للحكومة الإسرائيلية مصلحة في بقاء حماس في السلطة في غزة، لكن الضغط الذي تتعرض له الحركة من السلطة الفلسطينية ومصر يمكن أن يقودها إلى إشعال حرب أخرى مع إسرائيل
* * *
قبل ثلاثة أعوام، في تموز (يوليو) من العام 2014، شنت إسرائيل عملية الجرف الصامد في غزة، والتي جرت إسرائيل والفلسطينيين إلى صراع مسلح ضد إرادتهما. وتحولت الحملة إلى أكبر جولة من العمل الحربي في التاريخ الموسوم بالحقد لقطاع غزة ودولة إسرائيل، فاستمرت 51 يوماً، وانتهت إلى ما وصفه جنرال الاحتياط عاموس يادلين بأنه “تعادل استراتيجي غير متماثل”.
على الرغم من أن حماس تلقت ضرباً قاسياً، فإنها نجحت في إلحاق ضرر كبير بإسرائيل بالصواريخ التي أطلقتها طيلة الحملة. بل إنها أصابت سكان تل أبيب بالتوتر والعصبية، على الرغم من أن نظام الدفاع الصاروخي “القبة الحديدية” كان يوفر للمدينة حماية كاملة. وقد فقدت حماس معظم نظام أنفاقها، لكنها لم تُهزم. وتمكنت من النجاة، وخرجت من نهاية الحرب واقفة على أقدامها، بعد أن صمدت في وجه أقوى وأكثر جيش في الشرق الأوسط تجهيزاً وأفضلها تدريباً. بل إنها أجبرت إسرائيل على إغلاق مطار بن غوريون في تل أبيب لمدة 48 ساعة.
واليوم، ومن منظور الوقت، يبدو أن الإعلان عن تعادل كان كريماً إلى حد كبير في ميله لصالح حماس. فطبقاً لوضع وظروف المتحاربين بعد ثلاثة أعوام، تقدمت إسرائيل عن خصمها بمسافة كبيرة. وقد تميزت الأعوام الثلاثة الماضية بأنها كانت الأهدأ منذ أن بدأ الفلسطينيون في إطلاق صواريخ القسام على إسرائيل في العام 2001.
وفقاً لمصدر استخباراتي إسرائيلي تحدث شريطة عدم الافصاح عن هويته، فإن حماس الآن هي “في أدنى نقطة لها في مسار تطورها برمته”. كما وصف مصدر دبلوماسي إسرائيلي طلب عدم الإفصاح عن هويته هو الآخر وضع حماس بأنه “نضال حقيقي من أجل الوجود”. فالظروف في غزة لم تتحسن على الإطلاق. بل على العكس من ذلك، تتحرك إعادة بناء القطاع تتحرك بسرعة الحلزونة؛ والتيار الكهربائي نادر؛ ومياه غزة تصبح ملوثة أكثر فأكثر؛ والبطالة ضربت رقماً عالياً قياسياً؛ وتتدفق المياه العادمة إلى البحر.
وقال مصدر عسكري إسرائيلي عالي المستوى للمونيتور شريطة المحافظة على سريته: “ذات مرة كان الغزيون يعزون أنفسهم بالذهاب إلى شاطئ البحر في الصيف. والآن، حتى شاطئ البحر لم يعد آمناً، لأنه ملوث بمياه الصرف الصحي. وغزة الآن واحدة من أكثر الأماكن اكتظاظاً بالسكان في العالم خلال، في واحد من أكثر فصول الصيف حرارة التي تستطيع أن تتخيلها، وهي تعيش تقريباً من دون مكيفات هواء ومن دون أمل ومن دون طريق للخروج”.
أما في إسرائيل، فقط تطورت الأمور في الاتجاه المعاكس. فالمجتمعات المحلية المحيطة بغزة، والتي كانت تقصف بشكل روتيني خلال فترة الطوارئ، آخذة الآن في الانتعاش. وهي تتمتع بالهدوء والصفاء وتشهد هجرة داخلية لعائلات شابة جديدة. كما يستمر الاقتصاد الإسرائيلي في الازدهار. وقد أنهى رئيس الوزراء الهندي ماريندرا مودي في الآونة الأخيرة زيارة تاريخية لإسرائيل 5-7 تموز (يوليو) الحالي. وتبدو مدينة تل أبيب المرموقة والنفيسة الآن على بعد مليون سنة ضوئية من غزة، على الرغم من أن المسافة بينهما لا تتجاوز 40 ميلاً فقط.
ولكن، على الرغم من كل هذه الأخبار الجيدة، فإن العديد من الناس في إسرائيل يشعرون بالقلق. وكان الجنرال يواف مردخاي، رئيس تنسيق النشاطات الحكومية في الأراضي الفلسطينية، قد أعرب عن هذا القلق خلال الجولة السابقة من القتال بتحذيره من أن التردي في الوضع الإنساني في غزة يمكن أن يدفع حماس نحو الجدار. ومن مثل هذا الموقف، ستستطيع حماس عندئذٍ تخليص نفسها بتفجير كبير. وكان مخرج حماس من يأسها عندما اشتد الحصار حولها في العام 2014 هو أن تشق طريقها إلى الخروج بالقتال.
اليوم، تستطيع حماس أن تحلم وحسب بمثل ذلك الصيف. وحتى قطر، راعيها الأخير والوحيد، تعاني هي الأخرى من نوع مختلف من الحصار. والرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الجالس في رام الله، هو المسؤول عن “أزمة الكهرباء” في غزة بعد إلغائه الدفعات المستحقة لصالح شركة كهرباء إسرائيل التي تزود غزة بالطاقة. وفي ضوء هذه الحالة، كان لا بد لحماس من التذلل للمصريين الراغبين في التحدث عن تخفيف الحصار في مقابل أن تتخذ حركة حماس خطوات: القبول بأن يتولى جماعة عضو حركة فتح الرفيع السابق، محمد دحلان، مسؤولية إدارة الجانب الفلسطيني من نقطة عبور رفح؛ وأن يكون هناك تعاون فعلي مع صراع القاهرة ضد المنظمات التابعة لتنظيم “داعش” في شبه جزيرة سيناء، والتي تستمر في قتل الجنود المصريين بصورة يومية.
بذلك، تكون إسرائيل على عتبة مأزق، ممزقة بين عباس الذي يحاول إسقاط حماس، وبين مصر التي تحاول راهناً التغلب في المناورة على قيادة حماس. وتنظر حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى حماس باعتبارها أصلاً استراتيجياً نفيساً يسمح لإسرائيل بالاستمرار في إعلان أنه ليس هناك شريك دبلوماسي حقيقي على الجانب الفلسطيني. أما إذا سقطت حماس واستعاد عباس قطاع غزة، فسيشكل ذلك كارثة لاستراتيجية نتنياهو. ومن نافلة القول أن نتنياهو يفضل خصماً فلسطينياً مقسماً على شريك واضح. وهكذا، فإن الحكومة الإسرائيلية معنية بالحفاظ على نظام حماس في غزة، مع الإبقاء عليه نار هادئة، وإبقاء الكثافة منخفضة أيضاً. وهذه لعبة خطيرة ولا شك. فمن الممكن أن تفقد إسرائيل السيطرة على ألعابها، كما رشح في العام 2014.
يوم 9 تموز (يوليو)، شرع مردخاي في شن هجوم لاذع على حماس عندما كشف النقاب في صفحته في وسيلة التواصل الاجتماعي “فيسبوك” عن الكيفية التي تضخم بها الحركة سعر وقود الديزل الذي تشتريه لتزويد سكان غزة بالنزر اليسر من الكهرباء التي يتلقونها. وكان من المفترض أن يقوم الرئيس عباس بزيارة إلى القاهرة لمحاولة تهدئة تحمس القاهرة في قصة حبها الجديد مع غزة تحت رعاية دحلان. وإلى هذا الخليط، يجب على المرء إضافة الهجوم الإجرامي الذي نفذه “داعش” على جنود مصريين في رفح يوم 7 تموز (يوليو) الحالي، وتصريح مردخاي الذي تبعه ما يؤكد أن حماس لا تساعد مصر فعلاً في محاربة الإرهاب في شبه جزيرة سيناء لأنها تسمح بالمرور الحر للمتطرفين بين سيناء وغزة. وهذه هي السلَطة النمطية في الشرق الأوسط، التي تحتوي على كل المكونات الخام والتي قد تنجم منها في نهاية المطاف حرب أخرى، حرب لا يريدها ولا يحتاجها فعلاً أي من الأطراف، لكنها قابلة للاندلاع كما حدث في الماضي بالضبط.
فوق كل هذا، يحلق موضوع احتجاز حماس لجثتي جنديين من جيش الدفاع الإسرائيلي كانا قد قتلا في حملة الجرف الصامد: اللفتنانت هادار غولدن (ابن أخت وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشي يعالون)؛ والرقيب أورون شاؤول. وبالإضافة إلى ذلك، تحتجز حماس ثلاثة مدنيين إسرائيليين كانوا قد عبروا الحدود بمباردتهم الخاصة.
في العامين الأولين بعد حملة الجرف الصامد، تمتع نتنياهو بهدوء نسبي من عائلتي غولدن وشاؤول المثكولتين، فلم يكرس الكثير من الطاقة لهذا الموضوع. ومع ذلك، ومع مرور المزيد من الوقت، سوف تمارس العائلتان ومعهما الجمهور الإسرائيلي المزيد من الضغط على الحكومة من أجل استعادة جثتي الجنديين لدفنهما في إسرائيل. ولا تطالب عائلة غولدن بأن تطلق الحكومة سراح إرهابيين في صفقة تبادل سجناء، لكنها تصر على ممارسة ضغط كبير على حماس من أجل تحويل احتجازها لجثتي الجنديين إلى عبء.
من جهته، ربما يرغب نتنياهو في القيام بذلك، لكنه يعيش في وضع متناقض مربك على ضوء الاصطفاف الحالي للأبراج. سوف تؤدي ممارسة مزيد من الضغط على حماس إلى زيادة الأوضاع سوءاً، فيما قد يفضي إلى اندلاع حرب. ولعل الشيء الوحيد الذي ترك لإسرائيل لتفعله فهو الاستمرار في المناورة على طول السفح الضيق والخطير الذي يقف عليه كل اللاعبين. وقد بدأ الصيف تواً.
بن كاسبيت
صحيفة الغد