شكل التدخل العسكري الروسي في سوريا مفاجأة للمجتمع السياسي الغربي، بحيث لم تكن أهدافه ومصالحه آنذاك جلية بما يكفي لهم، وبالنسبة للعديد من المراقبين الغربيين قد لا يبدو هذا التدخل الاقليمي وكأنه استراتيجية متبعة بعينها وإنما تدخل انتهازي بحت، فالحقيقة هي أن روسيا لديها أهداف بالفعل، لكنها قد تشكل تعاليماً عامة بدلاً من أن تكون استراتيجيات عالمية أو إقليمية أو خاصة بكل دولة.
في حين قد لا تمتلك روسيا استراتيجية اقليمية واضحة المعالم في المنطقة، إلا أن تصرفاتها تشير إلى تطبيق استراتيجية عامة مفادها السعي باستمرار إلى تطوير مصالحها الاقتصادية والعسكرية والسياسية على حساب تقليصها عند خصومها المحتملين. ويمكن أن نطلق على هذه الاستراتيجية وصف “المنهجية القائمة على الفرص والموارد”، فكلما قلت الفرص والموارد التي تصب لصالح روسيا انعدمت المنافع والعكس صحيح.
وقد كثفت روسيا تدخلاتها في الشرق الأوسط منذ مطلع عام 2005، حيث قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما بين عامي 2005-2007 بزيارة كل من مصر وإسرائيل والمملكة العربية السعودية والأردن وقطر وتركيا وإيران والامارات العربية المتحدة، كما حصدت روسيا دور المراقب في مجلس التعاون الاسلامي، وقد تزامنت هذه الزيارات مع تزايد التدخل الروسي في المفاوضات الاقليمية، بما في ذلك عملية السلام في الشرق الأوسط، ومفاوضات مجموعة 5+1 مع إيران، والسعي لتحقيق المصالح الاقتصادية والتجارية الروسية.
وقد أثارت التغيرات السريعة في الربيع العربي مخاوف روسيا حيث قد تؤدي موجة الانتفاضات الشعبية هذه إلى تغييرات جذرية يمكن أن تؤثر على مصالحها في المنطقة.
وقد خلصت دراسة أجرتها مؤسسة راند في عام 2009 إلى أن السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط كان دافعها إقرار الهيبة الدولية وحرية التجارة والاستقرار الإقليمي، حيث لم تكن لها أي رؤية سياسية خاصة بالشرق الأوسط، بل اعتقاداً منها بأنها كقوة عالمية، ينبغي أن تلعب دوراً في المنطقة وأن تشارك في المفاوضات واتخاذ القرارات الرئيسية، ويتمحور جل ما قد ترنو إليه أهدافها حول نهجها في الاستقرار الاقليمي وأسعار النفط العالمية، وإن كان لروسيا أي مخاوف أمنية طويلة الأمد في المنطقة فستكون حول امتداد الارهاب إليها وللدول المجاورة.
ومن السياسات الروسية في الشرق الأوسط دعم هياكل الدولة والحكومات القائمة ضد التدخل الخارجي والتمرد الداخلي وأن التغيير يجب أن يحدث فقط من خلال الوسائل الدستورية وأجهزة الدولة وليس الانتفاضات الشعبية، وقد اعتبرت روسيا نفسها بديلاً يمكن لقادة الشرق الأوسط الاعتماد عليه عوضاً عن السياسات الغربية الفاشلة بنظرها، بينما لا تكاد تعدو في الواقع عن كونها سلطة تخريبية سعت مؤخراً لتفكيك أجزاء من أوروبا، كما أن تصرفاتها في الشرق الأوسط تتعارض مع إصرارها على سيادة كل دولة وأحقية عدم التدخل بشؤونها، وينطبق ذلك على إيران أيضا التي تتدخل في كافة شؤون المنطقة.
وتتسم علاقات روسيا بالجهات الحكومية وغير الحكومية في الشرق الأوسط على الأغلب بأنها علاقات ذات منفعة متبادلة، كما يظهر هذا النوع من العلاقات جلياً في العلاقة التي تربط بينها وبين إيران، حيث أن كلاهما تدعمان الحكومة السورية إلا أن طابع الشك وانعدام الثقة يغلب على ما بينهما نتيجة للاختلافات التاريخية والسياسية بين البلدين. كما أن بعضاً من العلاقات بين روسيا وبلدان الشرق الأوسط قد تحكمها عقبات لا تقهر، وتتضح هذه العقبات جزئياً من الواقع الجيوسياسي للمنطقة، ولكنها في المقام الأول نتيجة ثانوية للنهج الروسي غير اللوجيستي في العلاقات الإقليمية.
وعلى الرغم من مخاوف دول الشرق الأوسط تجاه روسيا، إلا أنها اتخذتها بديلاً هاماً عن الولايات المتحدة بعد أن فشلت دول المنطقة في تحقيق رغباتها، وبينما لا يمكن التكهن بماهية النوايا التي تخفيها كل من حكومات الشرق الاوسط في علاقاتها مع روسيا، إلا أن من بينها الإشارة للولايات المتحدة بوجود بديل عنها.
يعد تعزيز وحماية المصالح الاقتصادية لروسيا في الشرق الأوسط أحد الأهداف الأكثر متانة لسياسة موسكو في المنطقة، حيث أن التفاعل الاقتصادي بين روسيا ودول الشرق الأوسط آخذ في الازدياد بقيادة القوى الروسية، وتشكل الاستثمارات في الشرق الأوسط وغيرها من الأنشطة الاقتصادية الإقليمية جزءاً من جهود روسيا لبناء اقتصاد “ضد العقوبات”.
تتمتع روسيا بمصالح اقتصادية وتجارية كبيرة في قطاع الطاقة في الشرق الأوسط، بدءاً من الطاقة النووية إلى طاقة النفط والغاز، ويرجع ذلك إلى ما تمتلكه من شركات وأسواق رئيسة للمستهلكين والعملاء وحقول نفط في بعض دول المنطقة، ويستند نهج موسكو العملي تجاه الخليج – وخاصة المملكة العربية السعودية- إلى الرغبة في زيادة أسعار النفط العالمية، حيث تسعى روسيا إلى تثبيت أسعار النفط ثم زيادتها في سبيل الحفاظ على نفقات الدولة ومصارفها.
كما تبذل روسيا جهوداً متضافرة لاستعادة دورها كمورد للأسلحة يمكن أن تعتمده الحكومات العربية، حيث تعتبر المتاجرة بالأسلحة وبيعها للدول العربية أكبر غنيمة من الممكن أن تسلبها روسيا من قبضة الولايات المتحدة، خاصة بعد عجز الأخيرة عن التأثير على أحداث الربيع العربي، وعجزها عن تحدي التدخل الروسي في سوريا.
هناك ٣ احتمالات بشأن وجود استراتيجية لروسيا في الشرق الأوسط:
– هناك استراتيجية روسية ناجحة في الشرق الأوسط
– هناك استراتيجية اقليمية لروسيا في الشرق الأوسط ولكنها لا تسير كما خططت لها موسكو
أو
– ليس هناك استراتيجية روسية في الشرق الأوسط وهذا ما يعتقده شركاء روسيا
يذكر اندرو موناغان -الخبير في الشؤون الروسية- أن استراتيجية روسيا ماهي إلا حوار تعقده مع مستقبل سوريا القادم، لكن اتخاذ الدور العادي لم يعد يرض غرور روسيا التي تريد أن تفرض نفسها ونفوذها على المنطقة.
أما في خطاب بوتين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السبعين فقد تحدث عن احترام سيادة الدولة وعدم التدخل في شؤونها واتخذ بوتين هذا النهج كنهج بديل عن سياسات التدخل الغربي المتهورة، ولتعزز روسيا اتخاذها هذا النهج فقد عرضت صفقات اقتصادية دون أن تتطلب أي من الإصلاحات السياسية التي تدعو إليها أو تطالب بها الولايات المتحدة ودول غربية أخرى.
كما أن روسيا تدرك أن طاقة الغرب قد استنزفت في حرب العراق وأفغانستان وأن الدول الغربية لا ترغب في التدخل العسكري في سوريا مما يتيح المجال لروسيا لتفرض سيطرتها على المنطقة، على سبيل المثال صفقات البيع الروسية لأنظمة أسلحة الدفاع الجوي المتطورة إلى إيران وسوريا التي تؤثر على خيارات السياسة الغربية وتزيد من تعقيدها.
كما أظهر تحليل مؤسسة “راند” لمآزق السياسة السوفياتية في الشرق الأوسط لعام 1968 الوعي السوفييتي للتناقضات والتعقيدات في المنطقة وذكر أن الاتحاد السوفييتي سيواصل اتباع استراتيجية “الحد الأدنى” ساعياً إلى تعظيم فرص نفوذه ما لم تفرض الأحداث خياراً سياسياً جذرياً.
ولا يزال من غير الواضح كيف ستخرج روسيا نفسها من سوريا، وإذا كان تدخلها استثنائياً أو أنه بداية لمزيد من التدخل العسكري الروسي في المنطقة. وهناك قيود كبيرة على ما يمكن أن تحققه روسيا إن أرادت اتباع استراتيجية شاملة طويلة المدى في سوريا فهي تفتقر إلى القوة الاقتصادية والعسكرية كما أن الوضع الاقتصادي الروسي قد ازداد سوءاً منذ بداية الربيع العربي.
كما أن روسيا تفتقر إلى القوة الناعمة في المنطقة مقارنة مع الغرب. وفي حين أن روسيا قد أنشأت محطة إخبارية عربية “آر تي”، فإنه من غير الواضح ما إذا كانت جهود القوة الناعمة في روسيا سوف تتجلى في الشرق الأوسط بنفس الطريقة التي تبذل بها جذور مماثلة في أجزاء من أوروبا والولايات المتحدة.
كل هذه قيود تجعل استراتيجية روسيا قصيرة المدى علاوة على أن دول الشرق الأوسط تمتلك أعظم قوة في تحديد جدوى أي استراتيجية تتخذها روسيا كما أنها قادرة على تحديد عمق علاقتها مع روسيا عن طريق استغلال العلاقات التجارية بينها وبين روسيا.
الخاتمة:
بعد مرور قرابة السنتين على بداية التدخل الروسي في سوريا بدا من الواضح أن موسكو قد عزمت استمرار التدخل في شؤون الشرق الأوسط، وعلى الرغم من أن الدوافع الأساسية لسياسة روسيا ونفوذها وعلاقاتها التجارية واستقرارها لا تزال على حالها، إلا أن مصالح موسكو في المجالات الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية قد توسعت.
إن فهم أسباب تدخل روسيا في المنطقة أمر بالغ الأهمية في تحديد ما يمكنها تحقيقه وتفادي إساءة تفسير أفعالها.
ولا يجب المبالغة في وصف دور روسيا المحتمل في المنطقة فهي تواجه قيوداًعلى ما يمكن تحقيقه وما ستسمح به الأطراف الفاعلة المحلية.
وبالرغم من أن موسكو قد حققت بعض النجاح في سوريا،
إلا أنها قد تكون غير قادرة على تحويل هذا النجاح إلى قوة استراتيجية، حيث من المرجح أن يستمر التمرد في سوريا حتى وقت طويل.
وقد تضطر موسكو -في مرحلة ما- إلى اتخاذ قرار سياسي حاسم، ففي منطقة لاتعتبر ضمن أولويات السياسة الخارجية مثل آسيا وأوروبا، ما مقدار النفوذ الذي تريده روسيا فيها؟ وكم سيكلفها ذلك؟
روسيا تستغل أحداث الشرق الأوسط الجارية لتستعيد مكانتها كقوة عظمى، وقد استفادت روسيا من برامج التحديث العسكري منذ حرب عام 2008 مع جورجيا، وحققت أكبر قدر من الفرص في سوريا على خلفية الارتباك
المتصور لسياسة الغرب في المنطقة.
وترى روسيا أنها حققت -خلال فترة زمنية قصيرة- أكثر بكثير مما حققته في العقد الماضي، إلا أن مكاسبها الظاهرة يمكن أن تختفي حالما تتحقق.
لقد لعبت روسيا دوراً محدوداً بقدر ما تستطيع، ولا تزال غير قادرة على تحديد
النتائج في الشرق الأوسط، ونتيجة لذلك تكون السيادة بيد الأطراف الفاعلة في الشرق الأوسط، وبالتالي هي من يستطيع أن يمكن روسيا أو يفرض قيوداً عليها.
تعني هذه السيادة أن العناصر الواضحة للاستراتيجية الروسية – أي علاقاتها الدبلوماسية متعددة الأوجه أو اتجاهها التدخلي الأخير – يحتمل أن تحل محلها صفقات اقتصادية وصفقات طاقة وأسلحة طويلة المدى.
هذه الصفقات لها القدرة على تعزيز التدخل الروسي، وتوليد عوائد حقيقية، وتشكيل علاقات كل من روسيا والأطراف الفاعلة الإقليمية.
ملخص لورقة صدرت أمس عن “راند” الامريكي حول استراتيجية روسيا في الشرق الأوسط