فى مئوية الثورة الروسية بدت احتفالات الكرملين خجولة وخافتة، كأن المناسبة لا تتعلق بواحدة من أهم الثورات فى التاريخ الحديث.
كان ذلك مقصودا؛ خشية أن تفضى إلى نوع من الشرعية على التغيير بالقوة وهز الاستقرار، بعد سنوات من الاضطرابات التى أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتى السابق، كما أنها قد تؤثر ــ بالسلب ــ على صورة الرئيس «فلاديمير بوتين»، الذى يتطلع لدورة جديدة مطلع العام المقبل.
حسب تصريحات منسوبة للمسئولين عن احتفالات المئوية، فإن الثورات ترادف الخراب وتجلب الموت والدمار.
التصريحات ــ ذاتها ــ تسطيح ممنهج للثورة الروسية، ولأى ثورة كبيرة أخرى فى التاريخ الحديث.
بإيقاع عدد السنين، قرن كامل، فإن مثل هذه المناسبات تمثل فرصة جدية للمراجعة والتساؤل عن الثورة وأسبابها، كيف نجحت ولماذا انكسرت، حوادثها وتحولاتها، أزماتها الداخلية وآثارها فى بنية النظام الدولى.
لم يحدث شىء من ذلك، وكاد التجاهل أن يكون كاملا.
على العكس تماما تبارى الفرنسيون، باختلاف توجهاتهم ومواقفهم من ثورة بلادهم عندما مر عليها قرنان، فى فتح كل الملفات والبحث عن أى وثائق جديدة تكشف وتنير ما غمض من أحداث وإعادة النظر فى أدوار رموزها المتصارعة والتراجيديات الإنسانية، التى صاحبت صعودها قبل الذهاب إلى المقصلة.
إذا ما لخصت الثورة الفرنسية فى مشاهد المقصلة، فإننا لا نكاد نعرف عنها شيئا، فقد كانت نقطة تحول فاصلة فى التاريخ الإنسانى كله، حيث أفضت إلى صعود طبقات جديدة وأفكار جديدة، وذبول طريقة فى الحكم تنتسب إلى القرون الوسطى الأوروبية.
بعد سنوات طويلة من الاضطرابات والانقلابات فى بنية السلطة استقرت فرنسا كجمهورية دستورية حديثة، وسرت مبادئها فى أنحاء العالم، كما ساعدت على إرساء العهد الدولى لحقوق الإنسان، السياسية والمدنية.
كان ذلك أفضل ما تخلف عن الثورة الفرنسية.
بذات القدر فإن أفضل ما ينسب للثورة الروسية أنها ساعدت على إرساء العهد الدولى لحقوق الإنسان، الاجتماعية والاقتصادية.
كانت أول ثورة اشتراكية فى التاريخ الإنسانى.
ذات مرة كتب الفيلسوف الوجودى الفرنسى «جان بول ساتر» أن «لكل قرن فلسفة تهيمن عليه».
وكان تقديره أن الماركسية الفلسفة الأكثر تأثيرا ونفاذا فى قصة القرن، رغم أنه يقف على الجانب الآخر فى صراع الأفكار الكبرى.
صعود وتراجع الماركسية داعٍ بذاته لإعادة النظر والتفكير.
لعقود طويلة أثرت وألهمت نصف البشرية تقريبا قبل أن تنكسر شوكتها بانهيار سور برلين يوم (٩) نوفمبر عام (١٩٨٩).
فى شريط سينمائى ألمانى أنتج عام (٢٠٠٣) باسم «وداعا لينين» لخص مشهد واحد بعض تراجيديا ما جرى بعد انهيار ذلك السور، الذى أعقبه سقوط الاتحاد السوفيتى نفسه.
ظهرت فى المشهد الرمزى مروحية تحلق فوق العاصمة الألمانية برلين متدليا منها بحبال من صلب تمثال ضخم لزعيم الثورة البولشيفية «فلاديمير لينين»، بينما ناشطة فى الحزب الشيوعى الألمانى تؤمن بأفكاره ترقب المشهد غير مصدقة.
المروحية مالت قليلا فبدت حركة التمثال كأن «لينين» يريد أن يصافح تلك السيدة الألمانية المصافحة الأخيرة.
أراد الشريط السينمائى أن يقول إن كل شىء انتهى، وأن عصرا ألمانيا جديدا بدأ للتو بإعلانات الـ«كوكاكولا» والمنتجات الغربية فى شوارع الشق الشرقى من برلين.
هذه الحقيقة كان يخشى على الناشطة المصدومة من أن تواجهها بعد أن أصيبت بغيبوبة امتدت لشهور، تغيرت فيها ألمانيا وتغير العالم.
باليقين لا توجد ثورة واحدة فى التاريخ خالدة.
من زاوية ما ــ صحيحة وموضوعية ــ انقضت الثورة الروسية بكل ما حملته من تجربة فى الحكم خلف الأستار الحديدية، ومن تراجيديات سياسية وفكرية وإنسانية فى الصراع على السلطة بعضها دموى، وما تولد عنها من سياسات أسست قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بعام واحد لتحول جوهرى فى بنية النظام الدولى أخذ مداه عقب الحرب العالمية الثانية.
بعد تلك الحرب انقسم العالم أيديولوجيا واستراتيجيا واقتصاديا إلى معسكرين كبيرين، وتصارع على النفوذ قطبان هما الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة؛ فيما يعرف بـ«الحرب الباردة»، التى انتهت بانهيار سور برلين وحلف «وارسو»ــ الذى يقابل حلف «الناتو» على الجانب الآخر مع تفكك ما كان يطلق عليه المنظومة الاشتراكية.
بين نهاية الحرب العالمية الثانية وانهيار سور برلين شمل نفوذ الاتحاد السوفيتى شرق أوروبا، التى اجتاح دولها الجيش الأحمر، كما الشرق الأقصى حيث انتصرت الثورة الصينية، وحاربت الثورة الفيتنامية، ونهضت ثورات أخرى تحت رايات «لينين»، واصلا إلى القارتين الإفريقية بدعم حركات التحرير الوطنى التى تطلب الاستقلال، واللاتينية بالتضامن مع حركة السلاح ضد الهيمنة الأمريكية ــ كما حدث فى كوبا.
وقد حاولت مجموعة دول عدم الانحياز بقيادة «جمال عبدالناصرــ مصر» و«جواهر لآل نهرو ــ الهند» و«جوزيب بروز تيتوــ يوغوسلافيا» اختراق القطبية الثنائية وفق مبادئ «باندونج».
لم يمكن يعنى ذلك الوقوف على مسافة متساوية بين المعسكرين المتصارعين، فقد كان التحرر الوطنى القضية الأكثر مركزية على أجندة الدول المستقلة حديثا.
بانفراد القوة الأمريكية بالنظام الدولى تعرض العالم العربى ــ أكثر من غيره ــ لما يشبه التحطيم الكامل لصالح ما تطلبه إسرائيل، على ما جرى فى العراق مثالا.
كان مثيرا أن أكثر من ابتهجوا لسقوط الاتحاد السوفيتى هم أنفسهم الذين دفعوا أغلب الفواتير.
لم يعد لإرث «لينين» ذات الأثر الفكرى والسياسى، الذى ساد أغلب سنوات القرن العشرين.
لكنه أسس لنظرة أخرى تتجاوز شخصه إلى حركة المجتمعات فى طلب العدالة الاجتماعية.
بأثر أفكاره وتجربته طورت الرأسمالية من نفسها ونشأت فى كنف الدول الغربية حركات جديدة أطلق عليها «الشيوعية الأوروبية«ــ أبرزها فى إيطاليا بقوة أفكار رجال من حجم «تولياتى» و«جرامشي«ــ دمجت ما بين الاشتراكية والديمقراطية.
كما نشأت فى أوروبا الشرقية نزعة قوية أطلق عليها «الاشتراكية بوجه إنسانى»، قبل أن يدب التفكك فى المنظومة كلها.
ما لا يدركه «بوتين»، الذى كاد أن يكون قد تجاهل مئوية الثورة فى بلاده، أن الثورات تنقضى لكن آثارها تبقى تحت الجلد السياسى.
هو نفسه أسير ظلال رجلين فى الكرملين أسسا لاستراتيجية الأمن القومى الروسى، التى يتبع خطوطها الرئيسية، لبناء قوة إمبراطورية واسعة النفوذ والتأثير، حتى لو اختلفت المقاربات والأهداف: «بطرس الأكبر» أهم القياصرة وأكثرهم إلهاما.. و«فلاديمير لينين» قائد الثورة ومفكرها الأبرز.
قد يصح ــ من زاوية واقعية مباشرة ــ رثاء الثورة الروسية بعنوان: «وداعا لينين»، غير أن إرث التاريخ يستحيل حذفه على هذا النحو المبسط والمخل.
عبدالله السناوي
صحيفة الشروق