كانت المعركة من أجل الموصل كفاحاً مريراً ظل متواصلاً على مدى 256 يوماً -أو شهرين أطول من الزمن الذي استغرقته معركة ستالينغراد. ومع أن القتال بين قوات الحكومة العراقية و”داعش” كان أصغر بكثير من حيث المدى من المعركة التي شهدتها المدينة الروسية قبل 75 عاماً، فإن تظل قابلة للمقارنة من حيث وحشيتها والأهمية التي أولاها كلا الجانبين المتحاربين لنتيجتها.
أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي “نهاية دويلة داعش” عندما استولت القوات العراقية على أطلال مسجد النوري حيث كان أبو بكر البغدادي، الذي شاع أنه قُتل، قد أعلن الخلافة منه قبل ثلاثة أعوام. وأراد “داعش” تجنب ذل رؤية العلم العراقي وهو يحل محل علمه الأسود على قمة المئذنة المشهورة (الحدباء) للمسجد.
شهدت الحروب في العراق العديد من إعلانات الانتصار المبالغ فيها منذ الغزو الذي تم بقيادة أميركية للبلد في العام 2003، لكن لهذا الإعلان جوهر ودلالة أكثر من معظم الإعلانات السابقة، حتى على الرغم من أنه جاء سابقاً لأوانه قليلاً. وكان مقاتلو “داعش” متمسكين بجزء من البلدة القديمة في الموصل حيث المساكن المتراصة القديمة والدهاليز الضيقة مثالية لأسلوبهم في خوض الحرب.
مهما كانت اللحظة الدقيقة التي يتم فيها القضاء على آخر مقاومة لـ”داعش” في المدينة، فإن “الدولة الإسلامية”، كوحدة جغرافية ممتدة في شمالي العراق وغرب سورية، تشهد حالياً تحطمها. لكنها ما تزال تحتفظ ببعض الجيوب الكبيرة في وادي دجلة ووادي الفرات، مع أنها خسرت تقريباً معظم مراكزها الحضرية القريبة من الرقة في سورية وتلعفر في غرب الموصل. كما أن “داعش” متجذر في المجتمع العربي السني القوي في العراق، والذي يضم نحو خمسة إلى ستة ملايين نسمة ويتحمل خسائر كارثية منذ فقد السلطة مع سقوط صدام حسين في العام 2003.
ما من شك أهمية الانتصار الذي حققته القوات العراقية الحكومية. وما كان ليتحقق لولا الضربات الجوية الماحقة القيادة الأميركية، لكن القوات البرية العراقية هي التي كانت حاسمة في إلحاق الهزيمة بعدو متعصب، لكنه ماهر عسكرياً، وألحقت به خسائر جسيمة.
على الرغم من أن المعنى الرمزي لاستعادة الموصل بسيط، فإن هذه الاستعادة للموصل تنطوي على معاني كبيرة. فقد صعد “داعش” إلى المسرح العالمي في حزيران (يونيو) من العام 2014، عندما استولت الآف قليلة من مقاتليه على المدينة التي تعتبر ثانية كبرى المدن العراقية، بعدد سكان بلغ مليوني نسمة، بعد أربعة أيام فقط من القتال ضد حامية عراقية يفترض أن عدد رجالها كان 600.00 رجل. وكان ذلك انتصاراً مدهشاً لدرجة أن “داعش” اعتقد أنه انتصر بمساعدة إلهية. لكن هزيمة “داعش” في الموصل، وفشله في كل معركة أخرى، أصبح يفند الإدعاء بالمصادقة الإلهية على حكمه.
يلقى تعثر “داعش” الترحيب في بغداد ولدى قادة الحكومات في كل أنحاء العالم. لكن أعداء “داعش” ربما يكونون متسرعين قليلاً في تقاسم فروة الأسد قبل تأكدهم من أن الحيوان قد انتهى فعلاً. وبالنظر وراء إلى تاريخ ملحمة معركة الموصل، سوف نجد بعض المحصلات التي لا تبعث كثيراً على الارتياح.
لا تبتعد الإدانات الكثيرة لتنظيم “داعش” كعقيدة موت إجرامية كثيراً عن الصواب. لكن النفور المفهوم من أعمال الفظيعة يميل إلى التغطية على حقيقة أن قادته هم خبراء عسكريون مجربون. وكانت قد تم استبعاد الحركة باعتبارها قد انتهت في السابق من جانب خصوم مفرطين في الثقة، مثلما حدث خلال الفترة بين العامين 2007 و2011، عندما تعرضت الحركة لضربة قاسمة وجهها إليها الجيش الأميركي المعزز في العراق، بالإضافة إلى الكثير من الأعداء من المجتمع العربي السني. لكن الحركة تمكنت من النجاة عبر اللجوء إلى التقليل من ظهورها وانتظار أن تتحول الظروف لصالحها مرة أخرى، وهو ما حدث مع بدء الانتفاضة ضد النظام في سورية.
أما فيما يتعلق بالتطورات في العراق وسورية بعد السقوط المنتظر طويلاً للموصل، فعلى المرء أن يبقى في البال القول العسكري القديم المأثور: “إن لدى العدو أيضاً خطة”. وكان “داعش” يعرف دائماً أنه لا يستطيع الاحتفاظ بالموصل أو أي معقل آخر تحت وطأة الضربات الجوية التي تطلبها قوات العدو البرية. وفي القتال على مدن مثل تكريت وبيجي والرمادي والفلوجة خلال العامين الماضيين، لم يقاتل “داعش” حتى آخر رجل، وإنما ترك دائماً مقاتلين في الخلف ليوقعوا أبلغ الخسائر في صفوف القوات العراقية قبل الإفلات والانسحاب بعيداً. وقد يكون “داعش” غير رحيم في إزهاق أرواح أتباعه غير المدربين عسكرياً كمفجرين انتحاريين، لكنه يتوخى جانب الحذر في تقنين استخدام وفقدان نواة من المقاتلين المخضرمين الذين لا يمكن استبدالهم بسهولة.
في القتال في شرق الموصل؛ حيث يقسم نهر دجلة المدينة إلى شطرين، وضع “داعش” أقل من 1000 مقاتل في الخط الأمامي، وربما يكون الرقم الحقيقي الصحيح أقل من نصف هذا العدد. وقد استخدم هؤلاء المقاتلون نظاماً تكتيكياً يقوم على الدفاع المرن، حيث يستطيع قناصان أو ثلاثة، ومعهم فرق دعم صغيرة، منع القوات الحكومية العراقية من دخول ضاحية ما لأيام. وينتظر المفجرون الانتحاريون الذين يقودون في الغالب عربات محملة بالمتفجرات الأهداف حتى تقترب منهم في الشوارع الضيقة قبل مهاجمتها. وبالتنقل من منزل لآخر بسرعة عبر ثقوب وفتحات شقت في الجدران، أو من خلال الشوارع حيث يلف أفراد التنظيم أقمشة مشمع “تربولين” على رؤوسهم لمنع الطائرات الحربية أو الطائرات المسيرة من ملاحظتهم، أملت فرق “داعش” في تجنب تعقبها من الأعلى وتحطيمها بنيران الطائرات أو المدفعية.
كان خسران “داعش” للموصل حتمياً. لكن الأشهر الثمانية الطوال التي استغرقها حدوث ذلك كانت مثيرة. وقد يكون التنظيم قد توافر في المرحلة الأخيرة على عدد قليل من المقاتلين الذين لم يتجاوز عددهم 350 مقاتلاً في البلدة القديمة، لكنه لم يكن من الممكن طردهم كلهم بسهولة، كما أظهر هجوم مضاد مخطط جيداً شن قبل أسبوع من نهاية العمليات. وعموماً، كانت الطريقة التي قاتل بها “داعش” للاحتفاظ بالموصل هذه المدة أكثر إثارة للدهشة من استيلائه المفاجئ على المدينة قبل ثلاثة أعوام.
قد يكون القتال المطول في الموصل نذيراً بما يمكن أن يأتي لاحقاً. فقد فكر قادة “داعش” ملياً بشكل ملفت في كيفية تأجيل سقوط الموصل، ولا بد أنهم فكروا على نحو مشابه في الالتزام بنفس النهج بعد ذلك. وهم يسيطرون الآن على بعض البلدات الضخمة مثل تلعفر، وأخريات في غربي محافظة الأنبار، على الرغم من أنها سوف تسقط في الوقت المناسب. أما الأكثر صعوبة على الإخضاع، فهو جيوب التنظيم الريفية، مثل الحويجة في محافظة كركوك، ومساحات شاسعة من الصحراء وشبه الصحراء حيث كانت قاعدة “داعش” ومخابئه قبل توسعه السريع والمدهش في العام 2014.
لطالما شكل بث الرعب الممنهج من خلال الإرهاب جزءاً لا يتجزأ من الطريقة التي يخوض من خلالها “داعش” الحرب. ويتضمن ذلك الاغتيالات والتفجيرات الانتحارية لإظهار القوة والهيمنة على أجندة الأخبار في الوطن والخارج على حد سواء. وثمة إمارات قوية على توظيف هذه التكتيكات في 11 مدينة وبلدة في العراق، وخمس في سورية فقدها “داعش”، وفقاً لما ذكره مركز مقاتلة الإرهاب في ويست بوينت. ويقول المركز إنه تم شن 1.468 هجوما في الفترة بين يوم تحرير هذه الأماكن ونيسان (أبريل) من العام 2017، على الرغم من أن بعض هذه الهجمات اقتصرت على بضع طلقات نارية أو صواريخ أطلقها “داعش”.
يدرك “داعش” أنه عاد من قبل، وسوف يحاول بعث نفسه مرة أخرى على الرغم من أن ذلك لن يكون سهلاً للمرة الثانية على التوالي، لأن خصومه أصبحوا حذرين. وقد شُرد الكثير من المجتمع العربي السني وتحطمت مدنه وبلداته وقراه أو تم التخلي عنها. وسوف يأمل “داعش” في استغلال افتقار الحكومة العراقية إلى القوات ليحتل فعلياً أماكن كانت قد استعادتها منه.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عودة حكم الحكومة في العراق وسورية غالباً ما تقوم بتحييد الناس المحليين، لأنه يعني الفساد والابتزاز في معظم الأحيان. وقد أثخن “داعش” بالجراح، لكنه ما يزال على مسافة بعيدة من الموت.
باتريك كوبيرن
صحيفة الغد