأوروپي خلال القرن التاسع عشر لطبيعة التاريخ ودور القوميات فيه، وقد جرى إسقاطها على المنطقة المغاربية لتختفي حدة التناحر المعتاد بين القبائل ويعلو صوت المواجهة بين العرب والبربر ككمين جماعيين. وكذلك الحال في السياق القومي الكردي، حيث تستدعى أحياناً التصنيفات البائدة والتي سادت في أوروپا في القرن التاسع عشر، بين شعوب سامية وأخرى آرية لتعزيز مقولة استحالة الانسجام.
والسرديات القومية كذلك، إذ تتفاعل مع «الآخر» ككم أحادي، تعتمد الشخصنة للجماعات فتتسم هذه بالتالي بمسؤولية مشتركة، ما يؤسس لتبرير التجاوزات والسماح بها تحت مسمّى العدالة التاريخية. وبطبيعة الأحوال، فإن المظالم لا تنتفي عند إساءة استدعائها. غير أن الموازنة بين تحقيق العدالة للمظلوم وإن تقادم الظلم الذي طاله، دون إسقاط صفة الظالم على غير مرتكب الفعل، أمر على قدر مرتفع من الصعوبة. والإنصاف يقتضي هنا الإشادة بالوسط الثقافي الكردي العراقي والذي نجح في تجنب الإفراط المترتب عن إسقاط صفة «الآخر» على «العربي» جماعياً.
فالدولة العراقية في عهد صدام كانت قد ارتكبت جرائم ضد الإنسانية تنحدر إلى مستوى الإبادة الجماعية السافرة بحق الوسط العراقي الكردي، وذلك بغطاء قومي عربي مزعوم. واقع الحال هو أن كردستان العراق كانت أرضاً مستعمرة، تشهد توطين ممنهج لعراقيين عرب سعياً إلى تبديل التوزيع السكاني، وتحفل بالتمييز الإقصائي للأكراد من المؤسسات التعليمية ومن الوظائف الإدارية، وصولاً إلى تدمير آلاف القرى والبلدات، وحشد أهاليها في «المدن العصرية»، وهي جهاراً سجون محصنة، ثم الشروع بـ «عمليات الأنفال البطولية» الهادفة إلى الانتهاء من المسألة الكردية من خلال إنهاء وجود المواطنين الأكراد. ورغم هذه الجرائم، فإن الثقافة الكردية العراقية في معظمها قد تجنبت شيطنة العرب. إلا أن انتقال هذا النجاح إلى خارج الإطار الكردي العراقي ليس أمراً مضموناً. بل قد صدحت أصوات في صفوف الناشطين السوريين الأكراد تفسّر وتبرّر ما يصيب بعض السوريين العرب من مظالم على أنه عدالة الأقدار، إن لم يكن عدالة البشر، لما تعرّض له أكراد العراق.
فالسرديات القومية الأمازيغية والكردية قد تكون جواباً على الغلو القومي العربي (وغير العربي في الحالة الكردية). أو قد تكون وسائل غير مباشرة للتصدي للتوجهات الإسلامية القطعية والجهادية، مع تقديم «العروبة» كخصم أقل إشكالية بالنسبة للمجتمعات الكردية والأمازيغية المسلمة والمحافظة. وبغضّ النظر عن الدوافع، فإن الواقع هو أن هذه السرديات القومية تضخ الشعور بالعزة في أوساط مجتمعاتها. وهي إذ تشكل موجة ثانية من الطروحات القومية في الشرق الأوسط والشمال الأفريقي، فإن تحققها الإيجابي في المرحلة المقبلة يتطلب قراءة دقيقة لمواطن الإفراط والتفريط، وما تتسبب به من عدوى، لدى قوميات الموجة الأولى، العربية، كما الإيرانية والتركية واليهودية.
حسن منينمة
معهد واشنطن