يسعى الروس إلى استعادة وزنهم ودورهم المفقود، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، والمنظومة الاشتراكيّة- الشرقيّة المرتبطة به. وخطت موسكو خطوات مهمة واستراتيجيّة في هذا المسعى- الاتجاه، سواء في أوكرانيا أو جمهوريّات آسيا الوسطى، واستغلالها الأزمة السوريّة للحدود القصوى، عبر دعم ومساندة نظام فاشي ومارق أجرم بحق شعبه. بهذه الطريقة، استعادت موسكو مقداراً لا بأس به من دورها السابق، ليس كلاعب فحسب، بل كقطب دولي، بخاصّة بعد أن تنازلت واشنطن ولندن وباريس وبروكسيل عن الملفّ السوري، وباتت موسكو المرجعيّة شبه الوحيدة في ما يتعلّق بمستويات الحلّ وأشكاله وطرائقه…، في سورية.
كذلك إيران وتركيا، الجارتان اللدودتان، تحاولان إيجاد دور وازن واستراتيجي لهما في منطقة الشرق الأوسط والعالم، حتى لو اضطرهما الأمر إلى استثمار الإرهاب والجماعات الإرهابيّة لتحقيق أكبر مقدار ممكن من التوسّع في النفوذ والسيطرة. وحتّى الآن، تميل الكفّة إلى إيران على حساب تركيا التي باتت تحقق فشلاً، أو لنقل: تراجعاً، بنكهة الفشل.
مناسبة هذا الكلام، هو طرح التساؤل التالي: لماذا لا تحاول ألمانيا، باعتبارها دولة قويّة اقتصاديّاً وبشريّاً، وعسكريّاً وأمنيّاً، أن يكون لها ذلك الحضور الاستراتيجي الوازن والفاعل، الذي يوازي قدراتها ومؤهلاتها كدولة عظمى، على رغم أنها ليست من الدول الدائمة العضويّة في مجلس الأمن الدولي؟ لماذا لا تنحو برلين منحى موسكو، أو حتّى منحى أنقرة وطهران، وإحراز المكانة التي تليق بألمانيا في ما يتعلّق بحلّ القضايا والنزاعات الدوليّة، وتحقيق السلام، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً في سورية؟! الجواب التقليدي الذي يصدر عن أي صحافي أو محلل أو ديبلوماسي ألماني على هذا السؤال، هو «أن ألمانيا عاشت أهوال الحرب مرتين. ولا تريد أن تنزلق نحو أوحال ومستنقعات الحروب والأزمات مجدداً». لكن ألمانيا، مهما حاولت ممارسة سياسة النأي بالنفس عن الحروب والنزاعات الدوليّة، تجد نفسها من أبرز وأكبر دافعي ضرائب هذه الحروب والصراعات، عبر تحمّل التبعات الناجمة عنها، وشأنها في ذلك ربما كان أكثر من الدول المنخرطة في هذه الأزمات والصرعات. والمثال السوري خير دليل على ذلك.
فتأكيداً على هذه الفكرة، دفعت ألمانيا جزءاً مهماً من ضريبة وتبعات الصراع بين تركيا وأكرادها. بل انتقلت رقعة الصراع إلى الأراضي الألمانيّة أيضاً، على صعيد تحمّل واحتضان حركة الهجرة والنزوح من مناطق النزاع (الجالية الكردية- التركية في ألمانيا تزيد على مليون شخص. الغالبية العظمى منها هاجرت إلى ألمانيا بعد انقلاب 12 أيلول (سبتمبر) 1980، وبعد إعلان العمال الكردستاني الكفاح المسلح سنة 1984)، على رغم ممارسة سياسة النأي بالنفس عن الصراع الكردي- التركي! وقبلها دفعت ألمانيا جزءاً من ضريبة وتبعات الصراع والحروب في يوغوسلافيا السابقة. كذلك دفعت جزءاً من ضريبة الصراع الكردي- العراقي، والكردي- الإيراني، وضريبة الاقتتال الطائفي في العراق…، ناهيك بالخلافات في مصر ودول شمال أفريقيا. فمهما حاولت ألمانيا تجنّب الانغماس في الحروب والنزاعات، فإن نتائج هذه الحروب وتبعاتها وضرائبها تصل إلى الداخل الألماني على أكثر من صعيد، ليس أقلها شأناً تفشي وباء الإرهاب الجهادي- الإسلاموي. وبالتالي، بات لزاماً على ألمانيا البحث عن حلول وسياسات أو أفكار إبداعيّة من شأنها تحويل الضرائب التي تدفعها إلى رصيد سياسي يضمن لها الحضور والنفوذ والقوة الاقتصاديّة- السياسيّة في حلّ النزاعات الدوليّة.
ثمّة عوامل عدّة تؤهّل، بل تدفع، ألمانيا للانخراط في المسألة السوريّة كقوة حلّ سياسي وديبلوماسي واقتصادي وحتى عسكري، ومنها:
1- وفق بعض الإحصاءات فإن عدد المهاجرين السوريين الذين دخلوا الأراضي الألمانيّة خلال السنوات الأخيرة بلغ ما يزيد على 800 ألف شخص. ناهيك بالسوريين (كرد، عرب، سريان…) الذين دخلوا الأراضي الألمانية منذ نهاية التسعينات وحتى ما قبل 2011. هذه الكتلة البشرية الهائلة وما شكلته من أعباء اقتصاديّة وتنمويّة وإداريّة وحتّى أمنيّة، كافية لأن تستند ألمانيا إليها كقاعدة لحماية نفسها وتأمين مصالحها في سورية ومنطقة الشرق الأوسط.
2- فشل مفاوضات أو مسار جنيف، ووصوله إلى طريق مسدود تماماً. وفشل السوريين في تجريب الخيار الأميركي، والخيار الفرنسي، والأوروبي عموماً، ورجحان كفّة الروس في فرض خياراتهم وحلولهم. كذلك فشل الخيار التركي أيضاً وما فيه من ديماغوجيّة وشعارات مخادعة، واستثمار رخيص لورقة اللاجئين والنازحين السوريين ضد السوريين أنفسهم، وضد أوروبا أيضاً. كل ذلك، يفسح المجال أمام الألمان لأن يكون لهم طرحهم ومشروعهم الخاص لحل المسألة السورية، بما ينسجم ومطالب الشعب السوري ومصالح برلين في سورية والمنطقة.
سياسة النأي بالنفس التي انتهجتها ألمانيا طيلة السنوات السابقة، أثبتت الأزمةُ السوريّة فشلها الذريع. وعلى برلين البحث عن أفكار إبداعيّة تستند عليها كي يكون لها مشروعها الخاص للحل في سورية، وتحاول إقناع شركائها الأوروبيين وفي حلف الشمال الاطلسي والأسرة الدوليّة بجدوى هذا المشروع وأهميّته، بخاصّة بعد فشل مفاوضات جنيف وتسليم الأميركيين مفاتيح الحلّ لفلاديمير بوتين وموسكو. ذلك أنه من غير المعقول أن تتحمّل ألمانيا كل هذه الأعباء والضرائب، وتحصد روسيا وإيران وتركيا كل هذه المكاسب والنفوذ في المنطقة؟! آن أوان أن تعلن برلين الطلاق مع سياسة التردد والقلق. وأن تحقق دوراً وحضوراً في حل النزاعات وخلق فرص تحقيق السلام، بما يليق بوزن ألمانيا، من جهة، وبما يعيد إلى السياسة، من جهة أخرى، القليل من الأخلاق والالتزام بالمبادئ والمعايير، وسط هذا الانهيار المتسارع والفظيع لعالم المبادئ والأخلاق.
هوشنك اوسي
صحيفة الحياة اللندنية