باريس – تبحث فرنسا عن منافذ تعيد من خلالها تموضعها في منطقة الشرق الأوسط وذلك عبر تدخلاتها ومواقفها في أغلب القضايا الجوهرية في المنطقة كالصراع في سوريا والحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية وأزمة استفتاء كردستان العراق وتداعياته والموقف من إيران (فرنسا من الدول التي شاركت في مفاوضات النووي وتوقيع الاتفاق مع إيران ورفضت مساعي الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أجل إلغائه).
اتبعت فرنسا في مختلف هذه القضايا والملفات دبلوماسية حذرة وأحيانا غامضة في جمعها بين المتناقضات. وبدت هذه السياسة واضحة من خلال الموقف من إيران، ففرنسا من جهة مقتنعة بأن سياسة طهران تهدد أمن المنطقة وأنه يجب فرض عقوبات جديدة عليها بسبب برنامج الصواريخ الباليستية، لكنها في نفس الوقت تخشى على العقود التي تم توقيعها بين إيران وشركات فرنسية كبرى بعد الاتفاق النووي.
لكن، اليوم تجد فرنسا نفسها أمام مفترق طرق قد لا ينفع معه الحياد، وهي تتابع التطورات الحاصلة في لبنان إثر استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري يوم الـ4 من نوفمبر 2017 بشكل مفاجئ وإعلانه عنها من الرياض بدل بيروت لأسباب أمنية، محملا إيران وحزب الله مسؤولية تدهور الوضع الذي أدى به إلى إلا إعلان استقالته.
ويلاحظ المتتبّع للخط الزمني للأحداث منذ إعلان الحريري استقالته أن الدبلوماسية الفرنسية نشطت بشكل سريع ولافت. فبمجرّد إعلان الحريري للاستقالة، قام الرئيس الفرنسي بزيارة خاطفة إلى الرياض التقى خلالها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. ولم تكن هذه الزيارة ضمن جدول ماكرون الذي كان في الإمارات بمناسبة افتتاح متحف لوفر أبوظبي.
وفيما كان ماكرون يبحث مع الأمير محمد بن سلمان مستجدات الوضع على الساحة اللبنانية، التقى سفير فرنسا في بيروت برونو فوشيه الرئيس اللبناني ميشيل عون في قصر بعبدا للاستفسار عن الموقف وتداعياته. وبعد زيارة الرياض، اتصل الرئيس الفرنسي بنظيره اللبناني. وأوفد مستشاره الرئاسي للشؤون الخارجية أورليان دو شوفالييه إلى بيروت. ولفت الباحث الفرنسي المتخصص في الشأن اللبناني ستيفان مالسانيي إلى أن “ماكرون بنفسه يتولى متابعة هذا الملف”. وذكرت صحيفة “أوبسرفاتور” الفرنسية أن باريس تصدر بشكل مستمر، منذ استقالة الحريري، بيانات تشدد على ضرورة حماية وحدة لبنان وسلامة أراضيه.
بوسع فرنسا تهدئة التوتر لكن بالنسبة إلى التوصل لحل دائم وتفادي الأسوأ فإن القرارات تتخذ بالأحرى في واشنطن
ونوهت الصحيفة الفرنسية إلى أن باريس تنشط بشكل غير عادي وأن وراء الكواليس يعترف المسؤولون بأن الأزمة الناجمة عن هذه الاستقالة “مثيرة للقلق”، وستؤثر حتما على العلاقة الخاصة التي تجمع بين فرنسا ولبنان إذا لم تبادر باريس بالتدخل للتوصل إلى عودة الحريري الموجود حاليا في الرياض إلى بلاده، معولة في ذلك على العلاقات التي تربطها بكل أطراف المنطقة، وإن كان هامش المناورة أمامها ضيقا.
ولأسباب تاريخية، لا يمكن لفرنسا، التي يعتبرها كثيرون “عرّاب لبنان”، أن تظل غير مكترثة بالأزمة الراهنة. فإلى جانب العلاقات الدبلوماسية وموقع لبنان على خارطة الشرق الأوسط، الذي ترغب فرنسا في العودة إليه بقوة، فإن لبنان شأنه شأن دول كثيرة خضعت للاحتلال الفرنسي في بداية القرن الماضي، تجمعه علاقة خاصة بفرنسا.
وترى باريس في نفسها الوسيط “المميز″ نظرا لعلاقتها التاريخية بلبنان، بالإضافة إلى تطور العلاقات مع السعودية والتي عكستها زيارة ماكرون الخاطفة قادما من الإمارات حيث افتتح متحف اللوفر، عقب إعلان الحريري عن استقالته، كما أن ماكرون يستعد ليكون أول رئيس فرنسي يزور إيران منذ سنة 1971.
وقال خبير الشرق الأوسط في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية دوني بوشار “ما يمنحنا قوتنا هو أننا نتكلم مع جميع الأطراف”.
وتابع “فرنسا تربطها علاقة مميزة في لبنان مع الطوائف الثلاث، بما في ذلك تواصلها مع الشيعة”. وأوضح “لدينا كذلك علاقات تاريخية جيدة إلى حد ما مع السعودية، وأعدنا إقامة علاقات جيدة مع إيران” بعد توقيع الاتفاق حول الملف النووي الإيراني عام 2015.
ويرى الخبير السياسي الفرنسي اللبناني زياد ماجد أن بوسع فرنسا في مثل هذه الظروف أن تساعد على تهدئة التوتر و”الحد من الأضرار”، لكنه يعترف أنه “بالنسبة إلى التوصل لحل دائم وتفادي الأسوأ، فالقرارات بهذا الصدد تتخذ بالأحرى في واشنطن”.
عجز عن التدخل
يقول دوني بوشار إن فرنسا مصممة على العودة إلى قلب الساحة الدولية بالتزامن مع “سياسية أميركية تثير المخاوف، وضمور بريطانيا بسبب بريكست وتنحي ألمانيا جانبا إلى حد ما بسبب سياستها الداخلية أيضا”، وقد ترى فرنسا في لبنان أرضية مناسبة لتحقيق هذا المسعى، وفق ستيفان مالسانيي، لكن المشهد في لبنان تغير كثيرا عن السابق وفرنسا فقدت الكثير من تأثيرها عليه.
ويؤكد مالسانيي “الدبلوماسية الفرنسية لها وزن ضعيف في اللعبة السياسية اللبنانية “، فيما يذهب خبراء آخرون إلى القول إن فرص فرنسا الدبلوماسية في تقديم نتائج ملموسة ستكون محدودة للغاية إذا بقيت تمسك العصا من الوسط. وتدرك فرنسا أن ربط الحريري تراجعه عن استقالته بـ”النأي عن النفس عن نزاعات المنطقة” في إشارة إلى حزب الله، وإعلانه عودته “خلال أيام” إلى لبنان، يطرح سيناريوهات عديدة تجبرها على إظهار الحياد في انتظار ما ستتمخض عنه الأيام المقبلة من أحداث.
فإن عاد الحريري إلى لبنان وكرّر ما قاله في المقابلة، فسيكون بمثابة إعلان الحرب على حزب الله. وإن تراجع عما قاله، فسيكون لذلك ارتدادات خارجية وخيمة، بينها قطع علاقاته نهائيا مع حليفه السعودية، مع ما يحمله هذا السيناريو من تداعيات سلبية على كافة الأصعدة. من هنا، ترى باريس أن الخيار هو مراقبة ما يحدث خصوصا وأن عودة الحريري إلى لبنان ستكون “خلال أيام” كما قال، دون استبعاد فرضية بقائه في الرياض أو الانتقال منها إلى فرنسا التي يحمل جنسيتها.
ويرى المحلل السياسي الفرنسي كريستوف فروت أن غموض موقف فرنسا نابع من “عجزها عن التدخل”. وقال فروت، في تصريحات نقلتها وكالة أنباء الأناضول، إن باريس لم تكن لترغب بأن يقدم الحريري استقالته، ولذلك فهي تنتظر عودته إلى لبنان، ولكنها عاجزة، في الآن نفسه عن فرض ذلك على السعودية، شريكها الأساسي، كما أنها لا تفكر في خيار التدخل بقوة.
جان إيف لودريان:عدم تدخل إيران في شؤون لبنان شرط مهم لاستقرار المنطقة
تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان التي اعتبر فيها أن “عدم تدخل إيران في شؤون لبنان شرط مهم لاستقرار المنطقة” وقول المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية إن “سعد الحريري دعا إيران إلى عدم التدخل في شؤون لبنان وجيرانه. ونحن نعتقد أن هذا شرط مهم لاستقرار المنطقة”، لم تخرجا الموقف الفرنسي عن حياده، رغم أن الظهار يبدو عكس ذلك، وإنما أكّدت تمسّكه بنفس تمشّي إمساك العصا من المنتصف.
ويقول الخبراء إن هذه التصريحات جاءت تعقيبا على إعلان الحريري استقالته بسبب وجود “مساع إيرانية لخطف لبنان وفرض الوصاية عليه”، ما يعني أن الموقف الفرنسي لم يتغيّر نحو الخروج عن حياده المعتاد، وإنما ظل حتى الآن ثابتا ومكتفيا بـ”التعقيب” على الوضع وتكرار الحديث عن سيادة الدولة اللبنانية وحماية أمنها واستقرارها والدعوة إلى عودة الحريري إلى لبنان.
وكان أحدث تصريح بخصوص هذه العودة ما صرح به رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب، الثلاثاء الـ14 من نوفمبر 2017، حيث قال خلال جلسة مساءلة للحكومة أمام البرلمان، إن “المطلوب هو أن يتمكن الحريري من العودة بحرية إلى بلده لتوضيح وضعه طبقا للدستور اللبناني”، مضيفا أن استقالة هذا الأخير من السعودية تفتح الباب أمام “مرحلة من الشكوك (لا بد) من إنهائها سريعا”. وردّ سعد الحريري على هذه الدعوات بإعلانه عبر تويتر أنه عائد إلى لبنان خلال يومين.
إصرار على سيادة لبنان ولكن..
في موقف آخر يعكس تخبّط موقف باريس، حذرت فرنسا، العضو الدائم في الأمم المتحدة، بأنها قد تطرح “مبادرات” بالتعاون مع المنظمة الأممية في حال لم تجد الأزمة الحالية في لبنان مخرجا سريعا. وأضاف بيان الإليزيه “نبقى يقظين جدا. سنرى ما سيحصل بالفعل خلال الأيام المقبلة، وسنواصل أخذ المبادرات التي نفكر فيها خلال مستقبل قريب، خصوصا بالتعاون مع الأمين العام للأمم المتحدة”.
وتابع البيان أن ماكرون وغوتيريش “تطرقا إلى المبادرات التي يتوجب اتخاذها لطمأنة اللبنانيين وضمان الاستقرار في لبنان وحمايته من التأثيرات الإقليمية التي يمكن أن تكون مزعزعة للاستقرار”. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تباحث هاتفيا مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في هذه “المبادرات”، في خطوة اعتبرها خبراء محاولة فرنسية للهرب من مأزق تحديد موقف بالتخفي خلف الأمم المتحدة.
ويقول الخبراء إن ماكرون منذ تولى الرئاسة عرض الوساطة في ليبيا وأوكرانيا وسوريا وفي الأزمة مع قطر بل وفي فنزويلا. وفي كل مرة كان يحاول تجنب الانحياز مع أحد ضد أحد. لكن هذا قد لا يجدي مع الملف اللبناني، الذي يعد امتدادا لملف أشمل يتعلق بالموقف من إيران وتدخلاتها في شؤون الدول العربية وتهديدها لأمن المنطقة.
ورغم الأهمية المحورية التي توليها باريس لاستقرار لبنان، إلا أن موقفها يظل سجين العديد من الاعتبارات التي تفرضها خصوصية الوضع في بلد الأرز وفي المنطقة العربية عموما.
ويعتقد فروت أن فرنسا فقدت الكثير من قوتها ومن قدرتها على التأثير في لبنان، خصوصا في ضوء عجزها عن تحديد موقف أو موقع واضح لها مع تحالفات لبنان الداخلية.
وقال هشام دغيم، أستاذ العلوم السياسية بجامعة السوربون بفرنسا، إن مصادر فرنسية نقلت عن ماكرون قوله للأمير محمد بن سلمان خلال لقائهما بالرياض، إن “ما من شيء يمكن أن يكون خطيرا بمقدار المساس باستقرار لبنان”.
واعتبر دغيم أن فرنسا حريصة على البقاء على الحياد في التعامل مع لبنان سواء خلال أزماته أو في أبرز محطاته السياسية الداخلية. غير أن حرص باريس على العزف على وتر الحياد مع جميع الأطراف اللبنانية، أفقدها الكثير من وزنها في لبنان، ما يجعلها اليوم عاجزة تماما عن لعب دور الموفق فيه.
وذهب فروت إلى حد القول “إن ‘اللاموقف’ الفرنسي من شأنه أن يخلق ضعفا في وضعية باريس إزاء بيروت، ولذلك فإن محاولات فرنسا بناء علاقات متوازية مع حزب المستقبل وحزب الله، انتهت فعليا بـ’تجميد’ وزنها ودورها بالبلاد ولتجد فرنسا نفسها على خط التماس بين لبنان والسعودية، عاجزة في الآن نفسه عن التأثير داخليا في لبنان من جهة، وعن التمرّد على خيارات السعودية في المنطقة”، وقد أكد فروت أن بلاده “تقترف خطأ في تقييم التوازنات بالمنطقة، ومع ذلك، لازالت تصر على هذا الخطأ”.
العرب اللندنية