مرّت مائة عام على وعد بلفور، وقد استحوذ على اهتمام متميز نتيجة هذه المائة عام. وكثر الحديث عن اعتبار أنه أساس مأساة فلسطين، وكذلك كثرت الإشارات إلى تحميل إنجلترا المسؤولية عن هذه المأساة نتيجته، وجرت مطالبتها بالاعتذار عن هذا “الفعل الشنيع”. ولا شك في أنه فعلٌ شنيع، لكنه التصريح الذي كشف سياسة إنجلترا أكثر من أن يكون هو أساس ما حدث فيما بعد، فقد استحوذت إنجلترا على فلسطين ضمن اتفاق سايكس/ بيكو، من أجل أن تنفّذ ما ورد في هذا التصريح، أي إقامة دولة لليهود في فلسطين.
وبالأساس، فإن فكرة إقامة “دولة يهودية” في فلسطين هي فكرة إنجلترا، قبل أن تكون فكرة أي فرد من أصل يهودي. وإذا كان نابليون، وهو يحاول احتلال مصر، قد طرح الفكرة بشكل عابر، فقد نتجت عن رؤية الرأسمالية الإنجليزية، بعد أن تخلصت من خطر محمد علي باشا، إثر هزيمته وفرض استسلامه. فقد وجدت أن ميل مصر محمد علي باشا إلى التمدّد شرقاً، وهو المسار الذي حكم كل تاريخ مصر أصلاً، يفرض أن يوضع حاجز في فلسطين يمنع هذا التمدّد في أي وقت. لهذا، كان توقيع محمد علي باشا على وثيقة الاستسلام سنة 1840 هي السنة التي أطلق بالمرستون الذي بات وزيراً للخارجية في “بريطانيا العظمى” تصريحه عن إقامة “وطن قومي” لليهود في فلسطين. لقد أنتج ارتباط اليهود بفلسطين، كما هو متداول، وما يتعمم ثقافة شعبية في أوروبا، نتيجة ربط “العهد الجديد” (الإنجيل) بـ “العهد القديم” (التوراة)، فكرة أن يجري استجلاب اليهود الذين باتوا “مشكلة أوروبية” إلى فلسطين، فيتحقق من خلال ذلك هدفان: التخلص من اليهود، وبناء حاجز يمنع توحيد المنطقة العربية، ويشلّ مصر بما يُجهض كل إمكانية لميلها إلى تحقيق التطور.
بعد ذلك، لم تنشأ الحركة الصهيونية بشكل “عفوي” في الأوساط اليهودية، بل دُفعت الرأسمالية الإنجليزية إلى أن تبرز نخب “يهودية” تطرح الفكرة، وأن يتولى رأسماليون “يهود” تمويل مشروع بناء حركةٍ تدعو إلى “العودة” إلى “الوطن القومي”. كان الاندماج في المجتمعات الأوروبية هو الميل اليهودي العام، وكان الرفض هو الموقف لكل طرح لتمييز اليهود عن غيرهم في الأمم التي يعيشون فيها، فقد احتجوا على عدم اعتبارهم مواطنين في الدستور الذي وضعه نابليون، وانخرط جزء منهم في كل الحركات الثورية في البلدان الأوروبية. بالتالي، كان منطقياً أن تفكّر الرأسمالية الإنجليزية في ترحيلهم، وأن يقبل الرأسماليون من أصل يهودي ذلك، فهم مشكلة داخلية، وبات أكثر فائدة أن يؤدلجوا بما يدفعهم إلى اختيار “حلم وهمي”، وأن يتحوّلوا، في الآن ذاته، إلى جنود مرتزقة في خدمة الرأسمالية، بدل أن يكونوا مناهضين لها. ولما لم تُفد كل الأيديولوجيا بات الهولوكوست ضرورة. لهذا، نجد أن الهجرات الأكبر حدثت بعد ذلك، وأن الهجرات من البلدان العربية لليهود العرب تمت بترحيل النظم لهم، بعد أن قاوموا كل محاولات التخويف التي مارستها الحركة الصهيونية (التفجيرات ضد اليهود في بغداد والقاهرة وغيرهما) .
إذن، ليس وعد بلفور وثيقة جرى تقديمها بناءً على إلحاح الحركة الصهيونية، بل هو الخطوة الأولى لتكريس المشروع الذي هو صناعة إنجليزية دولياً، وفتح الباب لتطبيقه عملياً. وبالتالي، ليست المسألة متعلقة بموظفٍ في الخارجية الإنجليزية، بل هي مسألة سياسة استعمارية بريطانية كانت بحاجة إلى هذا الوجود لليهود في فلسطين، بالضبط لأنها تريد منع توحّدها، الوحدة التي تعني التطور والاستقلال. حيث كانت تريد أن يبقى العرب في حالة تفكّك وتخلف، ومجال نهب من خلال السيطرة على الأسواق والمواد الأولية. وهذا ما كان قد تحقق قبل وعد بلفور في الاتفاقات التي فرضت تقاسم البلدان العربية بين الدول الاستعمارية.
وبالتالي، المأساة الفلسطينية هي جزء من هذه المأساة الأكبر، مأساة منع الوحدة والتطور في الوطن العربي.
وبالأساس، فإن فكرة إقامة “دولة يهودية” في فلسطين هي فكرة إنجلترا، قبل أن تكون فكرة أي فرد من أصل يهودي. وإذا كان نابليون، وهو يحاول احتلال مصر، قد طرح الفكرة بشكل عابر، فقد نتجت عن رؤية الرأسمالية الإنجليزية، بعد أن تخلصت من خطر محمد علي باشا، إثر هزيمته وفرض استسلامه. فقد وجدت أن ميل مصر محمد علي باشا إلى التمدّد شرقاً، وهو المسار الذي حكم كل تاريخ مصر أصلاً، يفرض أن يوضع حاجز في فلسطين يمنع هذا التمدّد في أي وقت. لهذا، كان توقيع محمد علي باشا على وثيقة الاستسلام سنة 1840 هي السنة التي أطلق بالمرستون الذي بات وزيراً للخارجية في “بريطانيا العظمى” تصريحه عن إقامة “وطن قومي” لليهود في فلسطين. لقد أنتج ارتباط اليهود بفلسطين، كما هو متداول، وما يتعمم ثقافة شعبية في أوروبا، نتيجة ربط “العهد الجديد” (الإنجيل) بـ “العهد القديم” (التوراة)، فكرة أن يجري استجلاب اليهود الذين باتوا “مشكلة أوروبية” إلى فلسطين، فيتحقق من خلال ذلك هدفان: التخلص من اليهود، وبناء حاجز يمنع توحيد المنطقة العربية، ويشلّ مصر بما يُجهض كل إمكانية لميلها إلى تحقيق التطور.
بعد ذلك، لم تنشأ الحركة الصهيونية بشكل “عفوي” في الأوساط اليهودية، بل دُفعت الرأسمالية الإنجليزية إلى أن تبرز نخب “يهودية” تطرح الفكرة، وأن يتولى رأسماليون “يهود” تمويل مشروع بناء حركةٍ تدعو إلى “العودة” إلى “الوطن القومي”. كان الاندماج في المجتمعات الأوروبية هو الميل اليهودي العام، وكان الرفض هو الموقف لكل طرح لتمييز اليهود عن غيرهم في الأمم التي يعيشون فيها، فقد احتجوا على عدم اعتبارهم مواطنين في الدستور الذي وضعه نابليون، وانخرط جزء منهم في كل الحركات الثورية في البلدان الأوروبية. بالتالي، كان منطقياً أن تفكّر الرأسمالية الإنجليزية في ترحيلهم، وأن يقبل الرأسماليون من أصل يهودي ذلك، فهم مشكلة داخلية، وبات أكثر فائدة أن يؤدلجوا بما يدفعهم إلى اختيار “حلم وهمي”، وأن يتحوّلوا، في الآن ذاته، إلى جنود مرتزقة في خدمة الرأسمالية، بدل أن يكونوا مناهضين لها. ولما لم تُفد كل الأيديولوجيا بات الهولوكوست ضرورة. لهذا، نجد أن الهجرات الأكبر حدثت بعد ذلك، وأن الهجرات من البلدان العربية لليهود العرب تمت بترحيل النظم لهم، بعد أن قاوموا كل محاولات التخويف التي مارستها الحركة الصهيونية (التفجيرات ضد اليهود في بغداد والقاهرة وغيرهما) .
إذن، ليس وعد بلفور وثيقة جرى تقديمها بناءً على إلحاح الحركة الصهيونية، بل هو الخطوة الأولى لتكريس المشروع الذي هو صناعة إنجليزية دولياً، وفتح الباب لتطبيقه عملياً. وبالتالي، ليست المسألة متعلقة بموظفٍ في الخارجية الإنجليزية، بل هي مسألة سياسة استعمارية بريطانية كانت بحاجة إلى هذا الوجود لليهود في فلسطين، بالضبط لأنها تريد منع توحّدها، الوحدة التي تعني التطور والاستقلال. حيث كانت تريد أن يبقى العرب في حالة تفكّك وتخلف، ومجال نهب من خلال السيطرة على الأسواق والمواد الأولية. وهذا ما كان قد تحقق قبل وعد بلفور في الاتفاقات التي فرضت تقاسم البلدان العربية بين الدول الاستعمارية.
وبالتالي، المأساة الفلسطينية هي جزء من هذه المأساة الأكبر، مأساة منع الوحدة والتطور في الوطن العربي.
سلامة كيلة
صحيفة العربي الجديد