ادراً ما كان الشرق الأوسط محيراً أكثر مما هو عليه الآن. فالولايات المتحدة تبيع طائرات مقاتلة لقطر، هذه الدولة التي يتهمها الرئيس الأمريكي برعاية الإرهاب. وفي سوريا، تعتمد الولايات المتحدة على المقاتلين الأكراد الذين تصفهم تركيا بالإرهابيين، علماً بأن تركيا هي إحدى دول “حلف شمال الأطلسي” المتحالفة بشكل وثيق مع قطر، حيث تدعم واشنطن حملتهم لاستعادة عاصمة تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») في الرقة بواسطة ضربات جوية تطلق من قاعدة أمريكية ضخمة خارج الدوحة. وتتهم الولايات المتحدة روسيا بالتواطؤ مع الحكومة السورية في الهجمات الكيميائية التي نفّذتها هذه الحكومة ضد شعبها، ثم توجّه الضربات ضد القوات السورية، لكنها تأمل في التعاون مع موسكو لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية».
هل استوعبتم كل ذلك؟ في خضم هذا الارتباك تمضي إيران قدماً لإحكام قبضتها على سوريا، حتى في الوقت الذي يلاحق فيه الرئيس الأمريكي ترامب تنظيم «الدولة الإسلامية». فلم يقتصر التدخل الإيراني لإنقاذ نظام الرئيس بشار الأسد على إرسال نخبة من المستشارين العسكريين الإيرانيين إلى سوريا، بل شمل جلب «حزب الله» اللبناني وميليشيات شيعية أخرى من أماكن بعيدة وصلت إلى أفغانستان. وفي حين تتفاوت التقديرات بشأن حجم هذه القوات، تصل الأعداد إلى عشرات الآلاف. وتُستخدم قوات المغاوير الطائفية الإيرانية لتوسيع نفوذ النظام، خاصة وأن قواته العسكرية التي يمكن نشرها تقلصت إلى نحو 20 ألف جندي.
والمؤسف هو أنه إذا لم تتمكن إدارة ترامب من بذل المزيد من الجهود لصد النشاط الإيراني في سوريا، فمن غير المرجح أن تتمكّن من “تدمير” تنظيم «الدولة الإسلامية» ومنع عودته. فإيران تستعين بميليشياتها الشيعية الوكيلة لمحاربة تنظيم «داعش» من جهة وتحدّي الجهود الأمريكية لتدريب القوات المحلية في جنوب شرق سوريا من جهة أخرى. وفي الأسبوع الماضي، قامت طائرة بدون طيار إيرانية الصنع بإطلاق النار على منطقة التنف الواقعة على طول الطريق السريع بين دمشق وبغداد والحدود السورية الأردنية حيث تجري القوات الخاصة الأمريكية تدريباتها، فما كان من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة إلا أن دمّر هذه الطائرة. وأفاد البيان الصادر عن البيت الأبيض بعد الاعتداء بأن قوات الولايات المتحدة حافظت على وجودها في التنف خلال العام الماضي، وأن هذا الموقع يشكل جزءاً من التفاهم القائم مع روسيا لتجنب النزاع – ومع ذلك نفّذت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في سوريا عملية ضد هذه المنطقة وأطلقت النار على القوات الأمريكية الموجودة فيها.
فما الذي يجري؟ في الواقع تسعى إيران بجدّ لإقامة ممرّ برّي نحو لبنان عبر العراق وسوريا. وتحقيقاً لهذه الغاية، تمارس إيران الضغوط من داخل العراق وسوريا، وذلك باستخدام وكلائها من الميليشيات الشيعية على جانبي الحدود. فعلى الجانب العراقي، نجحت الميليشيات الشيعية حالياً بتطهير تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكل كبير من المعابر الحدودية. أما في سوريا فقد أرسلت إيران مجموعة كبيرة من عناصر «حزب الله» شرقاً نحو مدينة دير الزور الكبيرة الواقعة على نهر الفرات. وفي ظل الجهود التي تدعمها الولايات المتحدة السارية على قدمٍ وساق لتحرير الرقة، تريد إيران منع أي تنظيمات مدعومة من الولايات المتحدة من فرض وجودها في سوريا الشرقية – كون هذا الأمر يعيق الهدف الإيراني بالسيطرة على الحدود السورية مع العراق والأردن. (وحيث ينشط «حزب الله» حالياً أيضاً في منطقة درعا، مدينة جنوب سوريا بالقرب من مرتفعات الجولان، فإن الإيرانيين يراقبون الحدود السورية -الإسرائيلية أيضاً).
ولم تقف إدارة ترامب مكتوفة الأيدي بوجه التحركات المدعومة من إيران والرامية إلى التوسع داخل مناطق انتشار القوات الخاصة الأمريكية: ففي 18 أيار/مايو، قصفت القوات الأمريكية موكباً تابعاً لميليشيا تدعمها إيران بعد رفضه الإذعان للإنذارات الموجّهة إليه بالتوقف، ثم دمّرت طائرة بدون طيار قامت بإطلاق النار على القوات الأمريكية في 8 حزيران/يونيو. بيد، يجدر بالذكر أن البيان الصادر عن البيت الأبيض الذي أعلن عن تدمير الطائرة الإيرانية الصنع بدون طيار قد أوضح أن التحالف بقيادة الولايات المتحدة “لا يسعى إلى محاربة” القوات الحليفة للأسد، بل “سيدافع عن نفسه” ضد هذه القوات إذا ما تقدمت نحو “منطقة راسخة لتجنب النزاع”. والرسالة المنشودة هي التالية: تتمثل الأولوية الأمريكية في محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» وليس إيران، أو وكلائها من الميليشيات الشيعية أو نظام الأسد. وقد تأكدت هذه الرسالة حالياً مع إسقاط الولايات المتحدة طائرةً تابعة لنظام الأسد كانت تقصف بالقرب من الرقة ولكنها بدت أنها تستهدف حلفاء أمريكا الأكراد – وهذا عمل دفع روسيا مرة أخرى إلى الإعلان بأنها ستجمّد اتفاقيات تجنب النزاع مع الولايات المتحدة.
وفي الواقع، يمكن تفهّم رغبة الإدارة الأمريكية بالتركيز على تنظيم «الدولة الإسلامية» وعدم التورط في نزاع مع الإيرانيين أو الروس. وفي حين أنه من الصواب أن تتوخى الإدارة الحذر، فإنها تحتاج كذلك إلى أن توصل رسالة أخرى مفادها أن الولايات المتحدة لن تعترض على المناطق التي يسيطر عليها أو يتواجد فيها الإيرانيون أو الروس داخل سوريا، ولكنها لن توافق على المساعي الإيرانية بإقامة جسر بري عبر المشرق العربي. وعلاوةً على العواقب الاستراتيجية الأكبر الذي قد يخلّفها مثل هذا الممر في المنطقة، يجب على الإدارة الأمريكية أن تفكر أيضاً في تأثير هذا الممر على هدفها بالقضاء على تنظيم «داعش».
ومن المفارقات أن استراتيجية ترامب المناهضة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» ستخضع للاختبار إذا ما نجحت القوات التي تدعمها الولايات المتحدة في إلحاق هزيمة بتنظيم «داعش» في الرقة، وعندما تُلحق بها هذه الهزيمة. وما يدفعني لهذا القول هو أن الولايات المتحدة متحالفة مع القوات الكردية المعروفة بـ «وحدات حماية الشعب»، وهذه الأخيرة أثبتت أنها تضم المقاتلين الأكثر فعاليةً ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» ولكنّها تحتفظ أيضاً بروابط مع نظام الأسد. وعلى الرغم من أن الطائرة السورية التي أسقطتها الولايات المتحدة كانت تقصف بعضاً من هذه القوات، لا يجدر بنا التوقّع من «وحدات حماية الشعب» أن تفسخ روابطها بحكومة الأسد. ففي النهاية، يسيطر النظام على الطرق المؤدية إلى المناطق الكردية الأخرى في شمال سوريا – وهي المناطق التي تأمل «وحدات حماية الشعب» بأن تصبح جزءاً من منطقة كردية مستقلة أوسع نطاقاً. وعلى الرغم من أنه ليس من المؤكد أن «وحدات حماية الشعب» ستدعو قوات الأسد إلى الرقة بعد تحريرها مباشرة، إلا أن هناك خطر بأن تقوم بذلك. وإذا ما عاود نظام الأسد وميليشياته الطائفية الظهور في الرقة، فمن المؤكد أن أعمال القمع التي تمت ممارستها ضد السُّنة وكانت السبب في نشوء تنظيم «الدولة الإسلامية» في المقام الأول سوف تعود مجدداً. ومن المؤكد أن الرئيس ترامب الذي اتهم الرئيس أوباما بمسؤوليته في ظهور تنظيم «داعش» لن يرغب في رؤية هذا التنظيم يعود إلى الحياة خلال فترة رئاسته.
من هنا، لا بد لفريق ترامب أن يركز على الأقل على المرحلة التي تعقب فترة حكم تنظيم «الدولة الإسلامية» في الرقة (وكذلك في الموصل، التي استردت القوات العراقية معظمها من تنظيم «داعش»). يجب على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة لها، متسلحةً بخطة لإعادة الإعمار والأمن والحوكمة ودمج السُّنة فور خروج تنظيم «الدولة الإسلامية»، على أن يتم فعلاً تنفيذ هذه الخطة.
وتحقيقاً لهذه الغاية، يجب على الأطراف السعودية والإماراتية وغيرها من دول الخليج العربية أن تضطلع بدورٍ ريادي بحيث تقدم المساعدة اللازمة للإعمار والحوكمة وربما أيضاً القوات، في حين تشوه كذلك الإيديولوجية الملتوية والمحرّفة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية». ولكن ما يعقّد الأمور هنا هو المنافسات والخصومات القائمة في المنطقة. ففي الوقت الراهن، يركّز السعوديون والإماراتيون على حصارهم على قطر، وليس على سوريا. فهم يعتبرون أن قطر تلعب دوراً مزدوجاً حيث تستقبل على أرضها قاعدة جوية أمريكية ضخمة (قاعدة العديد) بينما توفر الدعم المادي ومنصة إعلامية عبر قناة الجزيرة الفضائية التابعة لها إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وحركة «حماس» وغيرها من الجماعات الإسلامية، بما فيها تلك التابعة لـ تنظيم «القاعدة». وبينما أخذت قطر تلمس تأثيرات هذه المقاطعة، بادرت تركيا للمساعدة من أجل تخفيف حدة الضغط، معمّقةً بذلك الشرخ الحاصل بين الدول السنية – إن هذا آخر ما تحتاجه الحملة ضد إيران وتنظيم «الدولة الإسلامية».
لذلك، يجب على إدارة ترامب بذل الكثير من الجهود التمهيدية الدبلوماسية في هذا الإطار. يتعيّن على وزير الخارجية ريكس تيليرسون ووزير الدفاع جيم ماتيس أن يحثا السعودية على المساهمة في بلورة الواقع على الأرض في مرحلة ما بعد الرقة وما بعد الموصل، وإقناع تركيا بالعمل مع التحالف المعادي لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» وليس ضده. أما بالنسبة للسعودية والإمارات، فعندما تدركان أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع الأعمال الحرة وغير المفيدة التي تمارسها قطر، سيكون ذلك السبيل إلى حثّ الدولتين على التركيز مع الولايات المتحدة على تنظيم «داعش». ينبغي على الإدارة الأمريكية أن توضح بصراحة للقطريين أنهم إذا لم يوقفوا دعمهم لبعض التنظيمات الإسلامية ويُسكتوا الأصوات الضارة مثل الشيخ يوسف القرضاوي على موجاتهم الإذاعية، فإن الولايات المتحدة ستكون مستعدة للتخلي عن القاعدة الجوية والضمانة الأمنية الضمنية التي يمنحهم إياها الوجود الأمريكي.
ومن أجل حمل تركيا على المشاركة في المساعي المشتركة وعدم التسبب بانقسام القوى السنية، سوف يتعين على تيليرسون وماتيس أيضاً أن يعالجا مخاوف الرئيس رجب طيب أردوغان من التهديد الناشئ عن تنامي الوجود الكردي/وجود «وحدات حماية الشعب» على مقربة من الحدود التركية – مع التشديد على أن الولايات المتحدة لن تسمح لهؤلاء بالبقاء في الرقة ولن تأتي بالأسد والإيرانيين إلى المدينة. ويجب أن تكون القوات العربية المحلية مسؤولة عن الحوكمة في أعقاب هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» في الرقة.
وحين يكون المشهد مربكاً ومحيّراً، ينبغي على الإدارة الأمريكية أن لا تترك القليل من الشك حول أهدافها وأولوياتها – وإلّا قد توسّع إيران نفوذها في سوريا، وقد يظهر خلف جديد لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» بمرور الوقت، وستواصل قطر دورها المزدوج. فللوضوح أحياناً قوةٌ بحد ذاته.
دينيس روس
معهد واشنطن