وكأن الرئيس دونالد ترامب لا يواجه أصلاً ما فيه الكفاية من المشاكل (بعضها لسوء الحظ من صنع يديه- انظر إلى تشارلوتسفيل، فيرجينيا)، حتى تكون هناك واحدة أخرى تُضاف إلى القائمة: إذا لم يتوخَّ الحذر، فإن الرئيس يخاطر بالذهاب إلى سجلات التاريخ باعتباره الرجل الذي هزم “داعش” فقط ليجعل الشرق الأوسط مهيأ للهيمنة الإيرانية.
لا يوجد الكثير من الشك فيما يتعلق بما يدور في خلد الإيرانيين من خطط. فعندما طرد الائتلاف المدعوم من الولايات المتحدة “داعش” من معاقلة المتبقية، سارعت قوات بقيادة جهاز الحرس الثوري الإيراني، مدعومة بقوة جوية روسية –ونظام الرئيس السوري بشار الأسد وحزب الله وميليشيات شيعية- إلى ملء الفراغ، وتأمين شريط استراتيجي على طول الحدود العراقية السورية، وجسر بري يمتد من إيران إلى البحر الأبيض المتوسط. ومن هناك، سوف يسعى جهاز الحرس الثوري الإيراني مع مرور الوقت إلى إقامة سلسلة من القواعد البرية والجوية والبحرية في عموم المنطقة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط، ليصعد بطريقة دراماتيكية قدرته على تهديد حلفاء الولايات المتحدة في الخليج والأردن، وبشكل خاص إسرائيل.
هل تريد إدارة ترامب القضاء على طموحات إيران الخطيرة؟ الجواب المختصر هو: نحن لا نعرف فقط. فرسائلها مختلطة بشكل متعمد. فعلى المستوى العام يعرب مسؤولو الإدارة بانتظام عن التصميم على مكافحة العدوانية الإيرانية. وبتحديد أكثر، قال وزير الخارجية الأميركية ركس تيلرسون إن على جهاز الحرس الثوري الإيراني ووكلائه الأجانب “المغادرة والعودة إلى أوطانهم” كجزء من الحل النهائي للصراع السوري. وفي حفنة من المناسبات هذا الصيف، عندما سعت إيران ووكلائها إلى تحدي المواقع المدعومة أميركياً في سورية (بالقرب من عاصمة “داعش” في الرقة وعلى الحدود مع الأردن)، قوبلوا برد سريع وقوي -بما في ذلك إسقاط طائرتين إيرانيتين مسيرتين، بالإضافة إلى إسقاط طائرة مقاتلة سورية من طراز سوخوي أس يو.
كل هذا حسن وجيد، وفق ما تصير إليه الأمور. ولكن من جهة أخرى، ما يزال الجيش الأميركي يواجه صعوبات في التشديد على أنه سيتصدى وحده سوف للعناصر الموالية للأسد لغايات حماية قوة صغيرة من دون ذكر إرخاء القبضة الاسترتيجية الإيرانية. وبعد إسقاط طائرة السوخوي، أصدر الائتلاف المعادي لتنظيم “داعش” والذي تقوده الولايات المتحدة بياناً شدد فيه على أن مهمة الائتلاف تكمن في “إلحاق الهزيمة بتنظيم ‘داعش’ في العراق وسورية. ولا يسعى الائتلاف إلى قتال النظام السوري أو الروسي أو القوات الموالية للنظام المشاركة معهم، لكنه سوف لن يتردد في الدفاع عن قوات الائتلاف 22 في وجه أي تهديد”.
وبعد أيام ساءت الأمور بشكل حاسم. وذهب الناطق الأميركي بلسان الائتلاف، الكولونيل ريان ديلون، إلى حد الترحيب فعلياً بهجوم منسق من جانب القوات المتحافة مع جهاز الحرس الثوري الإيراني للاستيلاء على معاقل “داعش” الغنية بالنفط في منطقة دير الزور المهمة جداً على الحدود السورية العراقية -تحديداً الشريط الضروري لاستكمال الجسر البري الإيراني. وفي رد على عدة أسئلة عن وجهة النظر الأميركية عن الهجوم المضاد المتواصل من جانب القوات الموالية للأسد لإعادة غزو شرقي سورية، وخاصة دير الزور وبلدة البوكمال الحدودية الحيوية، كرر ديلون القول إن الائتلاف لن يقف في المعارضة -طالما كان هناك عدم تصادم مناسب مع القوات المشاركة للولايات المتحدة. وكانت إجاباته صادمة جداً وعكست قصر نظر استراتيجي مفرط إلى درجة يحسن معها اقتباسه بشكل مطول:
“حسناً، إذا كان النظام السوري -ويبدو أنهم يبذلون جهداً منسقاً للدخول إلى المناطق التي يسيطر عليها ‘داعش’. وإذا أظهروا أنهم يستطيعون فعل ذلك فهذه ليست علامة سيئة. نحن هنا لنقاتل ‘داعش’ كتحالف. ولكن إذا أراد آخرون قتال داعش وهزيمته، فعندها لن تكون لدينا أي مشكلة قطعاً في ذلك. وبينما يتحركون شرقاً في اتجاه البوكمال ومنها إلى دير الزور، وإذا نحن- طالما نمنع الصراع ونتأكد من أننا نستطيع التركيز على ما وجدنا من أجله هنا لعمله من دون حدوث أي نوع من حوادث استراتيجية مؤسفة مع النظام أو مع القوات موالية للنظام أو مع الروس فعندها- نكون سعداء تماماً حيال ذلك…”.
“أنتم تعرفون أن النظام تحرك إلى الداخل، وأنه أحرز بعض التقدم، كما تعرفون، باتجاه التحرك نحو البوكمال وربما دير الزور. وإذا أرادوا قتال ‘داعش’ في البوكمال ولهم القدرة على فعل ذلك -عندها سيكون ذلك موضع ترحيب”.
“نحن كائتلاف لسنا بصدد الاستيلاء على الأراضي. نحن في مجال قتل ‘داعش’ وذلك ما نريد أن نفعله. وإذا أراد النظام السوري فعل ذلك وكان مستعداً لبذل جهد منسق وإظهار أنه يفعل ذلك في البوكمال ودير الزور والأماكن الأخرى، فذلك يعني أنه ليس علينا القيام بذلك في تلك الأماكن… لكن إذا كان وصولنا إلى البوكمال مغلقاً لأن النظام موجود هناك، فلا بأس بذلك”.
سمح لتصريح ديلون عن السياسة الأميركية بالاستمرارية لمدة شهرين بدون أن تفنده أو تطعن فيه سلطات مأذونة أكثر في واشنطن. بل على العكس، في الفترة الفاصلة قطعت الولايات المتحدة خطوات إضافية عدة، والتي سيكون لها أثر في جعل تحقيق التقدم في شرقي سورية من جانب إيران وروسيا ونظام الأسد أسهل.
غني عن البيان أنه في وقت مبكر من تموز (يوليو)، باركت الإدارة سلسلة من الاتفاقيات لوقف إطلاق النار في غرب سورية، والتي فاوضت عليها روسيا بما في ذلك اتفاقية بالقرب من الحدود مع إسرائيل والأردن ساعد دبلوماسيون أميركيون في صياغتها. ومع أنها لقيت الإشادة باعتبارها انفراجاً يمكن أن يساعد على التقدم نحو وضع نهاية للحرب الأهلية في نهاية المطاف، فإن الأثر الأكثر مباشرة لاتفاقيات وقف إطلاق النار تمثل في مساعدة نظام الأسد على تعزيز مكاسبه في ميدان المعارك في غرب سورية، بينما يتم تحرير موارد قوى بشرية لدعم الهجوم المضاد هذا الصيف في الشرق.
بعد ذلك بوقت قصير أكدت الإدارة أنها أنهت برنامجاً لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من حقبة أوباما لدعم الثوار المعادين للأسد. وبعد أيام وحسب، وفي أواخر تموز (يوليو)، أعلن الجيش الأميركي أنه قطع روابطه مع واحدٍ من شركائها العرب السُنة في جنوب سورية، بعد أن كانت المجموعة، شهداء القريتين، قد شنت عمليتين لإعاقة تقدم القوات الموالية للأسد في اتجاه الشرق. وفي تفسيره لذلك التحرك، أقر ديلون” بأن شهداء القريتين كانوا شركاء مهمين في القتال ضد ‘داعش’ في حنوبي سورية”. لكنه قال: “أوضحنا مرة بعد الأخرى أن هدفنا في سورية والعراق هو قتال ‘داعش’ وقتال ‘داعش’ فقط… ولذلك تحدثنا منذئذٍ مع ‘شهداء القريتين’ وأعلمناهم بأننا لا نستطيع دعمهم إذا كانوا يريدون السعي إلى تحقيق أهداف غير إلحاق الهزيمة بداعش”.
غنيّ عن البيان أن عدم التساوق الاستراتيجي الأميركي الظاهر عندما يتعلق الأمر بالمخططات الإيرانية في سورية قد أقلق العديد من الأصدقاء الإقليميين الأكثر أهمية -ولا أحد أكثر من إسرائيل. وقد أعرب وفد أمني إسرائيلي رفيع المستوى عاد تواً من زيارة لواشنطن عن “قلق عميق” من أن تكون الولايات المتحدة قد تراجعت عندما تعرضت للضغط بشأن اشتراط عدم إقرار أي تسوية سورية من دون إجلاء القوات المتحالفة مع إيران. وقيل إن الإسرائيليين قالوا لنظرائهم الأميركيين: “لقد أسرعنا إلى هنا للتحذير من انتشار قوات حزب الله والقوات الإيرانية والسورية؛ ولشرح ما يجري هناك بالضبط. ومن دون تغيير كبير في الموقف (الأميركي)، وإذا لم تنخرطوا بشكل أكبر وأكثر حزماً، فسوف تتركون الشرق الأوسط للإيرانيين تحت رعاية الروس”. وفي الرد على تحذيراتهم أحس الإسرائيليون بنوع من الإحراج من طرف إدارة ترامب، ناجم عن “افتقارهم لموقف واضح… فيما يتعلق بطبيعة التوافق أو عدم التوافق المستقبلي حولما يجب أن يتم وما لا يجب أن يتم عمله في سورية لجلب الهدوء إلى المنطقة. بالقدر الذي يهمهم، ما تزال المسألة مفتوحة بشكل واسع”.
يعرف كل مَن أمضى وقتاً مع كبار المسؤولين الإسرائيليين في العام الماضي كم كانوا جديّين جدا بخصوص التهديد الإيراني الناجم في سورية. وقد تركوا القليل من الشك في أن أي نصر مباشر لإيران -والذي يعرف بامتلاك أي قدرة إيرانية دائمة لاستخدام سورية كمنصة إطلاق لعدوان عسكري على إسرائيل- لن يكون مقبولاً. ومن شأن تعزيز شريط بري يسيطر عليه جهاز الحرس الثوري الإيراني ووجود نقاط عسكرية أمامية دائمة أن يشهد ذلك الكابوس يتحقق. وبينما فضلت إسرائيل بشدة أن تأخذ الولايات المتحدة زمام القيادة في وقف هذا التدهور الخطير في وضعها الجيواستراتيجي فإن هناك كل الأسباب للاعتقاد بأنها ستتدبر أمورها بنفسها إذا تعثرت أميركا.
أصبح من المؤكد الآن أن نهاية اللعبة في سورية تقترب بسرعة. ومن المؤسف أنه بعد ستة أعوام تقريباً من تخلي إدارة أوباما عن الدور القيادي الأميركي، لم تعد هناك نجاحات تتحقق -وإنما مجرد تخفيف من الكوارث الأسوأ. وعلى رأس القائمة، يجب منع حدوث تحول أساسي في ميزان القوى لصالح ألد أعداء أميركا في منطقة لطالما اعتبرت حيوية بالنسبة للمصالح الأميركية. يلي ذلك تجنب اندلاع حريق هائل إسرائيلي-إيراني، والذي يستطيع جعل الشرق الأوسط الراهن يبدو مثل مجرد لعبة طفل. وما من شك في أن محاولة منع حدوث هذه الكوارث المزدوجة هي أمر صعب. بل إنه يكاد يكون مستحيلاً ما لم تقرر الولايات المتحدة فعل شيء. وبالنسبة لإدارة ترامب، حان الوقت لتقرير ما الذي سوف تفعله مع تراكم التهديد الإيراني في سورية.
جون هانا
صحيفة الغد