الأسد في روسيا مرة أخرى. وبلاده أمام منعطف حاسم جديد. لم تختلف ترتيبات الزيارة كثيراً عن سابقتها قبل عامين. إذ نقل الرئيس السوري في شكل مفاجئ ليلاً ومن دون مرافقين، إلى سوتشي على متن طائرة عسكرية روسية. وأدخل وحيداً إلى قاعة لم يرفع فيها علم دولة الضيف. على رغم ذلك، وبعيداً من الشكليات البروتوكولية التي لم تعد موسكو توليها أهتماماً وهي تتعامل مع الرئيس السوري، فإن توقيت الزيارة ومجرياتها عكست توجهاً روسياً لوضع اللمسات الأخيرة على الجهود المبذولة حالياً لطي صفحة العملية العسكرية في سورية وإطلاق المسار السياسي.
في زيارته السابقة قبل عامين وضع الأسد أمام خيار صعب. التدخل الروسي لإنقاذ «السلطة الشرعية» ثمنه ترتيبات واسعة لوجود عسكري روسي دائم في سورية.
إضافة إلى أن موسكو أرادت فرض رؤيتها الخاصة لمسار الصراع الميداني. حتى لو تعارض أحياناً، كما ظهر لاحقاً في أكثر من موقع، مع خطط النظام والحليف الإيراني.
وعلى رغم أن العملية العسكرية الروسية أنجزت «غالبية أهدافها» في سورية وفق الكرملين، فإن الأسد بدا في زيارته الثانية أمام خيارات صعبة أيضاً. وعبارات الشكر التي ردّدها خلال لقائه «الجنرالات الذين أنقذوا سورية» لا تغطّي حقيقة انحسار نفوذه ودرجة تأثيره في تطورات الأحداث إلى أضيق مساحة منذ اندلاع الأزمة في سورية، إلى درجة أن تعليقات الخبراء ووسائل الإعلام الروسية قلما تذكر اسم الرئيس السوري عند الإشارة إلى «المنتصرين».
وتوقيت ترتيب الزيارة عشية القمة الحاسمة لرؤساء البلدان الضامنة وقف النار في سورية، عكس استعجال موسكو رسم ملامح المرحلة المقبلة التي سيكون عنوانها الأساسي الإعلان عن انتهاء الجزء النشط من العمليات العسكرية في سورية والانتقال إلى مسار سياسي.
المطلوب من الأسد إعلان موقف واضح يؤيد الترتيبات الروسية لعقد مؤتمر الحوار السوري، ويؤكد الاستعداد للتعامل في شكل إيجابي مع نتائجه. وهذا يوفر لموسكو مساحة أوسع للتأثير في إيران باعتبارها الطرف القادر على وضع عراقيل أمام التوجه الروسي.
في المقابل، لا تمانع موسكو في تقديم ضمانات بتقليص تأثير «اللاعبين الخارجيين» في مسار المفاوضات السورية- السورية. كما أنها ستواصل الضغط لتأجيل طرح ملف مصير الأسد خلال المرحلة الانتقالية.
والاستعجال الروسي لدفع الترتيبات المقبلة على رغم التعقيدات الكبرى التي تواجهها له أسباب داخلية ضاغطة. إذ يحتاج الكرملين بشدة وهو يستعد لإطلاق حملة الانتخابات الرئاسية المقبلة إلى الإعلان قبل حلول نهاية العام عن نصر حاسم على الاٍرهاب، وتقديم إنجازات كبرى تبرّر للناخب الروسي قرار التدخل في سورية.
لكن العقبات التي تسعى موسكو إلى تجاوزها وهي تضع ترتيبات المرحلة المقبلة، لا تقتصر على ضمان انخراط النظام في المسار المرسوم، إذ تبدو المهمة الأصعب الحفاظ على توازن العلاقات مع الشريكين التركي والإيراني. كما أن غياب التنسيق مع واشنطن يزيد من تعقيدات المسار الروسي للتسوية. ناهيك بغموض الفكرة التي تسعى موسكو إلى تثبيتها حول «تكامل» مسارَي جنيف وسوتشي. بهذا المعنى، فإن الطرف السوري بمكوّنَيه الموالي والمعارض بات الحلقة الأسهل في المعادلة الروسية مهما بدت هذه العبارة غريبة. إذ لم تخفِ روسيا وهي تستقبل الأسد بهذه الطريقة وهذا التوقيت، ارتياحها لما وصفته: ابتعاد «العناصر المتشدّدة» في المعارضة السورية عن تشكيلة الوفد المفاوض. المعضلة التي تواجه موسكو باتت تقتصر وفقاً لقناعة نخب روسية على آليات إدارة توازنات المرحلة المقبلة مع الأطراف الإقليمية والدولية.
رائد جبر
صحيفة الحياة اللندنية