بعد الإعلان مؤخراً عن محادثات الصلح بين «فتح» و«حماس» بوساطة مصرية، انضمّت إدارة ترامب إلى القافلة عبر تكرار إلتزامها بما يسمى “مبادئ اللجنة الرباعية” لعام 2006. وكما صيغت من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا، أشارت المبادئ إلى أنه لا يمكن قبول «حماس» كفاعل دولي شرعي إلى حين قبولها بالاتفاقات الماضية وإحجامها عن أعمال العنف وقبولها بحق إسرائيل في الوجود. وفي تصريحات علنية نادرة، دعا مبعوث البيت الأبيض إلى المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية، جيسون غرينبلات، أي حكومة وحدة فلسطينية جديدة إلى الالتزام بهذه المبادئ “بشكل واضح وصريح لا يحمل اللبس”. فقد صرّح في 19 تشرين الأول/أكتوبر قائلاً “إذا كانت «حماس» لتضطلع بأي دور في حكومة فلسطينية، فعليها قبول هذه المتطلبات الأساسية”، مضيفاً أن كافة الأطراف وافقت على فكرة منح “السلطة الفلسطينية” السيطرة الأمنية والمدنية “الكاملة والحقيقية والخالية من أي عوائق” على قطاع غزة. وأشار إلى أنه من الضروري أن “نعمل معاً لتحسين الوضع الإنساني للفلسطينيين الذين يعيشون هناك”.
وسيكون دور الولايات المتحدة – المشابه لذلك الذي تبنته الحكومة الإسرائيلية – الأكثر صلة إذا رغب رئيس “السلطة الفلسطينية” محمود عباس وحركة «حماس» فعلياً بإنشاء حكومة ائتلاف. ولكن هذا الاحتمال يبدو مستبعداً، ويُعزى ذلك جزئياً إلى أن عباس يدرك الخطوط الحمراء الأمريكية والإسرائيلية فيما يخص «حماس» ولذلك سعى إلى تشكيل حكومة تكنوقراط. وحتى إذا حصل ذلك، هناك سيناريوهات أخرى تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار، لا سيما إذا كانت واشنطن تنظر في إصدار بيان رسمي بشأن محاولة تحقيق مصالحة فلسطينية.
السيناريو 1: عباس يريد أن يتولى الحكم، «حماس» تريد استنساخ نموذج «حزب الله». في هذا السيناريو، يسعى عباس إلى إحكام قبضته على غزة لترميم إرثه، الذي يشمل حالياً خسارة غزة في عام 2007 وتولي رئاسة نظام سياسي منقسم على مدى سنوات. ومن شأن البقاء على الحياد أيضاً تعزيز احتمال منح عدوه اللدود محمد دحلان دوراً أكبر في غزة. وقد تأمل الجهة الراعية النافذة لدحلان، الإمارات العربية المتحدة، تعزيز دوره الضئيل حتى الآن، في وقت تنشغل فيه إحدى الجهات الداعمة لحركة «حماس»، قطر، في صدام دبلوماسي كبير في الخليج.
وقد يعزّز هذا السيناريو أيضاً اعتقاد عباس بأن حجب 100 مليون شيكل من أصل 400 مليون شيكل في ميزانية “السلطة الفلسطينية” لدعم غزة في وقت سابق من هذا العام قد جعل «حماس» تخضع بشكل أكبر لمطالب “السلطة الفلسطينية”. وبالتالي، حتى إن لم تُظهر الحركة أي مؤشر على حل الميليشيا التابعة لها، فإن أي ضغوط اقتصادية مستقبلية من جانب “السلطة الفلسطينية” قد يكون لها أثر مُحبّذ.
بالإضافة إلى ذلك، سيؤكد هذا السيناريو تنازلاً من نوع ما في أوساط قادة «حماس» – أي الإدراك بأن حُكم غزة كان خسارة على الصعيد السياسي بالنسبة لهم. فقد كانوا يفضلون اتباع نموذج «حزب الله» لتحميل “السلطة الفلسطينية” مهمة القيام بالعمل الشاق المتمثل بحكم غزة التي تعاني من الفقر المدقع في الوقت الذي يتنصلون فيه من المسؤولية ويحتفظون بالسلطة الفعلية على الأرض من خلال الميليشيا التابعة لهم. وتستند نتيجة كهذه على وجهة النظر القائلة بأن مركز الجاذبية السياسية للحركة قد انتقل من خالد مشعل في قطر إلى الثلاثي المقيم في غزة المؤلف من يحيى السنوار وإسماعيل هنية ومروان عيسي، الذين بفضل موقعهم يفهمون معاناة الشعب أكثر من مشعل المقيم في الخارج والذي لم يعد يرأس الحركة. (تجدر الملاحظة أن القائد الوحيد من غير سكان غزة فيما يسمى “قادة «حماس» الأربعة” هو صالح العاروري المقيم في بيروت والذي تعتبره إسرائيل صلة الوصل الرئيسية بين الحركة وإيران والخلايا الإرهابية في الضفة الغربية).
وإذا كانت «حماس» تدرك في الواقع أنه عليها الخروج من ميدان الحكم، فسيفقد البيان الأمريكي حول جهود المصالحة الفلسطينية الكثير من زخمه. أي أنه إذا لم يكن هناك خطر من تشكيل “السلطة الفلسطينية” حكومة مع «حماس»، فإن إعادة التأكيد على الرفض السابق لشرعية الحركة قد لا يؤثر على أي مفاوضات فلسطينية داخلية.
السيناريو 2: لا يأخذ أي من الطرفين الأمور على محمل الجد. على غرار جهود المصالحة السابقة، ستبوء هذه المحاولة بالفشل إذا لم يكن عباس أو «حماس» جادين حيالها. وبموجب هذا السيناريو، يعتبر عباس غزة بمثابة رمال متحركة – أي وضع لن يقدم له سوى القليل من الفوائد والكثير من المتاعب. ووفقاً لهذا التفكير، لن يتمكن عباس قط من السيطرة على غزة طالما تحافظ حركة «حماس» على الميليشيا الخاصة بها، لذا رغبته في المحاولة ليست كبيرة. وعوضاً عن ذلك، يريد أن يبذل جهداً كافياً في المفاوضات التي تجري بوساطة مصرية لتجنب الانتقادات الداخلية عند فشلها، مع توجيه أصابع الاتهام إلى «حماس» لدى انهيار المحادثات. ويفترض هذا السيناريو أيضاً عدم رغبة «حماس» في التنازل عن أي سلطة فعلية في غزة – فالحركة تستخدم فكرة الوحدة من أجل دعم مساعيها لجمع الأموال فحسب في ظل الضائقة الاقتصادية الشديدة في غزة. وبالتالي، فإن أي بيان أمريكي لن يكون مؤثراً، لأن أياً من الطرفين لن يسمح على أي حال بالمضي قدماً في المصالحة.
السيناريو 3. لا تقدم ولا انهيار [في المفاوضات]. اقترح الوزير السابق في “السلطة الفلسطينية” غسان الخطيب الحفاظ على ما يشبه المنطقة الرمادية بين «فتح» و«حماس». فبرأيه، “لن تمنح «حماس» حركة «فتح» دوراً في حكم غزة من دون أن يُسمح لها أولاً بالانضمام إلى القيادة السياسية لـ”منظمة التحرير الفلسطينية”، [و] لن تسمح «فتح» لحركة «حماس» بالانضمام إلى المنظمة ما لم تقبل ببرنامجها السياسي إلى جانب التزاماتها السياسية والأمنية”.
غير أن هذا السيناريو الثالث يقر بتدخل قوى خارجية، وبأن قرار المصالحة في غزة لا يعود لعباس أو لحركة «حماس» فقط. وبالتالي، حتى إذا لم يرغب الطرفان بحدّ ذاتهما في تحقيق انفراجة، قد تعتبر الأطراف الفاعلة الخارجية أن انهياراً آخر يحمّل مصالحها الخاصة تكاليف باهظة من الناحية السياسية. ومن بين تلك الأطراف الفاعلة نذكر مصر، القوة المحركة وراء المحادثات الحالية التي يساهم دورها في جعل هذه الجولة من المفاوضات مختلفة عن سابقاتها. وتبدو مصالح القاهرة الذاتية واضحة – فهي تريد رسم حدود سياسية بين «حماس» في غزة وإرهابيي تنظيم «الدولة الإسلامية» في صحراء سيناء المحاذية حيث تكبّد الجيش المصري خسائر جسيمة في الأرواح.
وبالطبع، فإن لإسرائيل حصتها الخاصة أيضاً في المحادثات. فقد أعلن ائتلاف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مؤخراً رفضه لأي حكومة تجمع عباس وحركة «حماس»، وهو أمر كرره رئيس الوزراء عدة مرات في الماضي. غير أنه في الوقت نفسه، تريد مؤسسة الدفاع الإسرائيلية تجنب أي حرب أخرى مع غزة (علماً بأن ثلاث حروب اندلعت منذ كانون الأول/ديسمبر 2008 وحده). واستناداً إلى هذه الحجة، أشار بعض مسؤولي الدفاع إلى الرابط بين المعاناة الإنسانية في غزة ووضعها السياسي/الأمني.
على سبيل المثال، شمل العدد الأخير لمجلة “بمحانيه” التابعة لـ”جيش الدفاع الإسرائيلي” مقالاً كتبه منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية، اللواء يوآف مردخاي، ومستشاره للشؤون الفلسطينية العقيد ميخائيل ميلشتاين. وقد جاء فيه أن الحرب الأخيرة في غزة “عزّزت فهم إسرائيل و«حماس» للعقدة المستعصية القائمة بين الوضع الاقتصادي الذي يعيشه المدنيون في غزة والواقع الأمني”. وقد أوضحا أن على الجميع أن يضعوا في اعتبارهم الاحتياجات الاقتصادية للقطاع، مع تجنب التدابير التي تقوّي «حماس» عسكرياً. ووفقاً للأمم المتحدة، أدت البطالة المنتشرة ونقص المياه النظيفة والوقود والخدمات العامة إلى ظروف معيشية مزرية في غزة.
ولا يستبعد خبراء إسرائيليون بعض التدابير التي قد تتمخض عن المصالحة الفلسطينية، مثل التفاهمات بشأن تطبيق “السلطة الفلسطينية” للشرطة المدنية في غزة، ووقف تخفيضات ميزانية “السلطة الفلسطينية”، وسيطرة “السلطة الفلسطينية” على المعابر الحدودية. وإذا أُخذت هذه التدابير مجتمعة، فإنها ستبدو تدريجية، لكنها قد تساهم في تحسين الظروف الراهنة. وعلى أية حال، قد يكون لأي بيان أمريكي مرة أخرى صلة هامشية مع هذا السيناريو، لأنه لن يكون هناك تغيير في حكومة “السلطة الفلسطينية” القائمة.
الخاتمة: واشنطن تنتظر
من المرجح أن تنتظر الولايات المتحدة لترى أياً من السيناريوهات المذكورة أعلاه سيتبلور. وسيكون تكرار “مبادئ اللجنة الرباعية” مفيداً إذا ما اتجه الطرفان في الواقع نحو مصالحة تامة، حيث يشكّل طريقة فعالة لتحذيرهما بشأن أي من المبادرات يمكن أن تدعمها واشنطن. لكن في إطار كل من السيناريوهات الأكثر محدودية (وربما الواقعية) المذكورة أعلاه، لن يكون أي بيان أمريكي حاسماً أو حتى ذا صلة.
وبناء على ذلك، قد تختلف مقاييس الولايات المتحدة لتحديد مدى نجاح المحادثات. فقد وضع الطرفان جدولاً زمنياً طموحاً نوعاً ما لتطبيق اتفاق المصالحة بوساطة مصرية خلال الأشهر القليلة القادمة. فهل سيتقيدان بهذا الجدول الزمني؟ وهل ستغيّر «حماس» وضعها العسكري خلال هذه الفترة؟ ولا شك أن واشنطن ستتشاور مع مصر وإسرائيل بشأن هذه المسألة الأخيرة. فالمسؤولون الإسرائيليون يقرون أن «حماس» لم تطلق طلقة واحدة تجاه بلدهم منذ حرب عام 2014، لكن الحركة قامت بحفر المزيد من الأنفاق، وحافظت على مصانع القنابل، وبقيت مصرة على رفض حق إسرائيل في الوجود.
وعلى نطاق أوسع، تشير هذه الاعتبارات إلى أن الولايات المتحدة لن تقدّم أي خطط للسلام أو تنخرط في وساطة دبلوماسية عالية المخاطر في الشرق الأوسط إلى حين اتضاح الوضع في غزة. فزيارات المبعوث الأمريكي إلى القدس ورام الله هذا العام لم تُظهر أي تقدم ملموس علناً. وقبل محادثات القاهرة، بدا أن الرئيس ترامب يحذر عباس في الأمم المتحدة خلال أيلول/سبتمبر من أن إدارته لا تملك رؤية مطلقة للدبلوماسية. بالإضافة إلى ذلك، لم يتطرق ترامب إلى القضية الإسرائيلية-الفلسطينية خلال خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. وبغض النظر عن أهمية هذه اللفتات بالنسبة إلى إحلال السلام على المدى الطويل، أشار مسؤولون أمريكيون إلى أن محادثات القاهرة سوف تُبقي أي مساعي تبذلها الولايات المتحدة على نار هادئة في الوقت الحالي.
ديفيد ماكوفسكي
معهد واشنطن