منذ سقوط حلب، نقل «حزب الله» بشكل استراتيجي معظم قواته في سوريا إلى أنحاء أخرى من البلاد، وجاء ذلك إلى حد كبير لإضفاء الشرعية على وجوده المحلي، وتعزيز قوته هناك، وتحسين أمن الحدود الجنوبية. وبالتزامن مع تحركات الميليشيات الشيعية من إيران وأفغانستان والعراق، تركزت أحدث عمليات الحزب اللبناني على ثلاثة مناطق رئيسية هي: التنف وتدمر ودرعا. وعلى الرغم من أن هذه المواقع بعيدة عن بعضها البعض من الناحية الجغرافية، إلّا أنها ضرورية من الناحية الاستراتيجية للرؤية الواضحة لنظام الأسد إلى مستقبل سوريا. وتمثل إعادة نشر عناصر «حزب الله» أيضاً تحولاً تكتيكياً نحو منطقة البادية وجنوب سوريا عموماً – في محاولة شبه مؤكدة لعرقلة الخطط الأمريكية الرامية إلى الحد من التصعيد في المنطقة وإجبار واشنطن على قبول وجود إيراني على طول الحدود السورية -العراقية.
أهمية التنف والزكف
خلال الأسابيع القليلة الماضية، كان معبر التنف الحدودي مسرحاً لتصاعد المواجهة بين القوات الأمريكية والقوات الموالية للأسد. والآن وبعد أن تردد أن الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في سوريا قد وصلت إلى الحدود مع العراق، ينتظر الفريقان ردّ فعل واشنطن. وبما أن هذه الميليشيات طوّقت بشكل أساسي القوات المدعومة من الولايات المتحدة في الزكف والتنف، عجز المتمردون المحليون – لا سيما المنتمين إلى «جيش مغاوير الثورة» – عن إشراك تنظيم «الدولة الإسلامية» والسيطرة على دير الزور وأبو كمال، علماً بأنهما مَرْكزان إستراتيجيان رئيسيان تابعان للجماعة الجهادية على طول نهر الفرات. وبالتالي، أصبحت المبادرة بيد «حزب الله» والميليشيات الشيعية الأخرى في سوريا.
ومن ناحية أخرى، فإن الميليشيات الشيعية في العراق – بقيادة قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» التابعة لـ «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني – تقترب من الحدود، في محاولة للانضمام إلى القوات الموالية للأسد. وقد أعلنت مراراً وتكراراً أنها تعتزم عبور الحدود بهدف “دعم المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية».
ونشر «حزب الله» أيضاً آلاف المقاتلين في ريف تدمر شرق حمص، حيث يقال أنه استحوذ على مناطق استراتيجية قرب بلدتي السخنة وآراك على طول الطريق السريع المؤدي إلى دير الزور، التي تختزن عدداً كبيراً من حقول الغاز والنفط. وبالإضافة إلى الحدّ من قدرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على الوصول إلى الموارد الهيدروكربونية وإعادتها إلى النظام، فإن السيطرة على السخنة ستسمح للمليشيات الشيعية الإيرانية بالتقدّم نحو دير الزور من منطقة تدمر والتنف على السواء.
ومن الناحية الاستراتيجية الأكثر شمولية، إن هذه التطورات قد تسمح لإيران بربط وكلائها في سوريا والعراق واستكمال ما يسمى بـ”الجسر البري” إلى منطقة البحر المتوسط. كما أنها قد تمكّن القوات البرية الموالية للأسد من التقدّم دون أي عوائق نحو الفرات. أما بالنسبة للمتمردين المدعومين من الولايات المتحدة، فإن المسار الوحيد المتبقي للنفاذ إلى دير الزور هو من جهة الشمال، عبر «قوات سوريا الديمقراطية» التي يقودها الأكراد. ورغم أن هذه القوات ستحظى بدعم القوات الجوية الأمريكية إذا ما تحركت جنوباً، فقد أصبحت الآن أكثر احتمالاً بأن تدخل في مواجهة مباشرة مع قوات نظام الأسد في طريقها لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية».
تقسيم درعا
في حين تتجه كافة الأنظار نحو التنف والحدود السورية -العراقية، تشهد الحدود مع الأردن أيضاً بعض التطورات الخطيرة بسبب إعادة نشر عناصر «حزب الله». وكانت عمّان قد أعربت مؤخراً عن قلقها ازاء التقارير التي تفيد بأن مقاتلي «حزب الله» يعززون القوات السورية في محاولتها استعادة محافظة درعا، التي تعدّ طريق إمدادات رئيسي لتسليم الأسلحة الأردنية إلى الجماعات المتمردة “المعتدلة”. لكن يبدو أن معظم عمليات «حزب الله» تهدف إلى تقسيم المحافظة إلى جزئين بدلاً من السيطرة عليها بالكامل. ومن خلال قيامه بذلك، يأمل الحزب على ما يبدو بتحقيق ثلاثة أهداف: الوصول إلى أجزاء أكبر من مرتفعات الجولان ليشكّل تهديداً أكبر على إسرائيل، وقطع خطوط الاتصال إلى المتمردين في درعا، وضمان أمن دمشق بشكل أفضل ضد الهجمات المحتملة من قبل هؤلاء المتمردين.
وحالياً، تتركز معظم العمليات العسكرية لـ «حزب الله» على المنشية على طول الحدود الأردنية. ويبدو في الوقت الراهن أن القوات المتمردة في الجنوب المدعومة من واشنطن وعمّان قد نجحت في عرقة هذا التقدّم، ملحقةً بالحزب خسائر فادحة. فعلى سبيل المثال، خسرت الميليشيا الشيعية في يوم واحد الأسبوع الماضي خمسة عشر مقاتلاً خلال هجوم على المنشية.
ويدرك «حزب الله» تماماً المواعيد النهائية للحد من التصعيد التي فرضتها مفاوضات السلام التي أجريت في الأستانة، كازاخستان، في أيار/مايو والتي نصّت على وقف الأعمال العدائية في درعا وبعض المناطق الأخرى لمدة ستة أشهر على الأقل. بيد أنّ هذه المدة الزمنية لم تثنِ الحزب عن الهجوم الذي ينفذه حالياً. كما يدرك «حزب الله» أيضاً الخط الأحمر الذي رسمته الضربات الجوية الأمريكية الشهر الماضي في التنف، إلا أنه يتابع مع ذلك تقدّمه نحو الحدود ويختبر صبر الولايات المتحدة. وكما حصل في حملتيْه المكلفتيْن في حلب والقصير، من الواضح أن الحزب يعتبر أن هناك أهمية استراتيجية للحدود، وأن جهوده هناك مدعومة من براميل النظام المتفجرة والغطاء الجوي الروسي. وفي ظل غياب أي تدخل أمريكي ملحوظ، سيكون تحقيق «حزب الله» لأهدافه في درعا مسألة وقت فقط.
وإلى جانب قطع خطوط الإمدادات الأردنية إلى المتمردين في الجنوب، تمثّل مسألة الحدود تهديداً محلياً بالنسبة للمملكة أيضاً. ففي نهاية الأسبوع المنصرم، قتل حرس الحدود الأردنيون خمسة متسللين يُشتبه بأنهم اقتربوا من الحدود من التنف. ووفقاً للجيش، تقدّمت تسع مركبات نحو الأردن آتيةً من سوريا خلال الأيام الثلاثة الماضية، ما دفع بحرس الحدود إلى إطلاق النار بغية وقفها. وذكرت مصادر أردنية للموقع الإخباري “المُدن” بأن هذه الخطوة قد تكون جزءاً من مسعى إيراني يرمي إلى تعريض منطقة التخفيف من التصعيد جنوب سوريا للخطر، وهو ما تردد أن المسؤولين الأمريكيين والروس ناقشوه في عمّان الأسبوع الماضي.
ومهما كانت الحال، من شأن العجز عن إقامة مثل هذه المنطقة أن يفتح المجال أمام المزيد من المواجهات. ويصب الحفاظ على الهدوء جنوب سوريا في مصلحة الأردن وإسرائيل والولايات المتحدة في الوقت الذي تتصاعد فيه حدّة الحرب على تنظيم «الدولة الإسلامية» في أماكن أخرى. ولا يبدو أن «حزب الله» مهتم في محاربة جميع هذه الأطراف في الوقت الراهن، لكن هدفه المتمثل في إضعاف القوات المتمردة في درعا قد يكون سبباً كافياً لإثارة نزاع على طول الحدود.
سيناريوهات المواجهة
في ظل تقدّم الميليشيات الشيعية التابعة لإيران عبر البادية نحو دير الزور وأبو كمال، يبدو أن هدفها الرئيسي يتمثل بالاستيلاء على المناطق الخاضعة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» سابقاً وليس بالضرورة محاربة التنظيم، علماً أن المتمردين المدعومين من الولايات المتحدة يتقدمون نحو المناطق نفسها، وإن كان ذلك من جهة الشمال. وبالتالي، قد تصبح دير الزور موقع مواجهة كبيرة بين هذه الفصائل، حيث تدعم روسيا القوات الإيرانية بينما تدعم الولايات المتحدة وكلاءها.
غير أن الميليشيات الشيعية التابعة لإيران تسعى، قبل وصولها إلى هناك، إلى إحكام قبضتها على المناطق الواقعة بين تدمر وشرق السويداء من أجل جمع المتمردين من الجنوب في جيوب معزولة ووقف أي محاولة أمريكية لتوسيع منطقة سيطرتها خارج التنف. وكانت روسيا قد وفّرت تغطية جوية مستمرة لهذه العمليات. وطالما أن القواعد الأمريكية في التنف والزكف غير مستهدفة بشكل مباشر، يبدو أن الميليشيات الشيعية لن تتعرض لأي ضغوط لوقف عملياتها في أماكن أخرى.
وخلال الأسبوع الماضي، قال قاءد وحدة في «حزب الله» في بيروت لصحيفة “كريستيان ساينس مونيتور”: “يجتمع التابعون لنا في منطقة التنف حالياً، إذًاً قطعاً سيكون هناك صراع”. وربما كان يشير إلى مواجهة برية محتملة بين القوات المدعومة من إيران وتلك المدعومة من الولايات المتحدة. ولكن في حين جاءت ملاحظته في سياق الحديث عن الحدود العراقية-السورية، يبدو أن الطرفين يستعدان لمعارك أكبر وأكثر صعوبة في محيط دير الزور وأبو كمال.
ومهما كانت الظروف، لا تزال المنطقة الحدودية التي سيطرت عليها الميليشيات الشيعية في الأسبوع الماضي منكشفة ومعرضة للهجمات، ولذلك فمن المرجح أن تواجه صعوبة كبيرة في الحفاظ على السيطرة هناك. وقد تتمكن القوات المتمردة من استعادتها بسهولة نسبية إذا حظيت بدعم جوي مستدام من الولايات المتحدة. غير أن الهدف الأوسع المتمثل بمنع وكلاء إيران من التقدّم نحو دير الزور يتطلب ممارسة ضغوط على روسيا من أجل وضع حدّ لغطائها الجوي للحملات الموالية للنظام حول الأراضي الخاضعة لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية». وعلى الرغم من أن «حزب الله» يبدو عازماً على أخذ زمام المبادرة لتحقيق أهداف إيران في المنطقة، إلّا أنّ الجهود الدبلوماسية الأمريكية المتضافرة مع روسيا – إلى جانب الجهود العسكرية التي ترفع تكلفة الحملات الجارية بالوكالة في الجنوب – يمكن أن تغيّر حسابات الحزب وتساهم في تفادي مواجهة أكبر. وفي خلاف ذلك، يشير مجرى الأمور إلى أن المواجهة بين الولايات المتحدة ووكلاء إيران أصبحت وشيكة.
حنين غدار
معهد واشنطن