لا يعني إنهاء وجود تنظيم “داعش” في الرقة السورية، كما تشير المعطيات الميدانية، أن المدينة والمحافظة كلها انتهت من دفع أثمان الصراع عليها، إذ إنها تبدو مقبلة على تطورات جديدة، بعد سيطرة “قوات سورية الديمقراطية” عليها. وأظهرت الأحداث في المدينة أمس أن الأمور متجهة لإنهاء وجود تنظيم “داعش” فيها، بعد استسلام مقاتلين سوريين في التنظيم وخروج معظم المدنيين من مناطق القتال، إثر مفاوضات معهم، بينما واصل بعض المقاتلين الأجانب من “داعش” القتال في بقعة صغيرة داخل المدينة، بعدما بدا أن دولاً أجنبية لها مصالح بألا يخرج المقاتلون الذين يحملون جنسيتها من الرقة، وهو ما عبّرت عنه فرنسا بشكل واضح، في ظل معلومات عن وجود المخطِط لهجمات حصلت في باريس بين هؤلاء المقاتلين. كذلك تُطرح تساؤلات حول مصير مقاتلي التنظيم الذين خرجوا من المدينة، وتطور الأمور في سورية بعد انكماش كبير في رقعة انتشار “داعش”.
وأعلنت قيادة “غرفة عمليات غضب الفرات” التابعة لـ”قوات سورية الديمقراطية“، في بيان لها أمس، عن استمرار المعارك ضد تنظيم “داعش” في الأحياء السبعة المتبقية بيد التنظيم في الرقة وهي: الأكراد، القطار، حي البريد (الحرية)، السخاني، البدو، الأندلس والمطحنة. وقالت القيادة في بيانها إنها أصبحت تسيطر على 90 في المائة من مساحة مدينة الرقة، معلنة بدء “معركة الشهيد عدنان أبو أمجد التي تستهدف إنهاء وجود مرتزقة التنظيم الإرهابي داخل المدينة، بعد أن نجحت جهود مجلس الرقة المدني ووجهاء وشيوخ محافظة الرقة في إجلاء المدنيين المتبقين من المدينة وضمان استسلام 275 من المرتزقة المحليين مع عائلاتهم”. وأضاف البيان أن المعركة سوف تستمر “حتى تطهير كامل المدينة من الإرهابيين الذين رفضوا الاستسلام، ومن بينهم الإرهابيون الأجانب، وأصروا على الاستمرار في قتالهم اليائس”. وفي هذا السياق، ذكرت مصادر أن مواقع في الرقة تعرضت صباح أمس لقصف مدفعي. وقالت شبكة “حملة الرقة تُذبح بصمت” أن العديد من قذائف المدفعية سقط صباح أمس على مناطق في مدينة الرقة، بينما تجددت الاشتباكات داخل أحياء المدينة. وكان المتحدث باسم التحالف الدولي، الكولونيل رايان ديلون، قد قال في بيان “إننا ما زلنا نتوقع قتالاً صعباً في الأيام المقبلة ولن نحدد توقيتاً للموعد النهائي الخاص بإلحاق الهزيمة التامة بالتنظيم في الرقة”. ولم يحدد المتحدث جنسيات المقاتلين المستسلمين، لكنه قال أيضاً إنه “لن يسمح للمقاتلين الأجانب بمغادرة الرقة”.
وجاء إعلان “سورية الديمقراطية” عن تواصل المعركة ضد المقاتلين الأجانب في المدينة، مع إعلان خروج المدنيين منها. فقد أوضح المتحدث باسم “سورية الديمقراطية” طلال سلو لوكالة “فرانس برس” أن “أكثر من ثلاثة آلاف مدني خرجوا مساء السبت إلى مناطق آمنة تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية بموجب الاتفاق” الذي تم بين مجلس الرقة المدني ووجهاء العشائر ومقاتلين محليين من تنظيم “داعش”، مؤكداً أن “الرقة باتت خالية تماماً من المدنيين” باستثناء بعض عائلات المقاتلين الأجانب الذين ما زالوا في المدينة. أما عن عدد المقاتلين، فأوضح سلو لوكالة “رويترز” إن 275 من مقاتلي “داعش” السوريين غادروا المدينة وتركوا خلفهم ما بين 200 و300 مقاتل معظمهم أجانب. وكان سلو قد قال في وقت سابق إن المقاتلين الأجانب سيُتركون في المدينة “للاستسلام أو الموت”.
مصير هؤلاء المقاتلين الأجانب كان الموضوع الأبرز خلال الساعات الماضية من عمر المعركة، إذ تضاربت الأنباء حول خروج عدد منهم بموجب اتفاق تم التوصل إليه السبت. وقال المسؤول في مجلس الرقة المحلي عمر علوش إن “قسماً من الأجانب خرج”، لكنه لم يكن بوسعه تأكيد عدد المقاتلين الذين تم إجلاؤهم منذ السبت، ولا الوجهة التي نقلوا إليها. وقال علوش: “أخذوا المدنيين دروعاً بشرية وخرجوا”، مضيفاً أن “الذين بقوا لا يريدون الاستسلام”. بينما أفادت مصادر محلية بأن الاتفاق مع “داعش” قضى بالسماح لعناصر التنظيم السوريين بالخروج مع عائلاتهم إلى جهة غير معلومة، فيما رفض العناصر الأجانب المقدّر عددهم بين 150 و200 عنصر الاستسلام، وطالبوا بتأمين نقلهم إلى مناطق سيطرة التنظيم في ريف دير الزور.
كذلك برزت رغبة واضحة من دول غربية في عدم خروج هؤلاء المقاتلين، وهو ما عبّرت عنه صراحة وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي، والتي قالت إنه من الضروري “القضاء على أكبر عدد من الجهاديين” في الرقة، مشيرة إلى أنهم إذا قُتلوا في المعارك “فذلك أفضل بكثير”. وقالت الوزيرة الفرنسية في برنامج تلفزيوني أمس الأحد: “نحن نقف إلى جانب حلفائنا للتوصل إلى القضاء على داعش ونقوم بكل شيء من أجل ذلك”. وأضافت: “ما نريده، هو الوصول إلى نهاية هذه المعركة، وبالتأكيد إذا ما قضى جهاديون في هذه المعارك، أقول إن ذلك أفضل بكثير”. وأكدت الوزيرة “أننا نربح هذه المعركة تدريجياً. وما نستطيع القيام به، هو الاستمرار في هذه المعركة للقضاء على أكبر عدد من الجهاديين، وهذا ما نفعله منذ أشهر. يجب أن نستمر حتى النهاية”.
ويأتي الموقف الفرنسي في ظل كشف مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، أن بين المقاتلين الأجانب الذين ما زالوا داخل الرقة مسؤولاً خطط لهجمات شُنت في العاصمة الفرنسية باريس. وأضاف أن الرجل يحمل الجنسية الفرنسية أو البلجيكية، وهو من إحدى دول شمال أفريقيا.
وكان وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، قد قال في وقت سابق إن دول التحالف الدولي ستقبل استسلام عناصر تنظيم “داعش” في الرقة إذا رغبوا في ذلك. وأوضح ماتيس خلال ندوة صحافية الجمعة أنه “إذا استسلم عناصر التنظيم، بالطبع سنقبل باستسلامهم” لكن “الأكثر تعصّباً بينهم لن يسمحوا بذلك”، وسوف “يمنعون المدنيين من الفرار إلى مواقعنا وسوف يقاتلون حتى النهاية”.
يُذكر أن العملية العسكرية لتحرير الرقة من “داعش” أطلقتها “سورية الديمقراطية” بدعم من التحالف الدولي في السادس من يونيو/ حزيران الماضي، ودخلت في إطار سنوات من الصراع على المدينة أفضى إلى تدمير أغلب أجزائها، وتناوبت خلاله قوى عديدة عليها. وعاشت الرقة خلال أقل من خمس سنوات تجارب متناقضة؛ فانتقلت من سيطرة النظام السوري إلى سيطرة المعارضة السورية المسلحة، ثم تنظيم “داعش”، وصولاً إلى سيطرة “سورية الديمقراطية” اليوم. وكان التنظيم قد أقام مقر قياداته فيها، وشكلت ممراً لقواته إلى مناطق مختلفة في البلاد
وانتهت عملية تحرير الرقة بمراحل عديدة، فيما دفع المدنيون الثمن الأكبر، إذ قُتل وأصيب الآلاف منهم، كذلك شُرد نحو 50 ألفاً من سكان المحافظة وانتقلوا إلى مخيمات قربها.
ويثير مستقبل الرقة مخاوف وقلقاً شديداً، فأكثر من ثلاث سنوات من سيطرة “داعش” أنتجت جيلاً أمياً، إذ أغلق التنظيم المدارس محاولاً نشر ثقافة “الجهاد”، محارباً أي محاولة لإعادة فتح المراكز التعليمية. وعانت المحافظة من نسبة بطالة عالية وهو ما أدى إلى خروج أغلب الشباب منها بحثاً عن الرزق داخل سورية وخارجها.
ومع انتهاء وجود “داعش” في محافظة الرقة ذات الأغلبية العربية، تبدي فعاليات مدنية وسياسية فيها مخاوف من محاولة الوحدات الكردية (التي تشكل الأغلبية في سورية الديمقراطية) فرض ثقافة جديدة متناقضة تماماً مع ثقافة أهل الرقة. ويتخوف مراقبون من أن الرقة ربما تنتقل من تشدد إلى تشدد آخر لا يقل خطورة عن سابقه، مشيرين إلى أن الوحدات الكردية تحاول تعميم عقيدة حزب “العمال الكردستاني” وزعيمه عبدالله أوجلان، في المناطق التي تسيطر عليها، مستغلةً الحاجة المادية الملحة لأغلب لسكان هذه المناطق. وبات هذا الأمر جلياً في مدن وبلدات تتبع للرقة مثل الطبقة، وتل أبيض والمنصورة، بحسب المراقبين.
وعلى الرغم من أن حزب “الاتحاد الديمقراطي” الكردي الذي تُشكل “وحدات حماية الشعب” ذراعاً عسكرية له، لم يعلن حتى اللحظة ضم الرقة إلى مناطق “الإدارة الذاتية” التي يديرها في شمال وشمال شرقي سورية، إلا أنه خلق مجلساً محلياً مرتبطاً به، لا يحظى بثقة الشارع الرقي الذي لا يثق أيضاً بمجلس مماثل يتبع للمعارضة السورية. وهذا ما يعد بمثابة معضلة كبرى سوف تؤخر حسم مستقبل المحافظة التي تتطلع واشنطن إلى أن تكون منطقة نفوذ لها. وتحاول الولايات المتحدة دمج المجلسين لإدارة المحافظة بعد انتزاع السيطرة عليها، لكن حجم الخراب في المدينة لن يساعد في استقرارها، على المدى المنظور، ولن يسهل عودة أهلها المنتشرين في سورية وتركيا.
وتعدّ محافظة الرقة رابع المحافظات السورية الأربع عشرة من حيث المساحة بعد محافظات حمص ودير الزور والحسكة. وتبلغ مساحتها نحو 20 ألف كيلومتر مربع، أي ما يعادل أكثر من 10 في المائة من مساحة سورية. وتمتد على مساحة أكثر من 150 كيلومتراً من الغرب للشرق، وعلى مساحة 200 كيلومتر من الشمال إلى الجنوب، وتصل حدودها إلى قلب بادية الشام. وتمتد مدينة الرقة، بوصفها مركز المحافظة، على مسافة تقدر بنحو ثمانية كيلومترات من الشرق للغرب، وأربعة كيلومترات من الجنوب إلى الشمال. وتضم أكثر من عشرين حياً وحارة، تنسب إلى عائلات تقطنها. ودمّر طيران التحالف الدولي أغلب هذه الأحياء والحارات لتمهيد الطريق أمام “سورية الديمقراطية” للسيطرة على المدينة.
وتتميز الرقة بالطابع القبلي، إذ ينتسب أهلها إلى قبائل عربية عريقة، كقبيلة الجبور، والبوشعبان، والدليم، والتي تتفرع عنها عشرات العشائر العربية المنتشرة على طول نهر الفرات بضفتيه، وفي البادية التي يتبع جزء منها للرقة. وخرجت الرقة من تجربة تنظيم “داعش” المريرة وهي أطلال مدينة دفنت عائلات بأكملها تحت أبنية مهدمة فيها، كما بات من بقي من أهل الرقة إما نازح في مخيمات البؤس أو لاجئ في بلدان الجوار، وأوروبا. بمعنى آخر، دفع الأهالي الفاتورة الأقسى في صراع فُرض عليهم فرضاً، وانتهى بالخراب الكبير.
عدنان علي
صحيفة العربي الجديد