معمر فيصل خولي*
قام رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بزيارة للمملكة العربية السعودية في 19 حزيران/يونيو الحالي. التقى خلالها بالملك سلمان بن عبدالعزيز، وتعد هذه الزيارة الأولى للعبادي إلى السعودية بصفته رئيسا للوزراء، وقد تزامنت الزيارة مع أزمة في الخليج بعد قطع السعودية والإمارات والبحرين ودول عربية أخرى في 5 حزيران/يونيو الحالي علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع دولة قطر، وتقوم الكويت بوساطة لحل الأزمة. وقال مسؤولون إنه كان من المقرر أن يزور العبادي الرياض الأسبوع الماضي ولكن زيارته تأجلت لتفادي الظهور كما لو كان ينحاز لجانب في نزاع دبلوماسي اندلع بين قطر وعدد من الدول العربية بما في ذلك السعودية.
أن توقيت الزيارة التي سبق لها وأن أجلت تأتي في سياق النهاية المتوقعة لوجود تنظيم داعش على الأراضي العراقية، ما يضفي على العبادي قدرته على إخراج حكومته من دائرة المحاور والاستقطاب بالمعنى الذي يوحي باستقلاله الشخصي على الأقل بعيدا عن سياسة سلفه المالكي الذي لا يزال زعيمه حزبيا. تهدف زيارة العبادي إلى السعودية إلى تعزيز مصالحة بين السعودية والعراق، وأيضاً للمساعدة في رأب انقسامات عميقة ومريرة بين الشيعة والسنة في العراق. وتستكشف إمكانيات نسج علاقات ثنائية متقدمة بين الرياض وبغداد بصرف النظر عن طبيعة العلاقات السعودية الإيرانية، فنجاح العبادي قد يكون مقدمة لتحييد العراق وجعله مكانا لتقاطع العلاقات الإقليمية بدل تصادمها. ويسعى رئيس الوزراء العراقي من خلال زيارته الحالية إلى تقديم صورة السياسي العراقي الذي يحاول إعادة العراق إلى محيطه العربي من خلال البوابة السعودية.
على مستوى علاقات الرياض ببغداد قبل مجيء حيدر العبادي لحكم العراق كان من الصعب بناء شبكة علاقات منفتحة مع السعودية والخليج بسبب حالة التصعيد الطائفي وضبابية الصورة. حيث أخذت العلاقات السعودية العراقية طابع الشد والجذب بين الفينة والأخرى، حيث تتذبذب بين تأزم وتوتر منذ احتلال الكويت مروراً بسقوط الرئيس صدام حسين، وانتهاء بحكومة المالكي، ثمّ العبادي الذي عينت السعودية خلال فترته سفيراً لها في بغداد بالتزامن مع سيطرة تنظيم “الدولة” على مناطق عراقية شاسعة وتهديده دول المنطقة، قبل أن تسحبه مجدداً.فمنذ اجتياح العراق للكويت عام 1990 والعلاقات السعودية العراقية متوترة، حيث أغلقت على إثرها الرياض سفارتها في بغداد، وقطعت علاقاتها الدبلوماسية معها، ولم تستأنفها إلا مؤخراً. ورغم التغيير الجذري الذي حدث في العراق عام 2003، فإنّ السعودية لم تغير من سياساتها المنفتحة تجاه العراق، لكن علاقات البلدين ازدادت توتراً، خاصة في فترة حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، التي كانت مليئة بالصراع الطائفي في العراق، وباتت السعودية في موضع اتهام حكومته بأنّها تدعم الإرهاب وتغذي الطائفية. ورغم التوتر الكبير بين الطرفين، فإن السعودية اضطرت إلى تعيين ثامر السبهان سفيراً مقيماً لها في بغداد، بعد مطالبات عراقية متكررة منذ عام 2003، بضرورة وجود سفير مقيم للمملكة، وهو ما وصفه مراقبون سياسيون بأنّه خطوة إيجابية ستعزز علاقات البلدين، وذلك ضمن توحيد الجهود لمحاربة تنظيم “الدولة”، الذي يسعى لاستهداف دول المنطقة من خلال هجماته المتكررة.
فتح السفارة السعودية في بغداد كان له الدور الأبرز في تطور العلاقات الثنائية بين الطرفين، على اعتبار أنّ ما يجمع الجانبين هو معركتهما مع “الإرهاب”، وتحديداً التنظيمات المتشددة، وعلى رأسها تنظيم “داعش”، إضافة إلى أنّ ملف المعتقلين السعوديين في العراق يشكل أولوية مهمة بالنسبة للرياض؛ للحد من تدفق الشباب السعودي إلى الساحات الساخنة للانخراط في صفوف الجماعات المسلحة. لكنّ نقطة التحول الحقيقية بدأت بالفعل لدى الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، إلى بغداد؛ في محاولة جديدة لتحسين علاقات البلدين، والتي تدخل في إطار رأب الصدع بين طرفين أساسيين في المنطقة، السعودية، والعراق الذي تصنف حكومته على أنّها تقع ضمن الوصاية “الإيرانية”.
الآن يبدو أن حيدر العبادي لديه رؤية مرنة في بناء علاقات متوازنة مع السعودية خدمة للمصالح المشتركة، فالسعودية وفق القيادة الحكومية العراقية بحاجة إلى إثبات حسن نيتها مع العراق وعدم انحيازها إلى فريق سياسي عراقي ضد آخر، خصوصاً أن بناء مناخ سياسي لا طائفي أصبح مطلباً داخلياً ملحاً لمرحلة ما بعد داعش. وقد يساعد انفراج العلاقات مع السعودية والخليج على وضع حلول للاحتقان السياسي الداخلي في العراق وكبح جماح الخلافات والاستقطابات الطائفية والعرقية التي زادت حدة في فترة الحرب المتطرفة، وأن السعودية تدعم تطوير آليات العملية السياسية للتوصل إلى تمثيل عادل للجميع.
أن الحضور الدبلوماسي السعودي الإيجابي سيساهم -من جانب- على خلق موازنة تقود إلى تليين خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المخيفة للبعض والداعية إلى استبعاد إيران عن النفوذ العراقي، فإدارته، تتحرك لإيقاف المساعي الإيرانية بتوسيع نفوذها في المنطقة، ما يعني أنّها عازمة بالفعل على إيقاف التدخلات الإيرانية المتزايدة في الدول العربية وعلى رأسها العراق وسوريا واليمن ولبنان. فهي تريد أن تكون المنطقة مستقرة وهادئة، بعد إدراكها أنّ إيران هي المحرك والمهدد الأساسي لأمنها وسلامتها. ومن جانب آخر على ايجاد بيئة سياسية عراقية جديد لمصالحة حقيقية لا تعني بالضرورة إعادة الاعتبار لبعض الزعامات السنية التقليدية، وإنما تبني مشروع سياسي جديد للقوى غير الطائفية والشخصيات النظيفة من الإرهاب والتطرف والفساد قبل انتخابات عام 2018. صحيح إن ذلك لا يريح إيران ولا يريح القوى المتطرفة داخل العراق والساعية إلى مزيد من تصعيد الاحتراب الطائفي.
تعد زيارة عادل الجبير وزير الخارجية السعودي إلى العراق في 25 شباط/فبراير الماضي نقطة تحول في العلاقات السعودية العراقية، حيث تعدّ الأولى من نوعها منذ أكثر من ربع قرن على إغلاق السفارة السعودية إثر غزو القوات العراقية للكويت عام 1990، وعلى إثر ذلك فإنّ تلك الزيارة المفاجئة حملت العديد من الدلالات والأبعاد المتعددة، وبأنّها مثلت فرصة لإعادة العراق إلى بيئته العربية، وإعادة العلاقات من جديد مع الجوار، إضافة إلى بناء تحالف قوي لمواجهة داعش. وأياً يكن الأمر فإنّ زيارة الجبير حملت أيضًا في طياتها الكثير من الأبعاد والأهداف التي تنسجم مع التغيرات السياسية المتسارعة في المنطقة، خاصة بعد وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى سدة الحكم، ومساعيه لتغيير سياسة بلاده في منطقة الشرق الأوسط، فإدارته تختلف إلى حد بعيد عن سياسة الحكومة الأمريكية السابقة برئاسة باراك أوباما.
فتلك الزيارة كانت قد مهدت الطريق لرغبة حيدر العبادي في الارتقاء بالعلاقات السعودية العراقية إلى مستويات متقدمة انطلاقا من حساباته ورؤيته بأن العراق المنحاز كليا لإيران والمعزول عن العرب وفي مقدمتهم السعودية لن يخرج من أزماته المتشابكة، لكن رغبته تصطدم بقوى نافذة لا تريد لهذا الانفتاح أن يتحقق، وقد تثير الكثير من الزوابع السياسية والإعلامية حوله خصوصاً وأن الأصوات العدائية ضد السعوديـة متعالية ولا ندري مـدى قـدرته على المقاومة، إلا إذا لمس بأن طهران لن تقف ضد تلك الخطوة لحساباتها الدقيقة خصوصا في معركتها السياسية مع الإدارة الأميركية الحالية وسعيها إلى فتح ثغرة في الجدار. وفق المقاييس العراقية النزيهة والحريصة على أمن البلد والطموح ببنائه بعد هـذا الخراب الذي أصابه، خطوة العبادي المتبادلة مع الرغبة السعودية الجادة بتطـوير العلاقات بين بغداد والرياض ستكون في صالح شعب العراق أولا وأخيرا.
أن العراق سيحاول إيجاد نقطة توازن صعبة بين علاقاته مع السعودية وعلاقاته مع إيران، وأن قرار العبادي بتغيير أجندة جولته، والتوجه مباشرة إلى إيران يعبر عن حساسية الموقف العراقي ما بين الرياض وبغداد. وأن العبادي لن يتخذ أي موقف يبعده عن طهران وأنه سيحاول من خلال مقاربته الخليجية الجديدة الحصول على “تفهم” إيراني يوسّع من هامش المناورة العراقية. كما يسعى في هذا التوقيت بالذات إلى تغيير تموضع بلاده وانتهاج خيارات أخرى مواكبة للخيار الإيراني وتحضير البلد للاتساق مع التغييرات الإقليمية. وبالرغم من عداء زعماء الميليشيات الطائفية في العراق المستحكم للسعودية فإن تصريحا منددا بزيارة العبادي لها لم يصدر عن أي جهة، ما يؤكد أن إيران عملت على ضبط أعوانها في انتظار ما يمكن أن تسفر عنه زيارة العبادي التي سبق وأن أرجئت بسبب خلافات داخلية على برنامجها. ويرى مراقبون أن الإيرانيين سعداء بزيارة العبادي، لأنه لم ينخرط في محور الرياض، ولكنهم يعلمون أنه لن يتموقع في محور طهران أيضا، بسبب سقف التزامه العالي مع الولايات المتحدة.
ولأن العلاقات السياسية بين الدول لصيقة تمامًا بالعلاقات الاقتصادية بينهم، فقد أثمرت زيارة حيدر العبادي إلى السعودية في الاتفاق على تأسيس على مجلس تنسيقي بين السعودية والعراق يهدف للارتقاء بالعلاقات إلى المستوى الإستراتيجي المأمول، وفتح آفاق جديدة من التعاون في مختلف المجالات، بما في ذلك السياسية والأمنية والاقتصادية والتنموية والتجارية والاستثمارية والسياحية والثقافية، وتنشيط الشراكة بين القطاع الخاص في البلدين، ومتابعة تنفيذ ما يتم إبرامه من اتفاقات ومذكرات تفاهم لتحقيق الأهداف المشتركة. وقد يساعد هذا المجلس ولاسيما في شقه الاقتصادي من تخفيف من أزمة العراق الاقتصادية وخاصة على صعيد إعادة الإعمار وعودة النازحين إلى بيوتهم بأمان فإن السعودية قادرة على لعب دور كبير في خطة التنمية الفورية. والحديث النظري من قبل الإدارة الأمريكية بإعادة بناء العراق تنقصه الوقائع، وما يسمى بقروض صندوق النقد الدولي أخذت تطوق عنق العراق في السنوات الثلاث الأخيرة في ظل خواء الخزينة العراقية وهيمنة الفساد والنهب في أروقة الحكومة. كما إن إيران لا تريد لهذا البلد أن يعيد بناء نفسه باستقلالية.
وضع العراق الاقتصادي المتردي وانعدام التنمية الصناعية والزراعية وقفل المصانع والمنشآت الزراعية يخدم تدفق البضائع الاستهلاكية الإيرانية البالية والمتردية في السوق العراقية وكذلك البضائع التركية. إن مشروع مارشال عربي هو الأصلح للعراقيين، وقد تتمكن السعودية من القيام بدور رائد فيه. ويدرك العبادي من جهته أن مرحلة ما بعد داعش تتطلب الكثير من المساعي الحقيقية لبناء ما دمرته الصراعات والنزاعات التي عاشها العراق منذ الغزو الأميركي وهو ما لا تقوى عليه حكومته في ظل استمرار ماكنة الفساد في العمل وهو ما سيدفعه إلى الاستعانة بالاستثمارات السعودية منطلقا من العلاقات الاقتصادية لسد الثغرات السياسية. و قد لا تمانع القيادة السعودية في تلبية مطالب العبادي من أجل ضخ شيء من القوة في مسعاه من أجل الانفتاح عربيا في مواجهة التشدد الذي تمثله الميليشيات الموالية لإيران وهي تستعد للقفز إلى الحكم.
أن حيدر العبادي مدرك لطبيعة التوجهات الدولية الجديدة حيال إيران، ويراقب عن كثب التطورات العسكرية الميدانية في سوريا التي تعمل على تقويض نفوذ طهران هناك، ويملك معطيات أميركية المصدر لطالما شجعته على التواصل مع الرياض وتطوير العلاقة مع دول الخليج. وسيكون ما سمعه العبادي في الرياض موضع إنصات بالنسبة للقيادة الإيرانية التي صار واضحا بالنسبة لها أن الأضواء عربيا وعالميا باتت مسلطة على دورها التخريبي في المنطقة.وسيؤدي انتقال العبادي من جدة إلى طهران مباشرة إلى خلق أجواء جديدة في العراق تخفف من حدة الخلافات التي تضرب التحالف الوطني الحاكم في العراق استعدادا للانتخابات. فمن خلال ثقة الطرفين به قد يشكل رئيس الوزراء طرفا قويا في مواجهة صقور حزب الدعوة المحتمين بالميليشيات.
إن النظرة الواقعية للبيئة السياسية العراقية، لا ترجّح احتمال نجاح أية محاولة لإبعاد العراق عن إيران، لأن الحكومة التي توصف بانها “شيعية”، تشارك فيها قوى شيعية رئيسية تتمتع بعلاقات خاصة جدا مع طهران، كما ان قوى الحشد الشعبي المسلحة ذات الشعبية الواسعة لانها ساهمت بشكل رئيس في دحر داعش، ونالت الكثير من الدعم المالي والعسكري من طهران في معاركها، لن تسمح باية محاولة للابتعاد عن محور طهران. حيث كشفت إيران بشكل صريح عن مقدار رهانها على الميليشيات الشيعية المكوّنة للحشد الشعبي في السيطرة على الأوضاع السياسية والأمنية في العراق وضبطها، محذّرة رئيس الوزراء حيدر العبادي من المساس بذلك الجسم شبه العسكري الذي تحوّل إلى ما يشبه الجيش الطائفي الرديف للقوات الحكومية مستفيدا من الدعم الإيراني السخي بالمال والخبرة العسكرية والسلاح، وأيضا من الحرب التي خاضها ضدّ تنظيم داعش وبرز بفضلها كطرف فاعل في المعادلة العسكرية وحتى السياسية. وأصبح الحشد بقادته النافذين ذوي الصلات الوثيقة بإيران أداة ضغط كبير على رئيس الوزراء الطامح إلى إجراء بعض الإصلاحات السياسية في الداخل، وتعديل السياسة الخارجية للبلد باتجاه تحقيق قدر من الانفتاح على الدول العربية.وفي ظلّ وجود الحشد وطموح قادته لإقحامه في السياسة واستخدامه ورقة انتخابية في الانتخابات النيابية القادمة، سيكون من المستحيل على العبادي تمرير أي إصلاحات تحدّ من نفوذ الموالين لإيران في العراق. وحذر المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، حيدر العبادي أثناء زيارة الأخير للعاصمة الإيرانية طهران، من اتّخاذ أي إجراء يمكن أن يؤدي إلى إضعاف الفصائل الشيعية المسلحة التي تدعمها إيران، قائلا إن مثل هذه التصرفات قد تعرض استقرار بغداد للخطر. وتوظّف إيران الميليشيات الشيعية لتحقيق أهداف استراتيجية تتجاوز العراق إلى المنطقة ككل، من بينها تأمين الطريق الواصل بين طهران وسوريا ولبنان عبر العراق وصولا إلى ضفاف البحر المتوسّط، ما يفسّر الاهتمام الإيراني الشديد بحماية الحشد الشعبي والدفاع عنه.
وربما الوضع الذي يتفق عليه الجميع أن يكون العراق ساحة لتوازن النفوذ، فطوال سنوات كان هناك تعايش إيراني امريكي في العراق منذ العام 2003، ولن يكون هناك عائق من استمراره، كما ان تحسين العلاقات مع السعودية وتركيا وهي دول سنية، على أساس احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، سوف يمنح العراق دور الوسيط النزيه، لحل مشاكل تلك الدول، مع إيران.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية