الثورة السورية التي بدأت في منتصف آذار (مارس) 2011 تحولت خلال أشهر قليلة إلى صراع مسلح بين نظام الأسد وقوات «حزب الله» و «الحشد الشعبي» الذي تدعمه طهران من جهة، وقوى إسلامية متطرفة تقاتل تحت راية «القاعدة» وتعمل على ابتلاع القوى الثورية المحلية والمنشقين عن الجيش السوري من جهة أخرى. الثورة التي بدأت ثورة سلمية شعبية ترفع شعارات الحرية والعدالة والكرامة، وتدعو إلى إنهاء احتكار النظام للسلطة، انتهت نتيجة دهاء الطغمة الحاكمة في دمشق إلى صراع طائفي. هل يعني ذلك أننا أمام مشهد جديد يعود فيه النظام إلى سابق عهده، ويتم وأد الثورة وعودة الخضوع لقواعد الحكم السلطاني التي اعتقد السوريون أنهم تجاوزوها عندما أعلنوا قيام الجمهورية السورية عقب الاستقلال من الوصاية الفرنسية؟ هذا السؤال المهم والصعب يدور في رؤوس السوريين في المناطق الخاضعة للنظام والمناطق الخارجة عنه، كما يدور في رؤوس المهجرين السوريين المنتشرين على حدود سورية وعبر القارات الخمس. ولأن السؤال معقد، والمتغيرات التي تحكمه عديدة ومتحولة، فإن محاولة تقديم مشهد واضح لمآلات الصراع ستكون أقرب إلى التنجيم منها إلى التكهن العلمي. وغاية ما نستطيع تحديده عملياً بناء على المعلومات والمعطيات المتوافرة هو رسم الخطوط العريضة لاتجاه الثورة ومآلات الصراع، والتي يمكن اختصارها بالنقاط الست الآتية:
أولا: عودة النظام إلى التحكم بالمجتمع المدني السوري كما فعل قبل الثورة، رغبةٌ إيرانية روسية لا تعضدها الوقائع، نظراً الى التراجع الكبير في قدرات النظام المالية والعسكرية، والتغيرات العميقة التي تركتها الثورة وأساليب القمع الوحشي التي اتبعها النظام والتي ترسخت في وعي جيل كامل من السوريين بلغ رشده خلال سنوات الثورة. الدمار الكبير في البنية التحتية سيحتاج إلى إمكانات غير متوافرة بسبب تراجع الرصيد المالي للدولة، وهجرة الكفاءات العملية خارج البلاد. أضف إلى ذلك أن العبء الاقتصادي الذي تحمله حلفاء النظام لا يسمح لهم بتوفير رأس المال المطلوب لإعادة الإعمار.
ثانيا: سيواجه النظام تحدياً كبيراً في استعادة قدرته على التحكم في مفاصل الدولة عبر أجهزة مركزية، كما فعل خلال نصف القرن الماضي، نظراً للاستنزاف البشري الكبير في حاضنته، وتراجع قدراته المالية والبشرية، وتزايد نفوذ الميليشيات الشيعية والميليشيات التابعة لإيران في جميع المناطق. سيكتشف النظام سريعاً أنه عاجز عن لجم الهيمنة الإيرانية بسبب حاجته إلى دعم إيران الذي سيستمر حتى لحظة سقوطه، نظرا لوصول النفوذ الإيراني إلى داخل الأجهزة الأمنية التابعة له.
ثالثا: الخطة الحالية لإنهاء الصراع في سورية لن تؤدي إلى تجاوز الأسباب التي دفعت السوريين الى الانتفاض والثورة، بل على العكس تسعى إلى تكريس الواقع السيئ الذي ساد خلال حكم حزب البعث، فالنظام الذي تبنى سياسات عنصرية وطائفية وفئوية خلال ولاية حافظ الأسد، أضاف خلال حكم بشار الأسد إلى سجله الماضي مئات الآلاف من ضحايا التعذيب، والاختفاء القسري، والقتل العشوائي للمدنيين، وتدمير المنازل والبنية التحتية في أحياء واسعة من المدن والقرى والسورية. تجاوز أسباب الصراع يحتاج إلى الدخول في برنامج محاسبة ومصالحة، وهو أمر يعجز عنه نظام استبدادي مسؤول عن بدء الصراع وتحوله إلى صراع دموي مأسوي.
رابعا: كشفت الثورة السورية مخاطر الاصطفاف خلف حركات التشدد الإسلامي، كما أظهرت عجز الحركات الدينية ذات الرؤية الحصرية عن قيادة المجتمعات المعاصرة، والتشابه الكبير بين الاستبداد العلماني الذي مثله نظام البعث في سورية، والاستبداد الديني الذي تجلى في سلوكيات السلفية الجهادية. التشابه بين سلوكيات الطرفين يؤكد أن المشكلة التي تواجهها المجتمعات العربية ليست مشكلة بنيوية تتعلق بالقوى والأحزاب الحاكمة، بل مشكلة ثقافية تتعلق بالقيم والمواقف التي تقود الإنسان العربي في تحركاته السياسية.
خامسا: أظهرت أحداث الثورة ضرورة بروز كتلة سياسية حرجة، تملك القدرات التنظيمية والقيادة الواعية، لمنع تشرذم المعارضة وتفتتها، كما أظهرت خطل التعويل على الخطاب الداعم لدول تملك مصالح متضاربة للقيام بعملية التغيير. تفكيك المعارضة السورية تم خلال ست سنوات، وبخطوات مضطردة، بدأت بشرذمتها بين معارضة ثورية وسياسية، ثم بين معارضة داخل وخارج، ثم بين معارضة وطنية وأممية.
سادسا: كشفت الثورة في سورية، وفي دول الربيع العربي، التراجع المخيف في قدرات المجتمع العربي الذي عاش تحت ثقل الأنظمة الشمولية المستبدة، وأظهرت تداعيات العيش في مجتمع تحكمه ممارسات القوة والحظوة والمحسوبية، وفي مجتمع لا يدرك أفراده أن كرامتهم وكرامة أبنائهم لا يمكن أن تتحقق في غياب الأخلاق العامة، واحترام القانون العادل، والتضامن في وجه الظلم والفساد.
عودة إلى السؤال الذي انطلقنا منه: هل نجح النظام السوري وحلفاؤه في احتواء الثورة؟
في سياق التطورات على الأرض، وفي ضوء النقاط الست السابقة يمكن القول أن النظام نجح في احتواء الثورة جزئيا، ولكنه عاجز عن السيطرة على البلاد بالطريقة المركزية التي ميزت سورية قبل الثورة. ولأن حلفاء النظام يدركون ضعفه ومكامن القوة الماثلة في المناطق المحررة فهم يسعون اليوم إلى تحويلها من مناطق محررة إلى مناطق هدن. المطلوب تحويل تلك المناطق إلى مساحات لخلق مجال لقيام مجتمع مدني حيوي، ومناطق حكم ذاتي يمكن أن تتحول إلى نموذج بديل من نموذج الدولة المركزية التي تتحكم فيها أسرة الأسد وطغمة فاسدة من أصحاب المال المنتفعين من بقاء النظام. العمل لتحويل الهدن إلى بديل من الحكم المركزي الاستبدادي شيء تجاهلته المعارضة السياسية، المنشغلة بمفاوضات جنيف الفارغة من الفاعلية الدولية، والتي تحولت بالتدريج إلى ثقب أسود تتلاشى داخله جهود المعارضة وتضيع.
المعارضة السياسية التي سبقت قيام الثورة، وتلك التي أفرزتها السنوات الثلاث الماضية، أظهرت عجزها الواضح عن التحول إلى كتلة متماسكة داخلياً، كما عجزت عن توليد قيادة سياسية يلتف حولها الجميع. الشيء الوحيد الذي تستطيع المعارضة الحالية تقديمه هو دعم جهود توحيد مناطق الهدن، وتحويلها إلى مناطق لقيادة المرحلة القادمة سعياً إلى تغيير سياسي حقيقي في سورية يقوم به جيل جديد من الشباب السوري الذي وقف بصلابة في وجه عدوان النظام وإجرامه. المرحلة الأولى من التغيير السياسي بدأت في سورية، ولكن إنجاز التغيير السياسي المطلوب لن يتم من خلال الحراك الشعبي والتضحيات الوطنية وحسب، بل سيحتاج إلى رؤية سياسية واجتماعية جديدة، وإلى نضج فكري ونظرة حضارية مختلفة تماماً عن تلك التي حكمت التحرك الثوري في مراحله الأولى.
لؤي صافي
صحيفة الحياة اللندنية