أسفرت الأزمة المستمرة بين الحكومة الاتحادية في العراق وحكومة إقليم كردستان عن خسارة هذه الأخيرة الكثير من الأراضي والنفط والسلطة التي بدأت تكتسبها بعد الإطاحة بصدام حسين عام 2003. وفي الإقليم، يخسر القادة الأكراد شرعيتهم، وعموماً، تتحمل القيادة السياسية في «حكومة إقليم كردستان» بحدّ ذاتها مسؤولية المصائب التي تواجهها. فحكومة إقليم كردستان خسرت اليوم الدعم الدولي الذي تمتعت به في ما مضى بسبب استفتاء على الاستقلال أسيء تقدير تبعاته والذي أصرّ القادة الأكراد على إجرائه، على الرغم من المعارضة الأمريكية، وتحوّل الاستفتاء على استقلال أكراد العراق والذي وقف البارزاني بقوّة وراء تنظيمه إلى مقامرة خاسرة بعد أن أقيم على حسابات غير دقيقة وقراءات خاطئة للموقف الدولي، وتحديدا الأميركي، حيث كان زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني يتوقّع أن تهبّ واشنطن لنجدته في نهاية المطاف مسايرة للأمر الواقع الذي سيفرضه تصويت أكراد العراق بكثافة لصالح الاستقلال، لكن تبيّن أن للولايات المتحدة حسابات مخالفة تماما لحسابات البارزاني.
كما أن ردود الفعل الساخطة الناتجة عنه قد شجعت قوات الأمن العراقية التي اكتسبت خبرة في ساحات المعركة على إخراج قوات “البيشمركة” الكردية من الأراضي التي سيطرت عليها منذ عام 2014 وإعادتها إلى حدودها الأساسية من عام 2003. وما زاد من الضغوط على حكومة إقليم كردستان الحكم الذي أصدرته قضت المحكمة الاتحادية العليا في العراق في تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، بعدم إمكان انفصال أي منطقة أو محافظة عن البلاد. وأمام هذه التحديات فليس بوسع حكومة الإقليم سوى تقديم التنازلات لبغداد، متجاوزة ما كان يعتبر ثوابت كردية، تعكس عمق الأزمة التي أصبحت تواجهها بعد الاستفتاء الذي تم تنظيمه بشأن استقلال الإقليم، وانعدام الخيارات أمامها وافتقارها للسند الدولي لها.
أعلنت حكومة إقليم كردستان العراق في 14 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي، احترامها لقرار المحكمة الاتحادية العليا الذي يحظر انفصال الإقليم عن العراق، وشددت على أن يؤسس حكم المحكمة لحوار وطني يحل الخلافات عن طريق الدستور. وقالت حكومة كردسان في بيان إنها ترحب بحل الخلافات مع السلطة الاتحادية بطرق دستورية وقانونية، انطلاقا من موقفها بالترحيب بجميع المبادرات، وفي مقدمتها مبادرة المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني والدول الصديقة بشأن العودة للدستور لحل الخلافات، وفق قولها. وأضاف البيان «نحترم تفسير المحكمة الاتحادية العليا للمادة الأولى من الدستور، وفي نفس الوقت نؤكد إيماننا بأن يكون ذلك أساسا للبدء بحوار وطني شامل لحل الخلافات عن طريق المواد الدستورية باعتبارها السبيل الوحيد لضمان وحدة العراق». وكانت المحكمة الاتحادية أكدت الأسبوع الماضي عدم وجود نص في الدستور العراقي يجيز انفصال أي مكون بالبلاد، وقالت إن تفسير المادة الأولى من الدستور العراقي «أكدت على وحدة العراق، وألزمت المواد الأخرى من الدستور السلطات الاتحادية كافة بالمحافظة على هذه الوحدة». وتنص المادة على أن جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة، ذات سيادة كاملة، ونظام الحكم فيها جمهوري نيابي ديمقراطي، وأن هذا الدستور ضامن لوحدة العراق.
وقد رحّب مكتب إياد علاوي نائب الرئيس العراقي، الثلاثاء، بموقف حكومة إقليم كردستان بشأن قرار المحكمة الاتحادية. وقال في بيان إن “ذلك الموقف من شأنه أن يمهّد أكثر لأرضية حوار صريح وشفاف يُعلي مصلحة العراق الموحد أولا، ويسهم في إيجاد حل لجميع نقاط الخلاف، وهو ما ندعو جميع الأطراف للبدء به وفي أسرع وقت ممكن”. ورحب نائب الرئيس العراقي أسامة النجيفي ببيان حكومة إقليم كردستان حول تفسير المحكمة الاتحادية العليا للمادة الأولى من الدستور العراقي، معتبرا تصريحات حكومة الإقليم “تطورا يساعد في تهيئة الظروف” للحوار بين أربيل وبغداد
وعلى الفور علق مبعوث الرئيس الأميركي للتحالف الدولي بريت ماكغورك في حسابه على «توتير»، مرحباً بالموقف الكردي قائلاً: «هذا بيان مهم وواضح من حكومة الإقليم لتفسير المادة الأولى من الدستور»، وجاء تعليقه بعد أن كان نشر صورة له مع مسؤول العلاقات الخارجية في حكومة كردستان فلاح مصطفى، مؤكداً أنه «شيء عظيم، أن ألتقي صديقي القديم، وأن نناقش أهمية وحيوية العلاقة القوية بين اربيل وواشنطن، في إطار الدستور العراقي». البيان الذي اعتبر تحولاً إيجابياً كبيراً في الأزمة الحالية بين بغداد وأربيل هو بمثابة اعتراف ضمني من حكومة كردستان بعدم شرعية الاستفتاء، الذي أجري في 25 سبتمبر/أيلول الماضي. ويرى مراقبون في موقف الحكومة الكردية قبولاً بشرط رئيس الوزراء حيدر العبادي بإلغاء نتائج الاستفتاء، قبل الدخول في حوار لحل الخلافات. وتأتي أهمية الموقف أيضا من إعلانه “احترام” تفسير يصيب حلم تأسيس الدولة الكردية في مقتل ويلغيه، ما يعني أن تنازلات أربيل تتدرّج نحو إعلان التخلّي عن ذلك الحلم التاريخي في سبيل الخروج من أزمتها الخانقة.
ويرجع المتابعون للشأن العراقي دوافع الإقليم في قبول قرار المحكمة الاتحادية في بغداد أن الإقليم بعد تنظيم استفتاء وقف وراءه بقوة حزب رئيس الإقليم مسعود البارزاني، نفسه في حالة شبه حصار مطبق تشارك فيه كل من إيران وتركيا، وأصبح يواجه أزمة مالية خانقة بعد توقف مبيعاته من النفط بشكل مستقل عن الحكومة المركزية. والأزمة المالية إحدى دوافع التنازلات الكبيرة التي تقدّمها القيادة الكردية تباعا. واعتبر نائب رئيس كتلة التغيير البرلمانية الكردية أمين بكر، الثلاثاء، أن مسودة الموازنة الاتحادية للسنة المالية 2018 “غير منصفة”، داعيا إلى دفع مستحقات الإقليم المالية كاملة بالموازنة والبالغة 17 بالمئة بغية معالجة جميع الملفات بين بغداد والإقليم، ومحذّرا رئيس الوزراء حيدر العبادي من “فوضى كبيرة وخطيرة لا تحمد عقباها” في حال عدم تعديل المسوّدة. أضف إلى ذلك العامل الإقليمي والمتمثل برفض ايران وتركيا الاستفتاء وتعاونا على افشاله قد هذا بدفع حكومة إقليم كردستان بالموافقة على حكم المحكمة الاتحادية في بغداد.
بعد ما يقارب من شهرين من استفتاء إقليم كردستان يمكن القول أتاحت أزمة إقليم كردستان فرصة كبيرة لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ليستكمل صورة الرجل القوي والسياسي المحنّك التي بدأت تُرسم له بفعل قيادته الموفّقة للحرب على تنظيم داعش، فيما تسببت في دفع الزعيم الكردي المخضرم مسعود البارزاني، رغم عراقته في مجال السياسة، إلى هامش النسيان بعد فشله الذريع في تمرير مشروع الاستقلال، الذي كان نجاحه سيجعل منه قائدا تاريخيا لأكراد العراق والمنطقة.
وإزاء بيئة عراقية وإقليمية ودولية، وقيام حكومة إقليم كردستان بتجميد نتائج الاستفتاء والموافقة بعد ذلك على قرار المحكمة الاتحادية في بغداد، فهل الخطوة القادمة لتلك الحكومة إعلانها إلغاء نتائج استفتاء مثير للجدل؟ فوفقًا لمتابعون للشأن العراقي إن إعلان أربيل عن إلغاء نتائج الاستفتاء هو السبيل الوحيد الذي يسمح للعبادي بإعادة التواصل مع إقليم كردستان”، ربما يكون ثمنا معقولا لأي اتفاق بين بغداد وأربيل، يحصل بموجبه إقليم كردستان على حصة لا بأس بها من موازنة البلاد الاتحادية” بعدما تحولت الأزمة الكردية إلى ملف انتخابي.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية