تدفعنا الاستقالة المفاجئة والمثيرة للدهشة لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري خلال عطلة نهاية الأسبوع، والتي القى فيها اللوم على التدخل الإيراني في بلاده، تدفعنا للنظر إلى هذه المعضلة المأساوية، والى تلك الطريقة التي استخدمت بها إيران حزب الله-الذي يعتبر جزءً جوهرياً من النسيج السياسي اللبناني- لتحقيق أهدافها في سورية. عبارة نصر الله الأشهر، بأن طريق القدس تمرّ في كل المحافظات السورية، ليست جديدة، وليس نصر الله من جاء بها، هو يردد ما قاله قائد الثورة الإسلامية في إيران، روح الله الخميني. وأي هدف سياسي يسعى الحزب لتحقيقه على المستوى السياسي التكتيكي في لبنان، أو الاستراتيجي في لبنان والمنطقة، فهو مرتبط بإيران وبتطلعاتها السياسية.
صحيح، أن لبنان يتأثر بما يجري حوله من تطورات سياسية وعسكرية، وهو ارتبط بشكل أساسي بكل التطورات السورية، كما ارتبط إلى حدّ بعيد بالقضية الفلسطينية. ومن ثم، نجحت إيران ببراغماتيتها، في وضع القضية الفلسطينية في سلّم أولوياتها، حيث استقبلت الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بعد أيام قليلة على انتصار الثورة، فيما كان عرفات يعاني حصاراً عربياً. وهذا ما عملت إيران على تثبيته أكثر فأكثر، خصوصاً بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982. فبالتزامن مع بدء الاجتياح، صعّدت إيران من عملياتها العسكرية ضد عراق صدام حسين، وشنّت حملة عسكرية واسعة، لأجل استعادة المدن والمناطق الإيرانية، التي كانت قد سيطرتها عليها القوات العراقية وقد استطاع الإيرانيون في حينها، استعادة خرمشهر وكشك، وحينها رفع الخميني شعار “الطريق إلى القدس يمرّ بكربلاء، والطريق إلى لبنان يمرّ بالعراق.”
كانت المعادلة واضحة في حينها، استخدام المفهوم العقائدي، لتحقيق غاية سياسية، سواء على أرض العراق، أو باستغلال التدخل الإسرائيلي في لبنان، لتعبيد الطريق أمام الدخول الإيراني تمهيداً للسيطرة، وليست السيطرة العسكرية بطبيعة الحال، إنما إنشاء مناطق نفوذ، تصبح إيران من خلالها قادرة على التأثير في المعادلة. كما أغدقت طهران كل وسائل الدعم لحزب الله، لتوسيع مناطق نفوذه.
تدرّج حزب الله في الذرائع التي ساقها، لتبرير دخوله معترك الحرب السورية إلى جانب نظام بشار الأسد. أكثر من سبب تذرّع بهما الحزب أمام جمهوره لإقناع بيئته الحاضنة بوجوب التدخل إلى جانب نظام البعث، أول الأسباب كان حماية اللبنانيين الشيعة في سوريا، وفي القرى اللبنانية التي تخضع للسيطرة السورية بفعل تداخل الحدود بين البلدين وعدم ترسيمها، ثاني الأسباب كان حماية المراقد الدينية والمقامات المقدسة، والسبب الثالث، جاء تحت شعار الحرب الإستباقية، والذهاب إلى قتال التكفيريين في سوريا قبل مجيئهم إلى لبنان. هذا الخطاب استمرّ على مدى سنتين من فترة إنخراط الحزب في الصراع السوري. بعد تلك الفترة، أعلن نصر الله أن الغاية من التدخل، هي الحفاظ على النظام ووجوده، ولأن إسقاط النظام، يعني ضرب مشروع المحور الإيراني. شكّل هذا الموقف لبنة أساسية في انخراط الحزب في أكبر المعارك على الأرض السورية. الجميع يذكر جملة نصر الله الشهيرة، بأن طريق القدس، يمرّ من حلب، وحمص وإدلب.
أسس حزب الله، واكتسب شرعيته في وجدان اللبنانيين والعرب، لأنه قاتل ضد الجيش الإسرائيلي. وهذا ما طبّقه حزب الله حرفياً في سوريا، طوال حربه هناك، كان يعلن الحزب أن القتال في سوريا يتركز ضد المشروع الإسرائيلي، وضد وكلائه. كان هذا الشعار إلى جانب شعار مواجهة التكفيريين والمتطرفين والإرهابيين، يصب في خانة تجييش المقاتلين وإقناع البيئة الشيعية بضرورة هذه الحرب وقداستها، والتي تبرّر تكبّد الحجم الهائل من الخسائر التي مني بها الحزب هناك.
أما من الناحية السياسية، فلحزب الله مشروع منذ تأسيسه، يهدف إلى تصدير الثورة، وهو ما يعنى أن إيران تسعى إلى بسط سيطرتها على العراق، وسوريا، ولبنان. وهذا ما يحصل اليوم بشكل فعلي ومنطلقه الأساسي الجغرافية السورية، خصوصاً مع المعارك التي خاضتها القوات الإيرانية والفصائل الموالية لها وعلى رأسها حزب الله، على الحدود السورية العراقية، لتأمين فتح ممر آمن يربط طهران ببيروت، مروراً بالعراق وسوريا.
ارتكزت ايران على القضية الفلسطينية، لتحقيق طموحاتها السياسية والتوسعية، وصحيح أن أغلب الشعارات التي رفعت من قبل ولاية الفقيه، أو المنضوين تحت لوائها كانت شعارات ديماغوجية، وأيديولوجية، إلا أن المقاربة الإيرانية للتطورات السياسية، كانت براغماتية إلى حدّ بعيد، سواء في البعد الدولي والاستراتيجي والعلاقة مع المجتمع الدولي، التي استمرّت برفع شعارات تناصب العداء للولايات المتحدة الأميركية بوصفها الشيطان الأكبر، فيما ذهبت إلى توقيع الاتفاق النووي معها، أو في البعد السياسي الضيق في الساحات المختلفة، كلبنان مثلاً، حين وجدت نفسها مضطّرة للمواجهة مع النظام السوري لفترة، وهذه التي حصلت فيها معارك عنيفة بين حزب الله التابع لإيران وحركة أمل التابعة لسوريا، أو فيما بعد وجدت نفسها مضطرة للتطبيع مع السعودية في لبنان، عبر الدخول في تسويات سياسية بين الأفرقاء اللبنانيين الذين ينتمون إلى محورين مختلفين، المحور الإيراني والمحور السعودي الأميركي.
وكما استغلت الاجتياح الأميركي للتغلغل أكثر في العراق لا تخفي إيران، سعيها لإنشاء الهلال التابع لها في المنطقة العربية، وهي عملياً، بدأت بتحقيق ذلك، أو بإعلان إنجازه، وهذا ما تولاه نصر الله شخصياً، في يوم القدس الذي يصادف في آخر يوم جمعة من شهر رمضان، أعلن نصر الله في خطابه بتلك المناسبة، أن المحور الإيراني انتصر في المنطقة، بفعل الانتصارات التي جرى تحقيقها في سوريا، وعلى الحدود السورية العراقية، أصبح حزب الله يعتبر، أن نقل المقاتلين من العراق إلى سوريا، متحقق بشكل سهل، كما هو الحال بالنسبة إلى نقل المقاتلين من لبنان إلى سوريا، وبالتالي فإن الرسالة التي يريد حزب الله إيصالها، هي أن كل الحدود سقطت، وتم إنشاء قواعد اشتباك جديدة، ضد إسرائيل أو ضد العرب، تمتد مساحة هذه الحدود، من جنوب لبنان، وتحديداً من الناقورة، إلى جبل الشيخ في جنوب سوريا، شرقاً نحو الحدود العراقية، وشمالاً نحو البقاع اللبناني، وريف دمشق حتى حمص في وسط سوريا.
تعلن إيران اليوم انتصاراتها العسكرية بعد أن نجحت في استغلال ضياع الرؤية الدولية وتشتتها، والحجم الكبير لتعقيدات العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط، لأجل تغيير الخرائط، وإعادة رسم الحدود، ليس قانونياً هذه المرّة، بل ديموغرافياً وعسكرياً. لا تقتصر أهداف إيران على امتلاك نفوذ واسع في المنطقة، وأن تصبح قوة إقليمية كبيرة فيها، بل هي تتخطى ذلك، لصالح تحقيق أهداف اقتصادية وتجارية.
ففي لبنان، تكتنز مناطق النفوذ الإيرانية، على بلوكات نفطية كبرى في البحر الأبيض المتوسط، وتحديداً في الجنوب، من الناحية الجغرافية، أما من الناحية السياسية، فإن إمتلاك طهران كلمة نافذة في القرار سيمنحها مكتسبات عديدة في قطاع النفط والطاقة. وهي تسعى للتقدم إلى مناقصات التنقيب عن النفط التي بدأت الدولة اللبنانية بإجرائها، وفي سورية، فإن إيران إستماتت في القتال في وسط البلاد، وتحديداً في حمص، المنطقة الغنية بحقول الفوسفات، مع تأمين الخطّ الاستراتيجي المليء بالخيرات النفطية من وسط سوريا إلى شرقها وصولاً إلى العراق. تصدير النفط الإيراني إلى أوروبا، عبر الأنابيب الموصولة من البصرة إلى لبنان هو أول الأهداف الإيرانية للتوسع والسيطرة السياسية، وتثبيت الهلال الشيعي، أما الأهداف الأخرى، فستظهر تباعاً، في ظل الغياب المستمر لأي استراتيجية عربية أو أميركية لمواجهة طهران وتحجيم نفوذها.
منير الربيع
معهد واشنطن