على مدى ثلاثة أشهر، ما تزال قوات سورية الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة مشتبكة في قتال من أجل تحرير الرقة من براثن “داعش”. ويقال إنها تمكنت من الاستيلاء على 70 في المائة من المدينة. وسوف يتم طرد المجموعة الجهادية من المدينة في نهاية المطاف. لكن ما سيحدث بعد أن يهدأ غبار المعارك يظل موضوعاً لبعض النزاع. وتقول بعض التقارير إن المدينة سوف تسلم لمجلس صديق لسورية -وهو قول تنفيه بشدة قوات سورية الديمقراطية التي تقول إنها تهدف إلى تشكيل مؤسسات تستثني الفروع الأمنية للنظام من المدينة.
يحتدم الكفاح للسيطرة على الرقة في غمرة منافسة إقليمية كثيفة من أجل بسط النفوذ في شمال وشرق سورية. وفي الأثناء، تتقدم قوات الحكومة السورية المدعومة من روسيا وإيران باتجاه الشرق في دير الزور، وقد شارفت على الاقتراب من خطوط قوات سورية الديمقراطية إلى الجنوب من الرقة، مما أفضى إلى وقوع اشتباكات بين النظام وبين هذه القوات ذات القيادة الكردية. وإلى الغرب من الرقة، هددت القوات التركية والثوار الذين تدعمهم أنقرة بشن المزيد من الهجمات على مواقع قوات سورية الديمقراطية -لكن روسيا أوقفتها عن تنفيذ ذلك كما يبدو.
لم تظهر قوات سورية الديمقراطية أي ميل إلى الرقة لواحد من منافسيها. ومن المرجح أن تصبح المدينة جزءاً من المنطقة الفدرالية في المستقبل، أو أنها ستبقى مرتبطة بها بشكل من الأشكال. ويعني ذلك أن أفضل مؤشر على مصيرها يتمثل في المؤسسات المحلية التي يجري تكوينها في المناطق التي تم تحريرها أصلاً بيد قوات سورية الديمقراطية.
ما تزال بلدات مثل عين عيسى وطبقة ومنبج تعاني مُسبقاً مع القضايا الشائكة المتعلقة بالروابط مع نظام الأسد، والانقسامات الاجتماعية بين المجموعات العرقية المختلفة، ومسائل إعادة الإعمار من خلال شبكة من المجالس المحلية. وقد تم تأسيس مجلس الرقة المدني الذي يتقاسم رئاسته كردي وعربي أصلاً، وهو يتواجد الآن في عين عيسى. وسوف ينتقل إلى الرقة بمجرد الانتهاء من تحريرها.
عمر علوش هو عضو كردي رفيع في مجلس مدني الرقة، وكان قد ساعد أيضاً على تأسيس مجالس أخرى كمجلسي تل الأبيض ومنبج. وقال علوش لمجلة “فورين بوليسي، إن أبناء الرقة هم الذين سيقررون بعد تحريرها ما إذا كانوا يريدون الانضمام إلى النظام الفدرالي غير المركزي الذي أسسه الأكراد في ثلاث مناطق في شمالي سورية. وهذا ما سيحدث أيضاً في منبج التي لا تعد حتى الآن جزءاً من الإدارة ذات القيادة الكردية التي تخطط لعقد انتخابات هذا العام وفي العام المقبل. وقال علوش: “أهل الرقة هم الذين سيديرونها، وسوف لن نسمح للنظام بالتدخل في شؤونها”.
تتميز المجالس التي تأسست حتى الآن في مدن مثل الطبقة ومنبج وتل الأبيض بتشكيلة متعددة الأعراق وفقاً للتركيبة السكانية للمدينة المعنية. وهي تحكم المدن “حكماً ذاتياً” من خلال لجان تركز على التعليم والمصالحة والأمن وتقديم الخدمات مثل الكهرباء والمياه. ويتكون أغلبية الأعضاء من العرب، على الرغم من أن الأكراد يلعبون دوراً مهماً في إسداء المشورة وتشكيل المجالس.
القبول بتمويل النظام، ورفض سيطرته
يستمر بعض العاملين في البلديات في المناطق المحررة في تلقي رواتبهم من النظام، وهي دينامية يرغب المسؤولون المحليون في استمرارها. لكنهم يرسمون خطاً لا يسمحون بموجبه للأجهزة الأمنية التابعة للنظام بإعادة تأسيس مواطئ قدم لها في المنطقة.
يقول علوش: “عندما يتعلق الأمر بالجيش والمخابرات والمحاكم والشرطة، فإنهم ممنوعون”. ويضيف: “تأتي (مليشيات النظام) لغاية السرقة والتدمير وتعذيب الناس. ولا يمكن لهذه المليشيات أن تدخل المناطق المحررة”.
قال مسؤول أميركي طلب عدم ذكر اسمه لمجلة “فورين بوليسي” إن النظام السوري استمر في دفع الرواتب في مناطق خرجت على سيطرته منذ العام 2012 من أجل المحافظة على نفوذه هناك. وسوف يحدث الشيء نفسه على الأرجح في مناطق قوات سورية الديمقراطية. وقال المسؤول الأميركي أيضاً: “وهكذا، من المفهوم أن النظام سوف يسعى إلى إعادة تأسيس هذه الرابطة في أماكن أخرى في سورية”. وأضاف: “من الواضح أن العديد من السوريين لا يسعون للعودة إلى سورية ما قبل العام 2011. ومن جهة أخرى، قد تكون هناك درجة من الصلة مع حكومة دمشق ربما يتسامح معها بعض السوريين ليستفيدوا منها -مثل رواتب الأجهزة المدنية والمعلمين والخدمات الإدارية”.
وكان المدنيون والمسؤولون في بلدات مثل منبج وطبقة مجمعين أيضاً على قول إنهم يعارضون عودة النظام.
وقال محمود ستود ألتاي، 45 عاماً، وعضو المجلس المحلي في منبج: “إننا نعتبر النظام عصابة حاكمة والشعب يرفضه. لكن بعض الناس يتلقون راتباً من النظام، وهذا شيء طبيعي”.
ومع ذلك، رسم ألتاي خطاً أمام عودة الجهاز الأمني للدولة -أو وكلائها- في منبج وقال: “لقد اجتمعت مع ميليشيات إيرانية في غرب منبج، وهم لا يتحدثون العربية. وليسوا مقبولين عندنا”.
الآن وقد أصبحت مسألة بقاء الرئيس بشار الأسد واضحة، يحاول النظام السوري إقناع بعض القبائل العربية بالمساعدة على تمهيد الطريق أمام عودته إلى المناطق التي تخضع لسيطرة قوات سورية الديمقراطية. وهذه مصيدة أخرى يحاول المسؤولون المصطفون مع قوات سورية الديمقراية وقفها في مهدها -بما في ذلك تهديد الذين يحاولون التصالح مع النظام باعتقالهم.
ويقول علوش: “يستطيعون الذهاب إلى دمشق ونشر دعايتهم هناك. ممنوع نشر أي دعاية تروج للنظام في المناطق (المحررة) هنا”.
التعليم وحقوق النساء
تمتد مشاكل الإدارات المحلية بعيداً جداً وراء القضايا الأمنية. فقد أُجبرت هذه الإدارات على التعامل مع مواضيع صعبة تتعلق بالمنهاج المدرسي، ووجهات النظر المتباينة بخصوص حقوق النساء التي يعتنقها السكان الأكراد والعرب. سوف تستمر المدارس في منبج وعين عيسى وطبقة في استخدام المنهاج الدراسي للحكومة السورية. وقال تاي، المسؤول في منبج، إن نسبة أقل من 20 في المائة من المعلمين ما تزال تتلقى رواتبها من النظام، بينما الآخرون عينهم المجلس المحلي وهم يتلقون رواتبهم منه.
وقال علوش، المسؤول في مجلس الرقة: “سوف تظل المناهج باللغة العربية تتبع النظام القديم، لكننا سنزيل المواد العنصرية والمواد منتهية الصلاحية من المنهاج”.
في حين أن هناك تركيزاً قوياً على المساواة بين الجنسين في المناطق ذات القيادة الكردية، غالباً ما يكون لدى العشائر العربية المحافظة في المنطقة وجهات نظر مختلفة. ولم تحظر بلدتي منبج وطبقة بعد إجراءات مثل تعدد الزوجات، خشية إثارة رد فعل شعبي، ولو أن مدينة تل الأبيض جعلت تعدد الزوجات ممارسة غير قانونية.
وقالت فرح الحسين، 28 عاماً، التي تعمل في التعليم لصالح مجلس طبقة: “سوف تسعد النساء بهذا القرار، لكن الرجال لا يقبلون هذا الحكم، ولذلك يحتجون على هذا القرار”.
في بلدة منبج التي تم تحريرها من “داعش” قبل أكثر من عام، ما يزال تعدد الزوجات مسموحاً أيضاً. وقال ألتاي إن الموضوع هو “مسألة حرية شخصية.” ومشيراً إلى بلدتين كرديتين في غالبيتهما، أضاف: “قوانيننا ليست كقوانين القامشلي وكوباني”.
المهمة المضنية: إعادة الإعمار
بينما تستطيع الإدارات المحلية التعامل مع بعض مهمات إعادة الإعمار، فإنها ما تزال تتطلب مساعدات دولية للنهوض بتغطية المواد باهظة الثمن -وهو دعم، تقول الإدارات أنه لم يأت بعد.
في طبقة، على سبيل المثال، ثمة الكثير من العمل الذي يجب إنجازه. وقال أحمد سليمان، وهو قائد عشائري من قبيلة النصر والنائب الجديد لمجلس محلي طبقة، إن كل أعضاء المجلس متطوعون ولا يتلقون أي رواتب أو مكافآت. وأضاف أن أولئك الذين يساعدون في تقديم خدمات للبلديات يتلقون رواتب تتراوح بين 50 و100 دولار شهرياً.
وأضاف سليمان أن المجلس أعاد التيار الكهربائي والمخابز والخدمات الأساسية -لكن ترميم كل الضرر الذي تسببت به الحرب هو خارج قدرات المجلس المحلي. وشدد على أنه لم يكن هناك ما يكفي من الدعم للنهوض بإعادة الإعمار، وأن سد طبقة المجاور ما يزال بحاجة إلى الترميم، وهو مليء بالألغام التي كان قد زرعها “داعش”.
سوف تنطوي عملية إعادة إعمار الرقة على تحدٍ خاص عند تحرير المدينة. ويقدر مسؤولون محليون أنها منيت بأضرار أكثر بكثير مما لحق بالمدن والبلدات الأخرى في المناطق كردية القيادة. وبينما يرحبون بأي مساعدات دولية لإعادة بناء منطقتهم، يقول المسؤولون أن المساعدات الأميركية سوف تأتي لاحقاً. وكانت إدارة الرئيس دونالد ترامب قد أرسلت فريقاً صغيراً مكوناً من سبعة أشخاص إلى المناطق التي حررتها قوات سورية الديمقراطية هذا الصيف لتقدير الاحتياجات الإنسانية. وقال سليمان: “ما نريده من المنظمات الدولية هو إعادة بناء البنية التحتية مثل المستشفيات ومحطات الكهرباء ومعامل مياه الشرب”. وأضاف: “لقد جاء الأميركيون عندنا وعقدوا اجتماعات، لكننا لم نتسلم أي مساعدات منهم”.
بعد انتهاء عملية الرقة، سوف يواجه المجلس المرتبط بقوات سورية الديمقراطية تحديات عديدة. هل سيكون بمقدوره المحافظة على ولاء العشائر العربية؟ وهل سيكون قادراً على توفير الخدمات والوظائف في المناطق المحررة حديثاً؟ من الممكن أن يحاول النظام استخدام هذه المواضيع لتقويض المجلس واستئصاله -لكنه قوبل حتى الآن بنجاح محدود.
ومن الممكن أيضاً أن تترك التحولات في سياسة القوى الإقليمية السورية بصماتها على مصير الرقة. ويضعف اعتماد قوات سورية الديمقراطية على الولايات المتحدة موقف هذه القوات:
إذا اختارت واشنطن الانسحاب من سورية، فإنها قد تجبر قوات سورية الديمقراطية على إبرام صفقة مع الروس ومع الحكومة السورية. ومن دون دعم الولايات المتحدة، من الممكن أن تهاجم تركيا بسهولة المناطق التي استولت عليها قوات سورية الديمقراطية. ويقول مسؤولون أكراد أن إيران تُشغل عدة ميليشيات على الأرض، والتي تعارض أي شكل من الفدرالية في شمالي سورية. ويقول نيكولاس هيراس، الزميل في مركز الأمن الحديث، إن “حكومة الأسد تتحول حالياً نحو سياسة نشطة من أجل تقويض التواجد العسكري الأميركي على الأرض في سورية، وتوافق روسيا تماماً على هذه الخطة”. ويضيف: “لا تريد روسيا رؤية انتداب عسكري أميركي غير منتهٍ في سورية، وهو ما يخشى الأسد أنه يجري تنفيذه”.
مع ذلك، يعتقد المسؤولون الأكراد بأن لديهم التزاماً من الولايات المتحدة بدعمهم في الأعوام المقبلة. وقال عبد السلام أحمد، وهو مسؤول كردي في القامشلي، إن “التواجد الأميركي في المنطقة ليس مؤقتاً لأن لديها مصالح هنا. لا تريد الولايات المتحدة ترك المنطقة لإيران وروسيا”.
حتى لو لم تكن الولايات المتحدة مهتمة بمواجهة طهران أو موسكو، فإن مصلحتها في منع انبعاث “داعش” مجدداً ليست على وشك التراجع في أي وقت قريب. وبينما يقفون على أعتاب الاستيلاء على عاصمة الأمر الوقاع للمجموعة الإرهابية في الرقة، يعتقد المسؤولون الأكراد أنهم الشريك المفضل لدى واشنطن للتخلص من التنظيم الإرهابي في المستقبل المنظور. وكما قال أحمد: “حتى لو تم تحطيم ‘داعش’، سوف يظل الخطر محدقاً. لكن الولايات المتحدة ستحاول تقليل هذا الخطر إلى الحد الأدنى”.
فلاديمير فان فيلغينبيرغ
صحيفة الرأي