حين تنعى الإدارة الأميركية حلّ الدولتين

حين تنعى الإدارة الأميركية حلّ الدولتين

بعد ربع قرن على انطلاق العملية السلمية في الشرق الأوسط بين إسرائيل من جهة ودول عربية ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى، في مؤتمر مدريد، برعاية الولايات المتحدة، مرورا باتفاقية أوسلو وآلاف اللقاءات التفاوضية التي استندت إلى قاعدة الأرض مقابل السلام، وذلك للوصول إلى “سلام عادل ودائم في المنطقة”، على ما ظل يقال، تأتي جولة الوفد الأميركي في المنطقة، برئاسة جاريد كوشنير مستشار الرئيس دونالد ترامب، لتكون محطة نهاية للمرحلة السياسية السابقة، من خلال تخلي الإدارة الأميركية الراهنة الصريح عن حلّ الدولتين، أي دولة فلسطينية إلى جوار دولة إسرائيل القائمة، عندما أصر الوفد على عدم التطرّق إليه، بذريعة ترك الأمور للتفاوض بين الأطراف المعنية في المنطقة، مع التركيز على طرح قضايا تتعلق بتحسين الظروف الحياتية للشعب الفلسطيني، في مقابل الطلب من السلطة الفلسطينية الاستمرار فيما سماها الوفد الأميركي إجراءات محاربة الإرهاب والتحري، والتوقف عن منح المخصصات المالية لأسر الشهداء والأسرى. وبذلك تكون الإدارة الأميركية الحالية قد أعلنت وفاة حل الدولتين، بعكس مواقف الإدارات الأميركية السابقة، على الرغم من انحيازها المعلوم للمواقف والرؤى الإسرائيلية.
في وقتٍ استقبل فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الوفد الأميركي، تم الإعلان عن إقامة ثلاث مستوطنات جديدة على أراض فلسطينية، جزء منها مملوك بشهادات الطابو لمواطنين فلسطينيين، في منطقة غوش عصيون في محافظتي الخليل وبيت لحم في جنوب الضفة الغربية، وعن إقامة مستوطنة رابعة قرب مستوطنة بيت إيل المقامة على أراضي مواطنين فلسطينيين شرقي رام الله، كان ترامب قد تبرع لها بعشرة آلاف دولار من أمواله الخاصة، قبل أكثر من عشرة أعوام. وبينما كان الجانب الفلسطيني يعوّل على موقف أميركي من قضية مصادرة الأراضي وبناء مستوطنات يهودية عليها، لم يتحدث الوفد الأميركي ولو بكلمة ضد الاستيطان، ما يعتبر دعماً أميركياً واضحاً للاستيطان، وتبنيا لموقف اليمين الصهيوني الديني، بمشروعه الاستيطاني الاحلالي التهويدي في كل الأراضي الفلسطينية، بالتزامن مع إعلان ما يسمى الصندوق القومي اليهودي عن قراره العودة إلى الاستيلاء على أراض فلسطينية في الضفة الغربية ومصادرتها، للاستمرار في بناء المستوطنات، وذلك بعد توقفٍ دام عشر سنوات، الأمر الذي يشكل نسفا تاما للمرحلة السياسية السابقة، والعودة إلى

وضع أسوأ مما كانت عليه الأمور قبل اتفاقية أوسلو، من حيث مساحة الأراضي الفلسطينية المقام عليها مستوطنات يهودية، ومن حيث أعداد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية.
واضحٌ تماماً أن الإدارة الأميركية الحالية، برئاسة دونالد ترامب، لم تتخلّ فقط عن حل الدولتين، لا بل ذهبت بعيداً في تبنيها مواقف التيار الديني اليميني الصهيوني الذي يتبنى شعار إسرائيل الكبرى بشأن مستقبل القضية الفلسطينية، بشكل يتناقض حتى مع بعض القوى والأحزاب اليهودية التي تطرح مواقف سياسية أكثر اعتدالا ومرونة من الموقف الأميركي الجديد، والذي أفقد الإدارة الأميركية دورها راعيا للعملية السلمية في المنطقة، وجعلها في دائرة الأعداء للشعب الفلسطيني. ويعزّز المواقف الأميركية الجديدة الرافضة الاعتراف بالحقوق الوطنية والشرعية للشعب الفلسطيني أن معظم طاقم البيت الأبيض، من مستشارين ومساعدين وخبراء، هم من الصهاينة، ومن الجماعات الأميركية اليمينية المحافظة، والتي تربطها علاقات تحالف وشراكة مع اليمين الإسرائيلي المتطرّف، أمثال مستشار الرئيس ترامب وصهره اليهودي المتشدّد كوشنير، والذي تزوج من ابنة ترامب إيفانكا بعد اعتناقها اليهودية، وسفير الولايات المتحدة الحالي في إسرائيل، اليهودي اليميني المتشدّد دافيد فريدمان، والذي قاد الحملة الانتخابية للرئيس ترامب، ويعتبر من أشد داعمي الاستيطان في الضفة الغربية، ويملك شقة سكنية في مستوطنةٍ أقيمت على أراضٍ فلسطينية خاصة، وفي حوزة أصحابها الفلسطينيين الأوراق والشهادات التي تثبت ملكيتهم لها. كما يعتبر فريدمان من أكثر الرافضين لحل الدولتين، ووصل فيه الأمر إلى وصف أصواتٍ أميركية في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما داعمة لحل الدولتين بأنها أصوات نازية. وكانت ابنته طاليا قد وصلت إلى إسرائيل قبل أسابيع للاستيطان، وقد أعلنت عن رغبتها بالالتحاق والخدمة في صفوف جيش الاحتلال.
لذلك باتت الإدارة الأميركية الحالية برئاسة دونالد ترامب من أشد الإدارات الأميركية عداوة للشعب الفلسطيني وحقوقه، ما ظهر في تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في أثناء استقباله الوفد الأميركي، عندما ادّعى أن السلام مع العرب أصبح الآن متاحا وفي متناول اليد، أكثر من أي وقتٍ مضى، والذي ينسجم مع مضمون صفقة القرن التي تحدث عنها ترامب، ويحاول وفده تمريرها في المنطقة، وهي إقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية وأمنية بين إسرائيل ودول عربية، وصولا إلى تحالفاتٍ إسرائيلية عربية في مواجهة “الإرهاب”، وما يسمّى “الخطر الإيراني”، وذلك على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية العادلة، على الرغم من ادعاء أنظمةٍ عربية تهرول باتجاه العلاقة مع إسرائيل أن القضية الفلسطينية ما زالت قضية العرب الأولى.
على الصعيد الشعبي الفلسطيني والرأي العام، كما النخب السياسية، لم يكن هنالك أي تفاؤل بإمكانية إحداث تقدم في العملية السياسية من زيارة الوفد الأميركي، إلا أن الجديد كان في تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والذي بدا واضحا إقراره بتراجع حل الدولتين، عندما تراجع عن الإكثار في الحديث عنه، ووصفه الظروف بأنها معقدة وصعبة، إلا أنها ليست مستحيلة، حسب وصفه، وهو الذي عمل المستحيل من أجل الوصول إلى اتفاقية سلام مع

إسرائيل عبر المفاوضات. وبالتالي، أصبحت القيادة الفلسطينية الآن مطالبةً بالإقرار بفشل حل الدولتين ونهايته، من خلال إستراتيجية سياسية جديدة وشاملة، تتضمن التعامل مع الإدارة الأميركية بوصفها طرفا داعما للاحتلال، ورافضا للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وليس وسيطا وراعيا لعملية سلام وهمية، لم تؤدِّ الا إلى مزيد من المستوطنات، وعزل القدس، وتقطيع أوصال الضفة الغربية، وسلخها عن قطاع غزة.
وتتطلب الاستراتيجية الخروج بموقف فلسطيني وطني، وتجاوز صفحة المناكفات الداخلية، وتبني مشروع نضالي يعيد تعريف السلطة ودورها، وإحياء منظمة التحرير، باعتبارها الإطار التمثيلي الجامع للكل الفلسطيني في الوطن والشتات، بعد أن تراجعت مكانتها ودورها في الحركة الوطنية الفلسطينية، بعد إقامة السلطة الوطنية وفق اتفاقية أوسلو. كما تتطلب المرحلة السياسية الجديدة الاتفاق على برنامج نضالي شعبي سلمي، وخصوصا بعد أن حقق الشعب الفلسطيني، بإرادته الوطنية، انتصارا كبيرا في جولة المسجد الأقصى أخيرا بشأن البوابات والكاميرات، وبالتزامن مع النضال السلمي، والتوجه أيضا إلى المسارات القضائية والسياسية الأخرى، مثل محكمة الجنايات الدولية لملاحقة إسرائيل، والانضمام إلى باقي المؤسسات الدولية، وذلك كاستراتيجية فلسطينية، وليس رد فعل تكتيكي ولحظي للتلويح به. إضافة إلى انضمام السلطة الفلسطينية لحركة المقاطعة الدولية، مع العلم أن قوى ومؤسسات يسارية إسرائيلية تشارك في حملة المقاطعة ضد المستوطنات ومؤسساتها الأكاديمية والاقتصادية، فحري بالسلطة وكل الفصائل الفلسطينية أن تكون في طليعة حملة المقاطعة الدولية للمستوطنات.

عادل شديد

صحيفة العربي الجديد