تثير استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري أخيرا، خلال وجوده في السعودية، تساؤلا رئيسيا حول المسار الذي يمكن أن تئول إليه هذه الأزمة، لاسيما في ظل ما أثارته من ردود فعل إقليمية ودولية، وما كشفت عنه أيضا من تهديدات المشروع الإيراني للدول العربية، ومحاولة طهران الهيمنة على الساحة اللبنانية، عبر حزب الله.
تزداد الأزمة اللبنانية توترا، في ظل تصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني حول هيمنة طهران على مكامن صنع القرار في لبنان، فضلا عن تصريحات أخرى لمستشار المرشد الإيراني للشئون الدولية، علي أكبر ولايتي، خلال زيارته لبنان في الثالث من نوفمبر الجاري، بأن: “الانتصارات التي تحققت في سوريا والعراق هى انتصار لمحور المقاومة”.
يضاف لذلك التصعيد الخطابي على الساحة اللبنانية، سواء من جانب “حزب الله” ضد السعودية، أو قيادات تيار المستقبل اللبناني التي تحدثت عن إعادة النظر في الشراكة السياسية مع حزب الله، بما ينبئ بخطر تمدد الاصطفافات الإقليمية إلى الداخل اللبناني، وتباينها ما بين مشروع عربي، وآخر إيراني.
وبشكل عام، كشفت استقالة الحريري عن إعادة التوترات في الداخل اللبناني، بداية من تصدع تسوية “الحريري-عون”، والاحتجاج الضمني على محاولات حزب الله وحلفائه توريط لبنان في الصراع السوري، وهو ما أبرزته صفقات حزب الله مع تنظيم “داعش”، و”جبهة فتح الشام” (النصرة سابقًا) في أغسطس 2017، والتي أثارت احتجاجات واسعة لتعديها على دور الجيش اللبناني في حماية أمن الحدود الوطنية، وجددت المطالبات بضرورة إنهاء الازدواجية العسكرية في لبنان.
كذلك، عنت الاستقالة الرفض الضمنى لتحركات “حزب الله” وحلفائه لتعزيز العلاقات الرسمية مع النظام السوري، والتي كان من بينها لقاء وزير الخارجية اللبناني “جبران باسيل” مع وزير خارجية النظام السوري “وليد المعلم” في نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 سبتمبر 2017، بالإضافة إلى محاولة تجنب تحميل لبنان تكلفة قيام “حزب الله” بدور الوكيل في تطبيق السياسات الإيرانية التوسعية في منطقة الشرق الأوسط.
تغيرات إقليمية:
ثمة مجموعة من التغيرات في البيئة الإقليمية تدعم تصاعد الأزمة اللبنانية الراهنة، ومن أبرزها:
1- انهيار منظومة الأمن القومي لبعض دول الشرق الأوسط، وهو ما انعكس سلبًا على استقرار هذه الدول داخليًا، وكذا قوتها الخارجية، حيث تعاني معظم دول المنطقة ثغرات أمنية كبيرة، نتيجة اختراقات أجهزة الاستخبارات الخارجية والدولية، والتي تعتمد على ضرب منظومة الأمن الداخلي تحت غطاء الإرهاب.
2- تصاعد تدخل القوى الكبرى في النزاعات الداخلية في دول المنطقة، خاصة روسيا والولايات المتحدة، الأمر الذي أدى إلى مواجهة غير مباشرة في الشرق الأوسط.
3- انتشار الحروب بالوكالة، في ظل انهيار منظومة التوازن الإقليمي، بما دفع بعض الدول الصغيرة (كدولة قطر) إلى ممارسة دور مهدد لاستقرار المنطقة، بما أثر سلبا فى استقرار معادلة الأمن الإقليمي، وعدم فاعلية المنظومات الإقليمية، كالجامعة العربية، ومجلس التعاون الخليجي.
4- هشاشة الحدود، وضعف الوظائف الأمنية للدولة القومية، إثر النزاعات الداخلية، والتدخلات الخارجية، وهو ما تجلى في سيطرة “داعش” على معظم الأراضي العراقية والسورية، وإنشاء دويلات داخل الدولة الواحدة، بالإضافة إلى ظهور النزعات الانفصالية، وتصاعد الهويات العرقية والإثنية في بعض الدول، كما الحال مع إقليم كردستان العراق.
5- سريان حالة من السيولة وتهاوي التحالفات الداخلية والإقليمية، كما الحال في العلاقات الخليجية – الخليجية، إثر أزمة مقاطعة قطر في يونيو الماضي، وكذلك أيضا على مستوى الحلفاء الداخليين في اليمن، كحالة الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وجماعة الحوثيين.
أزمات رئيسية:
ثمة مجموعة من الأزمات الأساسية المرتبطة بالأزمة اللبنانية الراهنة، على الرغم من تجاوز فواعل هذا البلد سابقا للتوترات، عبر تدشين اتفاق “التسوية الرئاسية”، الذي يُجبر حزب الله على التخلي عن سياسته الخارجية، وتأكيد “المشروع العربي”، مقابل “المشروع الإيراني”. ومن قبل ذلك، كان اتفاق الطائف الذي أنهى حربا أهلية دامت أكثر من 15 عامًا. ومن أبرز الأزمات المرتبطة باستقالة سعد الحريري ما يأتى:
أولا- أزمة الشرعية: إذ شهدت السلطة في لبنان تراجعاً في مدى شرعيتها وقبولها على الصعيد المجتمعي. وانعكس ذلك على التخبط في السياسات الداخلية التي أحدثت مسبقا فراغا رئاسيا، وشلت عمل البرلمان والحكومة، وانتهت بأزمة أمنية واقتصادية بسبب الصراع في سوريا، وصولا لاستقالة سعد الحريري، وهو ما أفضى إلى مزيد من الخلل الداخلي.
ثانيا- أزمة التهميش: ففي ظل المحاصصة الطائفية السياسية، شكل اتفاق التسوية الرئاسية (الحريري – عون) ضربة قوية للقوى السنية. وحتى وإذا أراد الحريري أن يُعيد السيطرة على مجرى النزاع، فلن يتمكن، لأنه قام مسبقًا بتشكيل الحكومة بتمثيل سُنّي أقل، من خلال تمكين تحالف (8 آذار)، حيث الأغلبية من الطوائف الشيعية والمسيحية، وأهمل تحالف (14 آذار) ذا الأغلبية من الطوائف السُنية. وعند ترجمة هذا الأمر، فإن حكومة الحريري الحالية بها خمسة وزراء سُنّة فقط، أي أن هناك تهميشا للطائفة السنية، والتي لكثيرا ما حظيت بالنفوذ داخل تشكيل الحكومة، خلال فترتي رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري الذي اغتيل عام 2005.
ثالثا- أزمة التدويل: أي أن الأزمات اللبنانية مخترقة من العامل الخارجي، سواء الدولي أو الإقليمي، بما يعمق من استثمار بعض القوى الخارجية للأزمات الداخلية في هذا البلد، وهو ما برز في استقالة الحريري، حيث بدا أن المحاصصة الداخلية تحولت إلى تجاذبات إقليمية، خاصة في ظل اختراق المشروع الإيراني لهذا البلد، عبر حزب الله.
مسارات مُحتملة:
تأسيسا على ما سبق، يبرز مساران أساسيان للأزمة اللبنانية، هما :
أولا- المسار السياسي: ويتمثل في إعادة إنتاج التسوية السياسية، ويتوقف هذا المسار على المواجهة الإقليمية بين الرياض وطهران في بيروت، ومدى مرونة ردود فعل “حزب الله”. ويفترض هذا المسار تقديم الحزب لتنازلات متعددة لبناء الثقة في الداخل اللبناني، ومن أبرزها القبول بحكومة جديدة لا يكون فيها الحزب ممثلًا فيها، أو على الأقل تخفيض حصته، وكذلك الانسحاب من سوريا، والكف عن التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية.
ثانيا- المسار العسكري: حيث إن استقالة “الحريري” تشير إلى أن الحكومة قد تم حلها. وبالتالي، فإن حزب الله لم يعد ممثلاً فيها، مما يعني أن أي تدخل ضده لن يكون ضربة ضد الدولة اللبنانية. كما أن حزب الله قد يتسبب في توريط لبنان في مواجهات عسكرية جديدة مع إسرائيل، في ظل إصرار قيادة الحزب على تطوير ترسانته العسكرية لبناء معادلة للردع في مواجهة تل أبيب.
في الوقت نفسه ، فإن إسرائيل ربما تسعى إلى توجيه ضربات استباقية لتدمير ترسانة حزب الله، في ظل تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية على لبنان، بسبب تدخلات حزب الله العسكرية بدعم إيراني في سوريا، ولبنان، واليمن، وتهديداته لأمن الدول العربية. ولعل “روبرت كابلان” قد أشار في كتابه “انتقام الجغرافيا” إلى الانعكاسات السلبية لسياسات إيران الإقليمية، ورعايتها للإرهاب، عبر تحالفها مع حزب الله، مما يدفع دول الشرق الأوسط للتحالف لمواجهة تهديداتها الإقليمية.
ونظرا لأنه ليس من مصلحة السعودية الدخول في نشوب حرب بالوكالة في لبنان مع إيران، فإن المسار السياسي هو السيناريو الأقرب إلى الواقع، خاصة مع اقتراب الانتخابات البرلمانية في لبنان، على افتراض أنه لن يتم تأجيلها، إذ يتوقع المحللون أن تكون هنالك إعادة إنتاج محتملة للتسوية السياسية، ومن ثم الموازين الداخلية في لبنان.
إيمان زهران
مجلة السياسة الدولية