تعددت القراءات السياسية والإعلامية للبيان المقتضب الذي صدر إثر لقاءات عابرة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، على هامش اجتماعات منظمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في فيتنام الأسبوع الماضي (11/11)، على رغم أنه نسج على منوال كل البيانات المتعلقة بالقضية السورية، التي صدرت عن الدول المتصارعة في سورية، حيث أعاد البيان تأكيد أولوية محاربة الإرهاب والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وأن الحل في سورية يجب ان يكون من خلال تسوية سياسية في إطار جنيف. وبغض النظر عن حرص البيان على أن يكون مجرد وثيقة تصدر بعد اللقاء الذي سعت إليه موسكو وترددت واشنطن في قبوله، إلا أن ما ذكر فيه ليس إلا محاولة روسية لتمرير مشهد توافقي بين دولتين عظميين تستفيد منه موسكو لتحسين موقعها في تفاهماتها مع حليفيها الإيراني والتركي اللذين أغفل البيان ذكرهما كما أغفل مسار آستانة.
إن تأكيد التسوية التي قبل بها رئيس النظام السوري عبر عملية جنيف، ينفي في مضمونه وجود التوافق على ما ينص عليه القرار الأممي الذي أشير إليه (2254) المستند إلى بيان جنيف -1، أي «الانتقال السياسي»، ما يعطي الفرصة الكاملة لروسيا لمتابعة جهودها في إعادة الاعتبار إلى النظام، من خلال عملية التسوية التي تترجمها روسيا بإقامة حكومة «وطنية» تشارك فيها المعارضة من خلال التغيير الدستوري، الذي لا تمانع روسيا في مناقشته سواء في جنيف، أو من خلال مسار آستانة، أو من خلال المؤتمر الذي تحاول شرعنته، والترويج له بأنه مؤتمر السلام السوري، في مدينة سوتشي الروسية أو أي مكان آخر، حيث ان التزام الأسد عملية جنيف ليس جديداً ليطرح في بيان على مستوى ترامب- بوتين، سيما ان وفد النظام يشارك في كل جولات جنيف منذ عام 2014، ما يجعل غياب تعبير الالتزام بالانتقال السياسي بناء على بيان جنيف -1 هو المقلق، وليس ما ذكر هو الجديد الذي يمكن مناقشته.
ولعل تجاهل البيان ذكر اتفاقات «خفض التصعيد»، عبر مسار آستانة، ومآلاتها على واقع العملية السياسية، يفيد بأن وجود الشريكين (تركيا وإيران) في العملية السياسية لا يزال غير مرحب به من الجانب الأميركي، ما يحرج موسكو من جهة، وفي الوقت ذاته يعطيها فرصة المناورة مع شريكيها لتحكم قبضتها عليهما، وبالتالي كي يقبلا بالحل الروسي الوحيد حالياً، لتأمين مشاركتهما وضمان حصتهما من الكعكة السورية، التي تكاد تقضمها أميركا جنوباً (اتفاق الجنوب) وشمالاً (الوجود الكردي) وشرقاً (التلاعب بمصير المعارك القائمة على الحدود مع العراق، إلى حين توقيعها على الخريطة النهائية للمنافذ الحدودية)، ويأتي ذلك على رغم الوجود الروسي الفاعل في الساحة السورية، سواء في العمليات القتالية التي تخوضها حتى اللحظة مع النظام ضد معارضيه، أو في قيادة النظام على الساحة التفاوضية، ما يعني أن أمام موسكو خوض معارك تفاوضية من جديد مع شريكتيها في آستانة لإعادتهما إلى حيز الرؤية الأميركية، والقبول بهما، ليس من بوابة الواقع القائم، ولكن من خلال خريطة حل روسية جديدة، تزيح فيها إيران من جنوب سورية وتركيا من شمالها.
على ما تقدم فإن ذكر البيان أن نهاية الصراع في سورية يجب أن تكون في إطار عملية جنيف، لا يعني بالضرورة أن هذا الصراع قد وصل إلى نهايته، فالعملية التفاوضية متداولة دولياً منذ أربعة أعوام، وهي قد تستمر ما لم يأخذ الحوار الروسي- الأميركي شكله الجاد وليس اللقاءات العابرة، والبيانات المفتوحة على التفسيرات المتضاربة بين الموقّعين عليها، حيث تنفي موسكو ما تعلن عنه واشنطن، والعكس (تصريحات واشنطن التي واجهتها تصريحات الكرملين حول تفسير بيان فيتنام المشترك)، لكن على رغم ذلك فالإشارة إلى إطار عملية جنيف تحمل بعض ما يمكن التعويل عليه، في أن البيان يمنح فرصة للسوريين في ترتيب بيتهم الداخلي على جانبي الضفة معارضة ونظاماً:
فمن جهة النظام، فقد سلم أوراقه كاملة إلى روسيا، التي تدير عملياته القتالية والتفاوضية، وتهيّء باستمرار لبدائل تربك السوريين والمجتمع الدولي، كما فعلت بخلقها مسار آستانة لشؤون العمليات القتالية ومحاربة الإرهاب، وربطت نتائجه في الميدان مع مسار جنيف الأممي، فهي اليوم تحاول الأمر ذاته ولكن على صعيد سياسي بالدعوة الى مؤتمر حوار مكونات الشعب السوري (حميميم سابقاً)، وعلى رغم فشلها في إقامته في الوقت الذي أعلنت عنه، بيد أن فكرته والعمل عليها لا تزال موجودة، وفرصة إقامته تكبر مع استشعار تركيا وإيران بخطر أن لا يراعي مسار جنيف مصالح وجودهما في سورية، وقد أشارت إلى ذلك دلالات تغييب البيان اتفاقات خفض التصعيد الذي عقدت في ظل جولات آستانة، والتركيز فقط على اتفاق الجنوب الذي رعته روسيا والإدارة الأميركية والأردن، ما يوحي بحجم خلاف الإدارة الأميركية مع الضامنين الآخرين (إيران وتركيا)، اللذين سارعا إلى التلطي وراء علاقتهما بروسيا.
أما من جهة المعارضة فهي تملك فرصتها- التي ربما تكون الأخيرة – من خلال مؤتمرها الموسع في الرياض، لتعيد بناء نفسها من جديد، وتنقلب على واقعها المرير وتبدأ بقراءة المجريات مبتعدة عن أخطائها وقراءاتها التي كانت في معظم الوقت مخالفة للوقائع ومتأخرة وقاصرة، ما أوصلها اليوم إلى حائط شبه مسدود، فتح لها المجتمع الدولي عبر الرياض-2 ثغرة فيه لتعمل من خلالها، مستفيدة من القرارات الأممية جنيف- 1 و2118 و2254، فإما أن توسعها وتجعل منها نافذة للعبور إلى حل سياسي ينجو من خلاله السوريون، الذين قدموا تضحيات لم يسبقهم إليها أحد منذ الحرب العالمية الثانية، ويجنبهم مزيداً من القتل والدمار والضياع، ويستعيد السلم والأمن والاستقرار، ويشرع الأبواب أمام تغيير سياسي حقيقي، يستعيد معه الشعب سلطته ويبني دولته على أساس المواطنة الكاملة للجميع، أو تجعل منها الفرصة الضائعة لمزيد من التشتت والانقسام والتشظي.
يدرك من سيكونون في اجتماع الرياض حجم مسؤوليتهم اليوم تجاه شعب يتعرض للموت يومياً، من خلال القصف مرة، ومن الحصار المفروض عليه مرات، ومن مواجهته للإرهابيين الذين يحيطون به ويحتلون أجزاء من مدنه، وعلى ذلك فالأولويات لديهم واضحة من وقف قتلهم وفتح المعابر امام المساعدات، ومحاربة الإرهاب، إلا أن ذلك لن يتحقق من خلال البيانات، فهو يتطلب إنهاء واقع نظام حالي، وبناء نظام سياسي مهمته تأمين الحياة الآمنة والكريمة لكل السوريين، ليحملوا سلاحهم في وجه الإرهاب المسلح منه والفكري، والأخير هو المهمة الأصعب على كل الأطراف السورية والدولية.
إن انعقاد مؤتمر موسع للمعارضة ما بين 22 و24 من هذا الشهر يجمع المكونات، وينهي عمل الهيئة العليا للتفاوض التي انبثقت عن مؤتمر الرياض-1، في حضور الكيانات بصفتها، وعديد من ممثلي منظمات المجتمع المدني، والضباط المنشقين والفصائل المسلحة، والمجالس المحلية، والشخصيات الاقتصادية والسياسية، والتمثيل النسوي فيه، هو فرصة ربما تكون الأخيرة، ليس فقط لإنتاج رؤيا تعبر عن مقاصد ثورة دفع السوريون أثماناً باهظة فيها، بل هي اللحظة المناسبة لنفكر جميعاً في إقامة الإطار الجامع الذي يمثل الثورة وينهي حالة الشتات في منصات وكيانات وعواصم وأجندات، وينتج منه وفد واحد بمرجعية هذا الإطار ومخرجاته.
سمير مسالمة
صحيفة الحياة اللندنية