على الرغم من أن الدافع الأساسي، أو على أقل تقدير الدافع المعلن، لزيارة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان لإيران يوم الأربعاء الماضى (4/10/2017) كان هو التصدى المشترك التركي- الإيرانى لتداعيات التحرك الانفصالى لإقليم كردستان العراق، وبالذات ما يخص التهديدات المباشرة لهذه الخطوة على الأمن القومى للبلدين، فإن هذه الزيارة تكتسب أهمية تفوق ذلك بكثير تتعلق بما يجرى ترتيبه من إجراءات واتخاذه من تحركات ومبادرات تخص الإقليم كله وبالذات ما يتعلق بالتسوية السورية ومستقبل العراق. أهم ما يمكن استنتاجه من هذه الزيارة وما جرى الإعلان عنه من مواقف تؤكد اتفاق البلدين على النهوض بالعلاقات الثنائية المشتركة إلى أعلى مستوى وبالذات على المستوى الاقتصادى والتجاري، وعلى مواجهة خطر الانفصال الكردى بكل الوسائل بالتنسيق مع بغداد، وتوافق فى الرؤى على ترتيبات حل الأزمة السورية وتنفيذ توصيات لقاء أستانة الأخير والتنسيق المشترك مع روسيا فى مواجهة المنظمات الإرهابية، لكن المغزى الأكثر أهمية هو تنامى إدراك مشترك تركى إيرانى بالحاجة الشديدة لكل منهما للآخر أكثر من أى وقت مضي: حاجة تركيا لإيران وحاجة إيران لتركيا.
هذا الإدراك هو الذى يجيب عن تساؤل يصعب تجاهله وهو: إلى أى مدى يمكن أن يصدق أردوغان فى وعوده لإيران؟ وإلى أى مدى يمكن أن يصمد هذا التقارب التركي- الإيرانى الذى لم يستطع أبداً، وعلى مدى التاريخ، أن يخالف طبيعته المتأرجحة بين صعود يعقبه هبوط، وهبوط يعقبه صعود؟. فعلاقة البلدين كانت ومازالت أسيرة عهد صراع الروم مع الفرس قبل الإسلام، وصراع الإمبراطورية العثمانية مع الدولة الصفوية بعد ذلك وامتداداً إلى العهد الحديث وترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولي.
القيادة الإيرانية، التى تعى جيدا هذه الخصوصية للعلاقة مع أنقرة كانت حريصة وعلى لسان رئيسها حسن روحانى على تقديم ما يكفى من إغراءات اقتصادية وتجارية للرئيس إردوغان إدراكا منها أن تركيا سوف تخسر عشرات المليارات إن هى اتخذت قرار إغلاق أنبوب النفط القادم إلى أراضيها من كردستان العراق ضمن الإجراءات العقابية الواسعة والصارمة التى تنويها تركيا لمعاقبة إقليم كردستان. من بين هذه الإغراءات تعزيز العلاقات المصرفية بالإضافة إلى التجارة بواسطة عملات البلدين، وتسهيل انتقال البضائع عبر الحدود المشتركة، وإمداد تركيا بكميات أكبر من الغاز الإيراني، ورفع مستوى التبادل التجارى إلى 30 مليار دولار سنويا بدلاً من نحو 10 مليارات حالياً. تركيا فى حاجة ماسة إلى هذه الإغراءات الإيرانية، لكنها، إضافة إلى ذلك لديها ما يكفيها من الدوافع للتوجه نحو طهران هذه المرة بنيات صادقة، فى ظل «خيبة أمل» تعيشها مع أصدقاء وحلفاء وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى إسرائيل، وأخيراً السعودية والإمارات. فأنقرة مقتنعة بوجود «خديعة أمريكية» لتركيا بدأت بالموقف الأمريكى من الانقلاب التركى الفاشل، ثم الانحياز الأمريكى لميليشيات المعارضة الكردية السورية التى تراها ذراعاً لحزب العمال الكردستانى التركى المتهم بالإرهاب، وأخيراً الموقف الأمريكى الهزيل إزاء استفتاء كردستان رغم إدراك واشنطن لخطورته على الأمن القومى التركي. كما أن تركيا تعيش أسوأ مراحلها مع الحلفاء الأوروبيين لاعتراضات حلف شمال الأطلسى وواشنطن على صفقة صواريخ «اس 400» التى وقعتها تركيا مع روسيا. كما تهاجم تركيا إسرائيل لدعمها نيات الانفصال الكردية وتتهمها بأنها من أعد وأشرف على استفتاء كردستان دون اعتبار للمصالح التركية، لكن أحدث الدوافع يتعلق بالسعودية والإمارات حيث يعتقد الأتراك أن الأزمة المثارة مع قطر هى «أزمة مفتعلة» تستهدف بالأساس حصار تركيا لمنعها من أى تقارب مع إيران، ومنعها من المشاركة مع إيران فى التفاهم على ترتيبات البيت العراقى لمرحلة ما بعد «داعش». إيران هى الأخري، المحاصرة إقليمياً، ترى وجود مصالح مشتركة مع تركيا تفرض عليها التنسيق وربما التحالف معها وخاصة الخطر الكردى المشترك، ومخاطر التدخل الإسرائيلى فى سوريا، ناهيك عن الضغوط الداخلية والإقليمية والدولية، الأمريكية خاصة، على حزب الله فى لبنان، والتى تحاول إجهاض نجاحات الحزب فى سوريا وإجباره على دفع الأثمان فى لبنان، كل هذا إلى جانب التهديد الأمريكى بالانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران. هذا التقارب الإيرانى التركى المرشح أن يتحول إلى تحالف يصعب فهمه دون تحليل لزيارة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين لأنقرة ولقائه الرئيس التركى والتباحث فى ملفات كثيرة يوم 28 سبتمبر الفائت، ودون متابعة لنتائج زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز عاهل السعودية لموسكو فى اليوم التالى مباشرة لزيارة أردوغان لطهران الخميس الماضي. فزيارة بوتين لتركيا لم تقتصر فقط على ملفات العلاقات الثنائية، رغم أهميتها القصوى خاصة على المستويين العسكرى والاقتصادي، لكنها اتسعت لتشمل جهود التسوية السورية والتصدى للانفصال الكردى عن العراق والأدوار التركية فى البلدين، والدعم الروسى لهذه الأدوار. أما زيارة الملك سلمان لموسكو فقد اهتمت بالعلاقات الثنائية مع روسيا وتنميتها عسكرياً ونفطياً واستثمارياً، لكنها، ركزت خاصة من جانب الملك سلمان، على الدور الإيرانى ومخاطره، حيث طالب الملك «بـالتزام إيران بالكف عن تدخلاتها فى شئون دول المنطقة وزعزعة الأمن والاستقرار فيها».
واضح من زيارة الملك سلمان لموسكو أن الرياض حريصة على تحجيم الدور الإيرانى ودفع روسيا للمشاركة فى هذه المهمة، أما زيارة أردوغان لطهران فكان هدفها، ومازال، تطوير التعاون التركي- الإيراني، وقد يتسع ليشمل العراق وربما سوريا إذا نجحت إيران فى دفع تركيا خطوات متقدمة نحو التعامل مع الرئيس السورى بشار الأسد. روسيا بهذا المعنى هى العامل المرجح بين المسارين: مسار تحجيم الدور الإيرانى أو توسيعه لدرجة تجعل البعض يتفاءل بالحديث عن احتمال إحياء «التحالف الرباعي» بين طهران وأنقرة وبغداد ودمشق وهو التحالف الذى صاغ هندسته الفكرية أحمد داوود أوغلو رئيس وزراء تركيا السابق وقت أن كان مستشاراً لرئيس الوزراء، عبر شراكات إستراتيجية وقعتها تركيا مع العواصم الثلاث ودعمتها إيران قبل أن ينفجر هذا التحالف فى وجه أصحابه مع تفجر الانتفاضات الثورية العربية وامتدادها إلى سوريا. موقف روسيا الصعب بين حليفيها الإيرانى والتركى وبين الصديق السعودى الجديد يغرى البعض للحديث عن دور روسى وسطى يقرب بين الرياض وطهران وتركيا ضمن شراكة تقودها وتشرف عليها موسكو، لكن التحدى الكبير هنا هو واشنطن وتل أبيب، إذ من المستحيل أن تترك أى منهما لروسيا مثل هذا الطموح الذى قد يجعلها القوة العظمى الفعلية فى الشرق الأوسط.
د.محمد السعيد إدريس
صحيفة الاهرام