يألف القراء المنتظمون لهذا العمود بشكل كبير الأطروحة التي عُرضت هنا لأكثر من عامين ونيف: يجب تحييد “داعش” بسرعة في شرقي سورية؛ ويجب تجميع ائتلاف لقوة برية تضم من يرغب تحت القيادة الأميركية لإجهاض عمليات “داعش” الإرهابية في تركيا وأوروبا الغربية، وللتقليل للحد الأدنى من الخسائر المدنية السورية في شريط المعركة الحضرية المعقد؛ ويجب وضع وتنفيذ خطة استقرار لما بعد انتهاء القتال، والتي تهدف إلى إبقاء “داعش” ميتا، وتعتمد على المجالس المحلية قبل “داعش” وعلى المعارضة السورية للأسد.
وكانت الفكرة هي الاستفادة من هزيمة “داعش” بتحويلها منطقة مستقرة ومحمية في شرق سورية، حيث يمكن الإسراع في إيصال المساعدات الإنسانية والبدء في إعادة الإعمار، ومن أجل إبعاد مسبب الإرهاب وفشل الدولة في سورية -نظام الأسد- عن المنطقة.
لكن هذه التوصيات ظلت مستبعدة تماما بالنسبة لإدارة أوباما غير المبالية بالمجازر ضد المدنيين، والشغوفة باستيعاب إيران.
في الجزء الأكبر من ثلاثة أعوام، ظلت “قوة شريكة” تهيمن عليها قوات حماية الشعب الكردية -التابعة للمجموعة الإرهابية حزب العمال الكردستاني- هي المكون القتالي البري للائتلاف المعادي لـ”داعش” الذي تقوده أميركا.
وكانت هذه حملة متمهلة: واحدة منحت “داعش” الوقت لتخطيط وتنفيذ مجازر متعددة في أماكن أوروبية مختلفة. ولأنها ورثت من سابقتها السياسة المعادلة للفوضى، فإن إدارة ترامب -الملتزمة بوقف تحرك إيران نحو تحقيق الهيمنة الإقليمية- قامت بتسريع إيقاع المعركة ضد “داعش”، لكن عليها الآن التفكير بما ستفعله بالنسبة لشرق سورية، حيث تلوح في الأفق بوادر هزيمة “داعش” النهائية في وقت قريب.
إذا كنا لنصدق تقرير هيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي) الأخير عن إخراج إرهابيي “داعش” بواسطة الحافلات من الرقة المدمرة، فإن التقديرات المبكرة لأهمية هزيمة “داعش” لن تكون واعدة.
ومع ذلك، تحاول الإدارة التمسك بنهر الفرات كـ”خط لعدم الاشتباك”، والذي لا يجب أن يتجاوزه المقاتلون الأجانب الشيعة بقيادة إيران، وما تبقى من فلول جيش نظام الأسد.
ولكن، ماذا عن الاستقرار والحوكمة في منطقة شرق الفرات في سورية، وأجزاء من حلب ومحافظتي الرقة ودير الزور ومحافظة الحسكة؟
باعتباره كان أحد شخصيات إدارة أوباما التي رفضت بشدة المساعدة في تشكيل سلطة حاكمة بعد “داعش”، يقول المبعوث الرئاسي الخاص للتحالف العالمي ضد “داعش” (السيد بريت مكغورك) شاكيا: “لا توجد لدينا حكومة يمكن أن نعمل معها…”.
في الأثناء، ركزت العمليات العسكرية ضد “داعش” في سورية بشكل رئيسي على محافظتي الرقة ودير الزور. وسكان هاتين المحافظتين عرب بأغلبية ساحقة. وحتى على الرغم من دمج قوات حماية الشعب الكردية في داخل قوات سورية الديمقراطية الأوسع -مكون القوة البرية التي تحارب “داعش” والمعززة بآلاف من المساعدين غير الأكراد- ما من شك في أن قوات حماية الشعب الكردية هي المسؤولة.
إذا ما كانت “الخطة” الأميركية تقضي بالسماح لقوات سورية الديمقراطية بتأسيس مجالس بلدية ومديريات نواح في المناطق غير الكردية، فإن المسرح سوف يكون معدا لصعود استياء شعبي، والذي من المؤكد أن نظام الأسد وداعميه ومتطرفين آخرين سوف يستغلونه. ولن يقدر أحد احتلال قوات سورية الديمقراطية بما ليس فيه: توسع حكم قوات حماية الشعب الكردية إلى ما هو أبعد من المناطق ذات الأغلبية الكردية من سورية.
يشكل دور قوات حماية الشعب الكردية في الحملة الحازمة ضد “داعش” واحدا من الأسباب الرئيسية في تدهور العلاقات الثنائية بين حليفي الناتو، الولايات المتحدة وتركيا. ولم يكن تخريب العلاقة بين الحليفين مبررا؛ فقد استغرق قرار واشنطن شن حرب بطيئة وبأقل كلفة ضد عصابة مجرمة وقاتلة تتمتع بوصول عابر للقوميات ثلاثة أعوام حتى أمكن قمع مجموعة من الأشرار متعددي الألوان والأعراق والجنسيات واللصوص والمغتصبين.
مع ذلك، احترم المستشارون العسكريون الأميركيون على الأرض شجاعة وقدرات القوات الكردية الشريكة.
لن تكون عملية تربيع دائرة العداوة التركية الكردية بهدف إضفاء الاستقرار على شرقي سورية وجعله بعيدا عن متناول أيدي نظام الأسد بانتظار تسوية سياسية سورية عملية سهلة في ضوء غياب تخطيط لاستقرار أكيد لما بعد القتال طيلة الأعوام الثلاثة الماضية. وفي الحقيقة، قد لا تكون هذه المهمة قابلة للإنجاز. ولكن، هل هي جديرة بالمحاولة؟
قد يجد أولئك الذين يقفون على الجوانب المتعارضة للقسمة التركية- الكردية؛ أولئك الذين يقولون: “لا تتخلوا عن الأكراد” وأولئك الذين يعطون الأولوية لـ”ترميم العلاقات مع حليف في الناتو”، قد يجدون حاجة إلى دفعة دبلوماسية قوية من جانب الولايات المتحدة لتكون النقطة الوحيدة التي يتفقون عليها.
في منطقة “درع الفرات” التي تسيطر عليها تركيا والتي تقع شمال محافظة حلب، ما تزال الحكومة السورية المؤقتة -التابعة للائتلاف الوطني السوري المعادي للأسد- تقدم الحوكمة للمواطنين السوريين (بدعم تركي قوي). وتظل مسألة مراجعة وتنقيح فعالية الحكومة السورية المؤقتة مختلطة؛ حيث أن لها العديد من المنتقدين في دوائر المعارضة، لكنها تعمل في داخل سورية على الأقل.
على واشنطن فتح مباحثات مع كل من أنقرة وقوات حماية الشعب الكردية/ قوات سورية الديمقراطية، بهدف التوصل إلى ترتيب مقبول من الجانبين للحوكمة المؤقتة في منطقة سورية المحمية. وسوف يكون الهدف بالنسبة للعناصر الكردية في قوات سورية الديمقراطية هو العودة إلى محافظة الحسكة كردية التكوين في جزئها الأكبر.
وسوف يتم توسيع تواجد قوات سورية الديمقراطية -بمساعدة تركية- إلى تلك الأجزاء من محافظتي الرقة ودير الزور التي طرد منها “داعش”. وتستطيع الحكومة السورية المؤقتة العمل عن كثب مع المجالس المحلية -خاصة إذا وصلت ومعها موارد نقدية كبيرة- (كما تعمل مع منطقة درع الفرات). ومن المكن أن يتم تعزيزها بشخصيات من المعارضة السورية ينحدرون في أصولهم من شرق سورية.
سوف تحاول الولايات المتحدة، سوية مع هذا الجهد، التوصل إلى علاقة “عش ودع غيرك يعيش” بين الأكراد السوريين وأنقرة، في انتظار التوصل إلى تسوية سياسية شاملة في سورية؛ تسوية من شأنها خلق حكم محلي ممكّن في سياق وحدة إقليمية سورية ووحدة وطنية.
ثمة متخصصون في السياسة التركية ممن سيحذرون من أن أي محاولة أميركية لإدخال تركيا في عملية الاستقرار في شرقي سورية بحيث لا تتضمن انخراط القطع التام للروابط بين واشنطن والأكراد السوريين سوف تلاقي الرفض من جانب أنقرة، خاصة وأن استراتيجية الرئيس أردوغان الرئيسية للانتخابات الرئاسية في العام 2019 كانت إضافة مستوى عالٍ من العداء تجاه حزب العمال الكردستاني (المحظور تركيا) والأكراد السوريين التابعين له إلى القومية التركية.
قد يكون هذا التحليل صحيحا تماما. والسؤال هو ما إذا كانت واشنطن تتوافر على الإرادة والحصافة اللازمتين لممارسة ضغط دبلوماسي كثيف يستهدف تربيع هذه الدائرة الصعبة جداً.
يبقى أن نرى ما إذا كانت أدارة ترامب تتوافر على قدر من الاهتمام أكبر من سابقتها بجعل هزيمة “داعش” تصب لصالح شيء في المعركة الأوسع ضد الهيمنة الإقليمية الإيرانية والتطرف الإسلامي الذي يستلهم إجرام العائلة الحاكمة في سورية.
فرديريك سي هوف
صحيفة الغد