إذا كان أي أحد يظن أو يقول أو يكتب أن المسألة الكتالونية سهلة الفهم، أود أن أقول له إنه لا يفهم أي شيء منها في الحقيقة. فالمسألة الكتالونية تأتي من خلفيات طويلة الأمد، وهي قضية متشابكة بالغة التعقيد. ويمكن أن يبدو استقلال الكتلان للعين الخارجية، إما كمسألة جشع (كتالونيا ليست على استعداد لتقاسم ثروتها الاقتصادية مع بقية إسبانيا)، أو كقوة سياسية تسعى إلى الانعتاق (على نحو مشابه، وإنما مختلف بوضوح أيضاً، عن تحرر الأكراد أو الصحراويين).
عشت في برشلونة عشر سنوات. ورأيت الدوافع الثقافية والاقتصادية والسياسية لنزعة “الاستقلالية” الكتالونية المعاصرة. (قد يكون “الانفصال” تعبيرا أكثر شيوعا للتعبير عنها باللغة الإنجليزية، وإنما ليس باللغات اللاتينية). وفي الرد على الاستفتاء الذي أجرى على استقلال كتالونيا في الأول من تشرين الأول (أكتوبر)، أقترح الحاجة إلى الوساطة، وليس القمع، لمعالجة نزاع سياسي ينطوي على تشكيك في معنى الديمقراطية نفسها.
كتالونيا منطقة صغيرة تقع بين إسبانيا وفرنسا، عاصمتها برشلونة، ويقطنها نحو 7.5 مليون شخص. ويُستخدم اسمها منذ العصر الوسيط، وهي تمثل تقريبا نفس منطقة “مقاطعة برشلونة” التي أنشئت حوالي العام 800. وفي تلك السنوات، كان المسلمون يسيطرون تقريبا على شبه جزيرة أيبيريا تحت اسم خلافة قرطبة (أو الأندلس). وعلى مدى قرون، تعرضت كتالونيا للغزو المتكرر للممالك المجاورة (التي تشكل إسبانيا وفرنسا، أكثر أو أقل، في تكوين اليوم). وكانت جمهورية مستقلة، تحت حماية فرنسا في الفترة ما بين 1640 و1652، قبل أن تسقط بشكل نهائي تحت الهيمنة الإسبانية في حرب خلافة العرش التي انتهت في العام 1714. وفي ذلك الوقت، كان ملك إسبانيا، فيليب الخامس (1683 – 1746) من سلالة بوربون، التي ما تزال تحكم إسبانيا. واليوم، يحكم البلاد الملك فيليب السادس. وللقومية الكتالونية (التي يصفها بول ماسون بأنها “كوزموبوليتانية”)، كما نعرفها اليوم، جذورها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في عصر التصنيع.
منذ البداية، وخلال تاريخها، تلقت النزعة القومية الكتالونية الدعم من القوى التقدمية والمحافظة على حد سواء. وكان أول حزب كتالوني هو “ليجا ريجيوناليستا دي كتالونيا” (الرابطة الإقليمية لكتالونيا 1901-1936). وفي العام 1931، دعم الحزب الذي ما يزال موجوداً اليوم، “إسكويرا ريبوبليكانا دي كتالونيا” (اليسار الجمهوري لكتالونيا) قضية إقامة الجمهورية الكتالونية، وإنما ترتب عليه القبول بمنطقة للحكم الذاتي تحت اسم “جينيراليتات كتالونيا” أو (حكومة كتالونيا). ثم تم إلغاء الحكم الذاتي بين العامين 1936 و1939 بعد انتصار الانقلابي فرانسيسكو فرانكو. وفي ذلك الحين، تم إلغاء الحكم الذاتي السياسي وحظر اللغة الكتالونية. وبمجرد وفاة فرانكو في العام 1975، سمح الدستور الإسباني الجديد للعام 1978 بإنشاء النظام الأساسي الجديد للحكم الذاتي في كتالونيا في العام 1979، على غرار حكم العام 1932 الذي كان قد ألغي في عهد الديكتاتورية.
في العام 2006، وافق الكتالونيون على “تحديد الوضع القانوني من خلال الاستفتاء”، الذي كان من شأنه أن يزيد من توسيع سلطات “حكومة كتالونيا”، ولكن المحكمة الدستورية طعنت في دستورية القانون وقامت بتعديله بشكل كبير. وأدى ذلك إلى الكثير من الإحباط، ونتيجة لذلك، بدأ خيار الاستقلال عن إسبانيا، الذي كان حتى ذلك الوقت خيار أقلية، في اكتساب مزيد من الأرضية في أوساط الرأي العام. وقد تجلى ذلك من خلال المشاركة المتزايدة في “ديادا” (يوم كتالونيا الوطني) الذي يقام في 11 أيلول (سبتمبر) من كل عام، مع مطالبة 2 مليون شخص وفقاً للمنظمين (و600.000، وفقاً للحكومة الإسبانية) بالاستقلال في العام 2012. وفي العام 2014، تم الاحتفال بأول استطلاع شعبي. وفي انتخابات العام 2015، فاز تحالف الأحزاب المستقلة في الانتخابات. وإليكم الكيفية التي وصلنا بها إلى استفتاء 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2017، في عجالة.
بغية التبسيط، أود أن أقول إن هناك ثلاثة عناصر رئيسية تتدخل في نزعة الاستقلال الكتالونية المعاصرة، والتي تتصل بالثقافة، والاقتصاد والسياسة.
أولاً وقبل كل شيء، الكتالونيون أناس فخورون جداً بلغتهم وثقافتهم، ويشعرون بأنهم مختلفون عن الإسبان. وكتالونيا ثنائية اللغة تماماً، حيث تُستخدم اللغتان الإسبانية والكتالانية. وأولئك الذين ذهبوا إلى المدرسة تحت حكم ديكتاتورية فرانكو الفاشية (من 1939 حتى 1975) يتحدثون بالكتالونية، لكنهم في كثير من الأحيان لا يعرفون كيفية كتابتها. وكان حتى مجرد التحدث بها ممنوعاً. وبطبيعة الحال، أصبحت لغة المدارس اليوم هي الكاتالانية. وما تزال ذكرى الحرب الأهلية (1936-1939) والقمع الفاشي حية تماماً في الإقليم.
ثانيا، هناك القضية الاقتصادية التي تُذكِّر بالأسباب الكامنة وراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وعلى هذا الصعيد، تشكل كتالونيا 20 % من الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا، وتضم 16 % من السكان، وتدفع %23 من الضرائب، ولكنها تتلقى 10 % فقط من الاستثمارات. ولذلك، ثمة عجز مالي بين ما تساهم به كتالونيا وما تتلقاه من إسبانيا. ولو كانت كتالونيا مستقلة، فإنها يمكن “تكسب” حوالي 10 % من ناتجها المحلي الإجمالي. وأعترف بأن المنطق الدقيق لهذه التقديرات يظل غائبا عني. فعلى سبيل المثال، تعتمد كتالونيا في موضوع الطاقة إلى حد كبير على الواردات الأجنبية من الوقود الأحفوري، وكان العامل الذي سمح بتحولها إلى التصنيع هو تدفقات الهجرة من جنوب إسبانيا ومن الخارج. لكن ماهية العجز والديون التي ليست مسألة اقتصادية فقط، وإنما أيديولوجية أيضاً، بين كتالونيا وإسبانيا وبقية العالم، تظل موضع شك. وبطريقة أكثر شمولية، يدعو الحزب الكتالوني النسائي-البيئي اليساري، القائم على الجمعيات المحلية المستقلة وفقا لمبادئ الديمقراطية التداولية، إلى الانتقال من الحكم الذاتي إلى السيادة الكاملة -وليس فقط من الناحية السياسية والاقتصادية، بل أيضا في العلاقة بالطاقة والغذاء والصحة والتعليم.
لا شك في أن القضية الاقتصادية في كتالونيا تفاقمت بسبب الأزمة المالية. وعلى الرغم من أن الحكومة الكتالونية كانت أول من طبق التدابير التقشفية، فقد قيل إن ما يبرر هذه التدابير هو الافتقار إلى التمويل من الحكومة الإسبانية. وما تزال المسألة الاقتصادية هي الأكثر إثارة للجدل في المسألة الكتالونية.
أما المسألة الأخيرة فهي الواقع السياسي. فإسبانيا دولة ملكية وراثية برلمانية، مقسمة إلى 17 مجتمعاً تتمتع بالحكم الذاتي. وتتمتع هذه المجتمعات بصلاحيات واسعة، والتي تشمل مجالات الصحة والتعليم، ولا ترتبط بالدولة إلا في التشريع الأساسي. ولبعض المجتمعات، مثل الباسك وكتالونيا، ديناميكيات سياسية خاصة بها مع أحزابها الإقليمية. لكنها تشتكي من أن إسبانيا لم تعترف أبداً بأنها دولة متعددة القوميات. ولا يشعر الكتالونيون بأنهم يتماهون مع الحكومة الإسبانية التي يسيطر عليها الآن حزب الشعب اليميني ما بعد الفاشي الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء، ماريانو راخوي. وهناك أيضا الفرضية القائلة بأنه إذا كانت الحكومة تعمل على مستوى جغرافي أدنى، فإنها ستكون أكثر ديمقراطية.
وأخيراً، هناك نية الانفصال عن دستور العام 1978، الذي يعتقد الكثيرون من اليسار أنه لم يحقق القطيعة مع الماضي الفاشي (كان تسوية بدلا من أن يكون انتقالا). وينطوي كل شخص على رؤية خاصة للجمهورية الكتالونية المحتملة، تقوم على توقعاته وأوهامه الخاصة التي يكون الكثير منها متناقضاً أحياناً. وعلى سبيل المثال، يرى الحزب النسوي-البيئي اليساري المذكور في الاستقلال فرصة لتأسيس مشروع ثوري يركز على معاداة الرأسمالية، والديمقراطية المباشرة، والنسوية والبيئة. لكن هذا ليس بالتأكيد موقف الغالبية الكتالونية.
في الختام، وحتى مع أن هذه القضايا تساهم في فهم ظهور النزعة الاستقلالية الكتالونية، فإنني ما أزال أتساءل عما إذا كانت هناك قضايا أوسع تتعلق بالعمليات العالمية، مثل بعض الرفض للعولمة التي يمكن أن تكون صالحة في مكان آخر. ويرى البعض أن الناس في جميع أنحاء العالم يتوقون إلى حكم أنفسهم. هل هناك تطلعات متزايدة للديمقراطية المباشرة؟ سوف نرى.
على أمل أن أكون قد أوضحتُ بعضاً من أصول نزعة الاستقلال الكتالونية، دعونا نركز على ما يحدث اليوم. فقد أقامت الحكومة الكتالونية الحالية استفتاء في 1 تشرين الأول (أكتوبر) مع السؤال: “هل تريدُ أن تكون كتالونيا دولة مستقلة في شكل جمهورية؟” نعم أو لا.
وقد احتفلت الحكومة الكتالونية، المكونة من المستقلين (أو الانفصاليين)، بالاستفتاء، وفقاً لقانون وافق عليه البرلمان الكتالوني. وأدلى أكثر من مليوني كتالوني بأصواتهم، %90 منها لصالح الاستقلال. واعتبرت الحكومة الإسبانية عقد هذا الاستفتاء غير قانوني لأنه ينتهك الدستور الإسباني، وحاولَت منع إجرائه بالقمع العنيف. وتتكون الحكومة الكتالونية من التحالف “جونتس بيل ساي” (معاً من أجل نعم)، (مع الحزبين الكتالونيين الرئيسيين، “إسكويرا ريبوبليكانا دي كتالونيا” أو “حزب كتالونيا الجمهوري اليساري” من يسار الوسط؛ و”بارتيت ديموكراتا يوروبو كاتالا”، أو “الحزب الديمقراطي الأوروبي الكتلاني”، من يمين الوسط) مع كانديتاتورا دي ونيتات بوبيولار (الحزب اليساري، النسوي-البيئي) المؤيد للانكماش. ولهذه الأحزاب الكتالونية 72 صوتاً في برلمان يتكون من 135 صوتا. وفي المقابل، ومع 52 صوتاً، هناك الفروع الكتالونية للأحزاب الإسبانية الرئيسية، مثل بارتيت ديلس سوشياليستيس (حزب الاشتراكيين في كتالونيا)، و”إيل بارتيت بوبيولار دي كتالونيا إي سيوتادانوس” (حزب المواطنين الشعبي الكتالوني). (ويقف النواب الاثنا عشر الآخرون من بوديم (الكتالونيون يستطيعون) في الوسط: فهم لا يؤيدون الاستقلال، لكنهم يؤيدون إجراء الاستفتاء.
بنفس الحزم، كانت الحكومة الإسبانية (في أقلية) من حزب الشعب عازمة على منع الاستفتاء، حتى أن بارتيدو سوشياليستا أوبريرو إسبانول (حزب العمال الاشتراكي الإسباني) وقف في المعارضة، في حين أن حزب بوديموس (نستطيع) لم يعارض. وقد علقت المحكمة الدستورية الاستفتاء. وخلال الأسبوعين الماضيين، تم اعتقال مسؤولين حكوميين وتم ضبط 10 ملايين بطاقة اقتراع، وتمت دعوة 700 (من أصل 900) من رؤساء البلديات الكتلان إلى الوقوف أمام المحكمة بسبب تأييدهم للاستفتاء. وأرسلت الحكومة الإسبانية إلى كتالونيا نحو 10.000 عنصر من أفراد الشرطة المدنية الإسبانية (نفس التي كانت موجودة في عهد الديكتاتورية الفاشية)، والذين تمت استضافتهم جزئيا في ثلاث سفن سياحية إيطالية.
لا تنطوي الحكومة الإسبانية على إيمان يذكر بالشرطة الكتالونية (موسوس) المكونة من 16.000 عضو، ناهيك عن أن واحدة من السفن السياحية، موبي دادا، كانت مزينة بصور طائر الكناري “توتي” و”سيلفستر” القط. وأدت وحشية الشرطة الإسبانية لمكافحة الشغب إلى إصابة نحو 800 ناخب، على الرغم من موقفهم السلمي. وفي كتالونيا، تقوم الحكومة المركزية الإسبانية بانتهاك حقوق الإنسان والحقوق المدنية، وحرية التعبير، وحرية الإعلام وحرية التجمع، في انجراف خطير نحو الاستبداد. والحقيقة التي لا جدال فيها هي: كلما زاد القمع الذي تمارسه الحكومة الإسبانية، كلما زاد الدعم للاستقلال في كتالونيا. ويرتبط ذلك بسؤال أساسي: ما هي الديمقراطية؟ هل هي الدفاع عن مبدأ الدستور الإسباني القائل بوحدة إسبانيا التي لا تنفصم مع القمع، أم التصويت لممارسة حق الناس في تقرير المصير؟
يُذكرنا هذا الواقع بنقاش قديم في دوائر العلوم السياسية حول ما إذا كان تقرير المصير الوطني، في شكل إنشاء دولة جديدة من خلال الانفصال، يلغي مبادئ حكم الأغلبية والمساواة في الحقوق. وتفيد الاستطلاعات أن حوالي 80 % من الكاتالان يعتقدون أنه ينبغي السماح لهم قانوناً بالتصويت على الاستقلال. وستكون المشاركة حوالي 60 إلى 70 %، وسيصوت نحو 50 % لصالح الاستقلال. وفي المقابل، يعتقد 60 % من الإسبان أنه لا ينبغي السماح بإجراء مثل هذا الاستفتاء. والمسألة الكتالونية هي في الأصل مسألة صراع سياسي، والذي أشك إمكانية حله بالقمع. إنه يحتاج إلى الوساطة، وبشكل ملح وعاجل.
فيديريكو ديماريّا
ترجمة صحيفة الغد