يمكن اعتبار معركة تكريت التي بدأت في 10/3/2015، حدا فاصلا لما قبلها من العمليات العسكرية التي شهدها العراق منذ سيطرة “داعش” على اجزاء كبيرة من البلاد في 9 حزيران/ يونيو2014 ، إذ تحركت قوات الحشد الشعبي، تحت اشراف إيراني، للسيطرة على المدينة التي تقع على مسافة 160 كم شمال غربي بغداد.
وصرح خلال المعارك، مستشار الرئيس الإيراني للشؤون الدينية والأقليات، علي يونسي، بأن إيران إمبراطورية عاصمتها بغداد، معتبرا ان: “جغرافية إيران والعراق غير قابلة للتجزئة وثقافتنا غير قابلة للتفكيك، لذا علينا أن نقاتل معا أو نتحد”. بيد أنّ ما يجري على ارض الواقع يكشف عن عدد من المتغيرات، ومن اهمها:-
أوّلاً، أظهر أداء الحكومة العراقية خلال المرحلة الفائتة مراوغة للقيام باصلاحات كبيرة في منظومة البلاد الامنية والسياسية والدستورية والقضائية والنفطية تحت ذرائع غياب الامن وعدم الاستقرار، إذ واصلت الحكومة سردها حول التوازن، دون اثباته وتفعيل آلياته.
ثانياً، تأكدت شرعية ما يسمى بالحشد الشعبي- المكون من ميليشيات شيعية تلقى دعماً إيرانياً- على المستويات الداخلية والخارجية. رغم ما تعرض له من انتقادات شديدة، بسبب طبيعته الطائفية، وممارساته التي اتسمت بالوحشية والاستئصال حيال من اتهموا بدعم “داعش”. بل ان دوره العسكري يؤشر الى مرحلة مقبلة ستعزز فيها قدراته السياسية، ليكون رأس الحربة في طبقة سياسية جديدة، تتماهى بالكامل مع التوجهات والمصالح الايرانية.
ثالثاً، اعلنت إيران بشكل واضح عن انخراطها في مقاتلة “داعش” بالعراق، وانها هي التي نظمت الميليشيات الشيعية، واشرفت في آب/اغسطس الماضي على كسر الحصار عن مدينة آمرلي الذي استمر طويلا، وكانت “قوة القدس” الايرانية حاضرة ايضا للدعم في معارك تشرين الثاني/ نوفمبر لتحرير وسط مدينة بيجي، وكسر الحصار المفروض على مصفاة النفط القريبة.
رابعاً، ان القبول الامريكي عن الدور الايراني في الحرب ضد “داعش”، اعرب عنه الجنرال مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة عند مثوله أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، معتبراً أن اشتراك الشيعة المدعومين من إيران في تكريت يمكن أن يكون “امرا ايجابيا” شريطة ألا يزيد التوتر الطائفي. وكانت احداث ما بعد الموصل قد مكنت إيران من تقوية حصيلتها في العراق، وترسيخ نفوذها في هذا البلد، لتكون مقاتلة التنظيم سبباً رئيساً في الاستحكام شبة الكامل على التوجهات السياسية العراقية.
التداعيات
ثمة مشكلة أساسية تؤشر الى افتقار السنّة لقيادات كارزمية تعبر عن مصالح هذا المكون، حيث تم تهميشهم ليكونوا على مشارب شتى، بما في ذلك افتقارهم الى استراتيجية جامعة واضحة المعالم تعبر عن مصالحهم، فضلا عن ما اوقعه المال السياسي الذي استخدمته حكومة المالكي السابقة في اغراء من كان معارضا منهم، وحمله على تأييد سياساتها، في معادلة القبول امام المزايا. وفيما يتحمّل ساستهم جزءاً من المسؤولية عن هذا التشرذم، تُعزى الانقسامات في صفوفهم إلى أفعال الداعمين الخارجين.
وبعبارة اخرى فان مشهد الانقسام السني لا يحول دون ابداء الانتقاد الخجول من قبل الساسة والبرلمانيين السنّة للممارسات الطائفية التي يقوم بها الحشد الشعبي في محافظاتهم، وما هي الا تعبير عن محدودية في الممارسة السياسية والتي اريد لهم ان لا يتجاوزوها، بينما يميل اغلبهم الى السكوت خشية فقدان امتيازاتهم، فيما لو تجرأوا على الرفض او التصعيد.
ومن هنا ففي مرحلة ما بعد معركة تكريت، لا يمكن لأي حضور سياسي سني ان يكون ذا بال، في غضون المناخ الطائفي الذي اضحى يشتد على نحو كبير، ويمنح المزيد من النفوذ لقيادات عسكرية ميلشياوية، اسهمت في معارك طرد “داعش”، جراء تزايد عدم الثقة الناجم اعتبار السنّة في مجملهم يدعمون “داعش”. فالنظام لم يَعًد واثقاً لا بساسته السنّة او مواطنيه من هذا المكون.
وينظر الى المواقف العربية حيال ما يحدث في العراق بانها غير فعالة وخاثرة، وبدا أن انشغالات العرب انصبت على محاولة اطفاء الحرائق هنا وهناك، وترميم ما يمكن دون ايجاد حلول حقيقية، اثر احداث ما يسمى بـ” الربيع العربي” التي شكلت ضاغطاً سياسياً وامنياً واقتصادياً، لتتجلى مصلحتهم الراهنة في موكب مكافحة الارهاب، بل ان امتدادا ايرانياً سيجعل الدول العربية المحاددة للعراق، ليست بعيدة عن طموحات طهران الامبراطورية.
يكمل ما تقدم تمسك السياسة الأميركية بالنأي عن التدخّل عبر قوات برية، الأمر الذي فتح المجال أمام الجهات الإقليمية الفاعلة لتؤدّي دوراً أكثر بروزاً في الشرق الأوسط، ممثلاً بإيران واذرعها الحركية الاخرى، وهذا من شأنه ان يسهم في تقليص الدور الامريكي في العراق، ليشهد فيما بعد خمولا واندثارا، في ظل تصاعد التأثيرات الايرانية في توجيه السياسة العراقية.
ويلاحظ المتتبع للسياسة الايرانية ان طهران ترغب في تحقيق مكاسب على الارض، قبيل حسم ملفها النووي، بما يمكنها من تقوية نفوذها في المنطقة، لتكون الفاعل الاقليمي الرئيس، لذا تنوعت تحركاتها خلال الاشهر الست الماضية، لتشمل اكبر مساحة ممكنة، تحقق بها امتدادا عبر جماعات متعاونة معها.
بيد ان ما تقدم لا يختلف مع اراء لمحللين يعتبرون ان الاعلان عن المشاركة العسكرية الايرانية في معركة تكريت، انما هو توقيت مناسب اريد به تأكيد التماهي بين الطرفين العراقي والايراني، في ظل اوضاع عربية محتدمة، وعاجزة عن تحجيم التمدد الايراني كان اخره في اليمن.
ويرى لاندون شرودر وهو محلل استخباراتي للشركات في العراق وكان ببغداد في الصيف الماضي عندما سقطت الموصل، أن إيران لن تكسب نفوذا في العراق لأن هذا يتجاهل حقيقة أن الحكومة الايرانية هي بالفعل حليف العراق الرئيس. وقال “في هذه المرحلة، يجب على جميع من يلاحظ ما حدث في العراق بسبب داعش ان يعلم أن المؤثر الرئيس في العراق هو إيران، وهذه حقيقة لا تحظى بشعبية في الولايات المتحدة، بعد كل ما ضحت به من المال والأرواح في الصراع، ولكن هذا الواقع”.
وتتفوق إيران على التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة كونها تسيطر على كل شيء؛ فلديها الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية، والأهم من ذلك، يوجد جنودها على الأرض ولقوات “الحرس الثوري” صلات بقادة الحشد الشعبي، ويمثل العراق بالنسبة لها بوابة ارضية مهمة، تربطهم بدول الخليج العربي، وفوق هذا وذاك فان الحفاظ على حكومة شيعية في بغداد، يعد هدفاً استراتيجياً لن تحيد عنه، إذ تغلف المصالح القومية الايرانية، بالاعتبارات المذهبية، ليجري الترويج عن إيران مرجعية روحية وحامي للشيعة في العالم اينما كانوا.
إيران وميليشيات الحشد الشعبي..تخادم وتوافق
وعلى الارجح فان معارك تكريت، ستشهد تصعيداً طائفياً يستشف من تصريحات بعض قادة الحشد الشعبي، الذين اكدوا انها تأتي انتقاما لمجزرة قاعدة سبايكر العسكرية الواقعة شمال المدينة، ودعا ممثل المرجعية الشيعية في كربلاء عبد المهدي الكربلائي، الحكومة لدعم العشائر السنية التي تقاتل التنظيم في محافظة الأنبار، وهي دعوات تؤكد الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة الوطنية العراقية وعدم الانجرار وراء الدعوات الطائفية التي يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى إسقاط الدولة العراقية في آتون الحرب الطائفية.
ويشير مراقبون إلى أن اتهامات وجهت للفصائل الشيعية بارتكاب سلوكات طائفية مع سكان المناطق المحررة من تنظيم الدولة مثل حرق البيوت والمساجد والتهجير، اضافة إلى سرقاتها.
وكان وزير الدفاع خالد العبيدي قد صرح عقب طرد القوات الحكومية “لداعش” من محافظة ديالى، :”ان تصرفات بعض عناصر الحشد الشعبي والميليشيات، اضاعت فرحة تحرير ديالى من داعش”، في إشارة إلى عمليات تهجير وقتل وتخريب دور ومساجد هناك قامت بها بعض العناصر الحشد الشعبي.
ولعل احتلال “داعش” لاراض في محافظات ذات اغلبية سنية، ينظر لها من باب تقوية المكانة الايرانية في العراق، لما اتبعه من جمع الميليشيات الشيعية التي عرفت بممارساتها الطائفية وجرى توثيق ما قامت به من جرائم وانتهاكات، ليصار الى تشكيل اطار عسكري يستوعب، هذه الفصائل ويضفي عليها طابعاً رسمياً.
ولإيران ممثلةً بـ”قوة القدس” التي يقودها قاسم سليماني، دور مركزي في تدريب فصائل الحشد، ومدها بالسلاح والتخطيط للمعارك التي تخوضها، حيث يوجد مع كل فصيل من الحشد، مستشار عسكري إيراني، بالإضافة إلى مستشار عسكري من “حزب الله” اللبناني. كما يتولى الإيرانيون التنسيق بين الفصائل المختلفة في ساحات القتال، ويساعدهم في ذلك أن أغلبية قادة فصائل الحشد يقلدون السيد علي الخامنئي، مع أن العناصر يقلّدون السيد السيستاني.
والإيرانيون يقدمون للمقاتلين دعماً نارياً بالسلاح الثقيل عبر قوات متخصصة من الحرس الثوري تنتشر على الأراضي العراقية ويقدّر عددها بالمئات، وقد برز الدور الإيراني بوضوح في معارك سليمان بك حين أغارت الطائرات الإيرانية على المنطقة القريبة من حدودها مع العراق بكثافة، في رسالة واضحة لداعش بعدم الاقتراب من الحدود الإيرانية. وحصل الأمر نفسه في معارك جرف الصخر التي قادها الجنرال قاسم سليماني، وكذلك في حملة الدفاع عن منطقة سامراء.
وكانت منظمة العفو الدولية اتهمت الحشد الشعبي بقتل عشرات المدنيين السنة في “إعدامات عشوائية”، وأضافت ان ممارسات ميليشياته تصل إلى مستوى “جرائم الحرب”. كما تتهم جماعات سياسية سنية الحشدَ بالتنكيل الطائفي بالسنّة، وبالعمل على إحداث تغيير ديموغرافي عبر التهجير القسري للعائلات السنية من بعض المناطق السنية المحررة، وهدم دور عبادة سنية. واتهم الحشد بقتل مصلين سنة في جوامعهم وبتنفيذ اغتيالات منظمة لأئمة مساجد، وبالمسؤولية عن مجزرة بروانة، في محافظة ديالى، التي ذهب ضحيتها أكثر من 90 شخصاً.
وبحسب المصالح الايرانية فان الخطوات التي اتبعتها طهران في فترات سابقة، لجهة تعزيز مكانتها في العراق، لم يعلن عنها، خشية المخاطرة في تأجيج صراع طائفي يدفع البلاد الى التقسيم، وهو ما تريد تجنبه.
ومع تمدد “داعش” في حزيران/ يونيو 2015، لم يعد التورط بصراع طائفي، يقلق إيران، بقدر سعيها لاحتواء “داعش” ومنع تشكل اقاليم ذات اغلبية سنية قد تتحرر بعض الشيء من قبضتها المحكمة، حيث أظهرت الأشهر القليلة الماضية أن طهران تستطيع التكيف وتعديل إستراتيجياتها لتستجيب بفعالية للتهديدات المختلفة، ولهذا فانها لن تسمح باي تدخل بري في العراق، ما يؤمن نفوذها الإيراني، ساعدها على ذلك وقع الضربات الجوية للتحالف الدولي، الذي لم يعد قادرًا على تجاهل طهران في حربه ضد “داعش”.
ومع استعداد إيران لتوسيع نطاق العمليات العسكرية، ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” فانها راغبة في القيام بدور اقليمي، لأسباب مختلفة تتعلق بكسب النفوذ والغلبة الاستراتيجية، حتى وان تطلب ذلك تعميق الحرب الطائفية في العراق وسوريا. وليس بمقدور اي حكومة نزع سلاح وحلّ الميليشيات المحلية، وفرض السلام سيتطلب موارد أكبر بكثير مما يملك العراق.
وتتجلى الأزمة اليوم بخضوع الجيش العراقي لإمرة قاسم سليماني، ما جعله يظهر بصورة جيش فئوي طائفي يقبل أن يسيره الإيرانيون، وهو امر لا يتعلق بتكريس النفوذ الإيراني الإقليمي فحسب، بل يمتد الى ثلب الوطنية العراقية.
ويرجح المراقبون ان تتجه بوصلة المصالح الايرانية بعد طرد “داعش”، نحو بعض جيران العراق، أو ضد العرب السنة في البلاد، وعندها لا بد من طرح تساؤل عن مدى ادراك الولايات المتحدة جسامة ترك المدن السنية للمليشيات الشيعية وبالتالي لإيران على مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة؟ وهل سيتكرر مشهد التراجع الامريكي في مقابل التقدم الايراني في المعادلة العراقية، على الارجح فان امرا كهذا محتمل الوقوع.
د.هدى النعيمي