إذا نظرنا إلى النظام الأمريكي والاستراتيجية المستخدمة، منذ تولى أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية حتى الآن، فسنجد أن النظام الحاكم ثابت، ولكن الحكام فقط هم من يتغيرون، أي مجرد هياكل لترسيخ مفهوم الديمقراطية للعالم، ولكن بالشكل فقط وليس المضمون.
فما يحدث فى الولايات المتحدة ما هو إلا تنفيذ للاستراتيجية الموضوعة منذ القدم لتحقيق أهداف خافية. وحتى مع تولى الرئيس دونالد ترامب الحكم، رصد الجميع شخصيته، وتوقعوا التغير الهائل الذى سوف يحدث فى النظام الأمريكى، بسبب التحول الفكرى ما بين أوباما وترامب. وبرغم ذلك، فإن هذه الاستراتيجية لا تزال ثابتة، حيث لم يتغير سوى الأسباب المطروحة، وذلك لطبيعة تغير الظروف.
وما يفعله الرئيس ترامب ليس سوى إضافة بعض “البهارات” الخاصة به التى توضح مدى ديمقراطية الولايات المتحدة، والتغير الفكرى الهائل، ولكن فى الحقيقة إذا نظرنا للتطبيق، سنرى أنه لا يختلف عن الاستراتيجية العامة منذ إقامة هذه الدولة.
إن الاستراتيجية الأمريكية تجاه القضية السورية ثابتة منذ فترة إدارة الرئيس أوباما حتى تولى ترامب الحكم. من هنا، يظهر السؤال الأهم: هل التوجه الأمريكي للقضية السورية مجرد ورقة مساومة على روسيا، والدول الداعمة للأسد، والقضاء على تنظيم “داعش”، ومحاربة الإرهاب، أم هى رؤية أمريكية ثابتة؟
كانت رؤية أوباما للتدخل فى الشأن السورى، ضمن استراتيجية خاصة به، بعيدة عن المتبعة فى السياسة الأمريكية، وتقضي بالدخول فى النزاعات والخروج منها بسرعة شديدة، دون خوض حروب برية أو احتلال عسكرى موسع على الأراضي. تلك الاستراتيجية أثبتت فعالية كبيرة فى ليبيا عام 2011، ولكن حالة الفوضى التى تعيشها سوريا منعت أوباما من التدخل العسكرى بها والتورط المباشر فيها.
وتقوم رؤية أوباما تجاه القضية السورية على ثلاثة أسباب رئيسية، هى: دعم الجيش الحر، والقضاء على تنظيم “داعش”، وتخفيض النفوذ الإيرانى فى المنطقة. من هنا، نبرز أهم أسباب تدخل الولايات المتحدة فى عهد الرئيس ترامب تجاه سوريا، حيث إنها أيضا تتمحور فى الأسباب نفسها، ولكن مع اختلاف أساليب العرض، حيث تبدو الاستراتيجية واحدة.
فى ضوء ذلك، يتمحور السبب الأول فى إبادة داعش من سوريا، ولكن عادة ما تكون أقوال القيادة العسكرية الأمريكية تتعارض مع أفعالها. في واقع الأمر، توجد بعض المهام السياسية والجيوسياسية لواشنطن أكثر أهمية مما أعلنته بصدد الالتزام بمكافحة الإرهاب والقضاء على داعش فى سوريا.
على ذلك، قد تمارس واشنطن سياسة غامضة تجاه السكان الأكراد. ففي الوقت الذي تؤيد فيه العمليات التي تقوم بها “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية لتحرير مناطق من “داعش”، ترفض، من الناحية الأخرى، فكرة الاستقلال الذاتي للأكراد السوريين رفضا قاطعاً.
وإذا كانت محاربة الإرهاب تعد المهمة الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية في سوريا، فإن الهدف منها القضاء على نظام الأسد. لذا، فدائما تلقى الخطابات، وتصدر قرارات بتلميحات عن إنهاء فترة حكم الأسد بالقضاء على داعش.
من ناحية أخرى، فإن واشنطن تدعم المعارضة السورية من أجل إطالة أمد الأزمة السورية، حيث إنهم لا يسعون إلى ممارسة الضغوط اللازمة على المعارضة واللاعبين الإقليميين للتحرك باتجاه التسوية السياسية، ووقف سفك الدماء.
إن الولايات المتحدة تعلم جيدا أنه حتى مع هزيمة داعش، فلن تنتهي مكافحة الإرهاب في سوريا، حيث إن هناك منظمات إرهابية أخرى، كجبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) التى من الغريب أن الولايات المتحدة لم تحاول مقاومتها أو القضاء عليها حتى الآن. فهل لا تعلم أمريكا أن الإرهاب هو الإرهاب، والتطرف هو التطرف، بغض النظر عن المسميات التي تطلقها مختلف التنظيمات، فضلا عن المنهجية الثابتة التي يتبعها كل أولئك الإرهابيين.
وما يجعل الأمر أكثر خطورة هو أن إدارتي أوباما وترامب لم يستطيعا التورط أكثر من ذلك في سوريا، أو أكثر من دعم المعارضين وإطالة أمد النزاع، حتى التخلص من نظام الأسد لتحقيق أهدافها.
ويأخذنا ذلك إلى السببين الآخرين للتوجه الأمريكي للقضية السورية، وهما: تقليل النفوذ الإيراني فى المنطقة، ومحاولة مساومة روسيا. فالولايات المتحدة الأمريكية تعلم جيدا أنها إذا أقدمت على محاولة المحاربة بطرق أخرى غير المنظورة، والمتبعة الآن فى مكافحة الإرهاب، ستضطر إلى إنفاق مليارات الدولارات، وإرسال آلاف الجنود من أجل هزيمة كل خصومها في سوريا، لتحقيق أهدافها المتمثلة فى التخلص من نظام بشار الأسد، من أجل التوغل داخل سوريا، والتحكم فيما تريده من دعم الإرهاب بطرق ملتوية، تحت مسمي مكافحة الإرهاب الدولى، لتصل إلى هدفها الأسمى، وهو إنشاء شرق أوسط جديد تحت رعايتها.
نورا فخري أنور
مجلة السياسة الدولية