تمضي إيران في تعنتها حيال الضغوط الدولية والإقليمية، حيث لم تعد تكترث بالتهديدات الأميركية بالانسحاب من الاتفاق النووي المبرم مع الدول الكبرى عام 2015، بل تواصل في استفزازاتها بالتهديد بإطلاق صواريخ باليستية نحو أوروبا في خطوة تصعيدية جديدة.
وبدأت طهران في توجيه تهديدات مباشرة بإمكانية توسيع المدى الذي تصل إليه صواريخها الباليستية لتشمل أوروبا، ما أدى إلى تصاعد الخلافات بين الطرفين حول هذا الملف، وفي المقابل نتج عنه تقارب في وجهات نظر بعض الدول الأوروبية من السياسة التي تتبناها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه إيران.
ويكشف هذا التقارب عن انتباه أوروبي من حجم التداعيات السلبية التي باتت تفرضها تدخلات إيران في الأزمات الإقليمية بالشرق الأوسط، وكان آخرها الأزمتان اللبنانية واليمنية، بعد استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري رفضا للدور التخريبي الذي تلعبه في بيروت عن طريق ذراعها بالوكالة حزب الله، كما واصلت تهديدات لأمن دول الخليج عقب إطلاق الحوثيين صاروخا باليستيا على العاصمة السعودية الرياض.
وقال نائب قائد الحرس الثوري حسين سلامي، الأحد، “حتى الآن نشعر أن أوروبا لا تمثل تهديدا لذلك لم نزد مدى صواريخنا، ولكن إذا أرادت أن تتحول إلى تهديد فسنفعل ذلك”.
وتحاول إيران استنساخ صراعها مع الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، حول ملفها النووي، من خلال توظيف المؤاخذات الأوروبية حول برنامجها الصاروخي لإيجاد اعتراف دولي مماثل للاتفاق النووي، مستفيدة من تجربتها مع الإدارة الأميركية حيث رفض الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، عامي 2003 و2004 الدخول في مفاوضات ثنائية معها حول برنامجها النووي، الذي كان في بدايته آنذاك، وبدأت في تطويره حتى تراكمت قدراتها وإمكانياتها النووية على أكثر من مستوى.
وساهم ذلك في تعزيز موقعها في المفاوضات التي أجريت بعد ذلك مع إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما والتي مهدت المجال أمام الوصول للصفقة النووية في منتصف يوليو 2015، وحصلت بموجبها إيران على امتيازات استراتيجية لم تكن تستطيع الوصول إليها في بداية الأزمة.
والآن تهدد طهران بتطوير مدى صواريخها مثلما هددت في السابق برفع مستوى عمليات تخصيب اليورانيوم، ما أدى إلى رضوخ القوى الدولية والقبول باستمرارها تخصيبه.
ورغم أن معظم الدول الأوروبية مازالت ترى أن إيران ملتزمة بالجوانب الفنية للاتفاق النووي، على غرار مستوى تخصيب اليورانيوم وأجهزة الطرد المركزي المستخدمة في عمليات التخصيب، إلا أنها تيقنت أن إصرار إيران على إجراء المزيد من التجارب الخاصة بالصواريخ الباليستية من شأنه تقويض الاتفاق النووي، كما يكشف ذلك سعيها الفعلي إلى الالتفاف على الاتفاق والتحايل على الالتزامات التي يتضمنها.
وأبدت الدول الأوروبية استياءها من السياسات الإيرانية وحاولت إقناع طهران بأنها لا تستطيع مواصلة الدفاع عن الاتفاق النووي ومواجهة ضغوط إدارة ترامب، في الوقت الذي توفر فيه تجارب إيران الصاروخية إجراءات تصعيدية يمكن أن تؤثر على استمرار العمل به.
وتعمدت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا توجيه رسالة إلى مجلس الأمن في أغسطس الماضي، دعت فيها إلى التحرك حيال طهران بعد قيامها بإطلاق صاروخ “سيمرغ” الذي يحمل أقمارا اصطناعية، لما شكله من خطوة استفزازية، خاصة في حالة تعديله ليصبح صاروخا باليستيا.
وسعت إلى ممارسة ضغوط على إيران وتهديدها بإمكانية تدويل ملف الصواريخ الباليستية، في حالة استمرار خطواتها الاستفزازية التي تؤثر على مستقبل الاتفاق النووي.
ووجهت الدول الأوروبية رسالة إلى إيران بأن إمعانها في إجراء المزيد من التجارب الصاروخية لن يترك لها خيارا سوى دعم إستراتيجية الرئيس الأميركي حيالها والتوافق على فرض المزيد من العقوبات ضدها، وربما نقل ملفها من جديد إلى مجلس الأمن، بكل ما يفرضه ذلك من تداعيات سلبية قد تؤدي إلى وقف العمل بالاتفاق النووي وعودة الأزمة النووية إلى مربعها الأول.
وسيعرض استفزازات إيران المتكررة وانتهاكاتها المستمرة للاتفاق إلى ضغوط اقتصادية وربما عسكرية. وحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التدخل في هذا الملف تحديدا، لدرجة إبداء استعداده زيارة لإيران من أجل إقناعها بالتوقف عن إجراء تلك التجارب أو الدخول في مفاوضات جديدة حول برنامج الصواريخ الباليستية.
وردت إيران على الرسالة الفرنسية بإشارات سلبية، تفيد أن المساعي الفرنسية لتطويق البرنامج الصاروخي ستؤثر على مصالح باريس الاقتصادية، وفق ما جاء على لسان مستشار المرشد للعلاقات الدولية علي أكبر ولايتي. واعترفت أوروبا بحجم الدور التخريبي الذي تنتهجه طهران في المنطقة العربية والعالم، وأدان الاتحاد الأوروبي إطلاق الحوثيين صاروخا باليستيا على الرياض، بمساعدة حزب الله.
كما شددت فرنسا على أهمية امتناع إيران عن التدخل في الشؤون اللبنانية، كما لعبت دورا بارزا في حل أزمة استقالة الحريري عبر وساطة دبلوماسية محايدة وناجعة أدت إلى تريثه في قراره، ورفضت باريس سعي حزب الله إلى مصادرة القرار السياسي اللبناني لدعم مصالح طهران.
كل هذه التطورات والوعي الأوروبي بالخطر الإيراني لن يحققا أهداف طهران في النهاية، بل سيقودها تعنتها إلى المزيد من الضغوط الإقليمية والدولية، فضلا عن أنها أثبتت توظيفها للصفقة النووية مع الدول الكبرى، لمواصلة أنشطتها التخريبية، ما قاد هذه الممارسات إلى تقارب وجهات النظر بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة ودعم إستراتيجية ترامب حيالها.
محمد عباس ناجي
صحيفة العرب اللندنية