أتاح الإعياء الأميركي جراء الحروب في الشرق الأوسط وعدم وضوح تجاه القوة والهدف الأميركيين في المنطقة الفرصة لروسيا للعب دور أكثر نشاطا، وهو دورها الأنشط منذ سبعينات القرن الماضي.
وتتأتى الدوافع الكثيرة والنتائج غير المضمونة للتدخل الروسي في الشرق الأوسط من عاملين، هما إدراك النقائص الأميركية والضغوط الفريدة التي يواجهها حلفاء الولايات المتحدة غير المتأكدين من مدى المساندة التي قد يتلقونها من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، صعب التكهن بتصرفاته إلى درجة تفوق ما كانوا يعرفون عنه من قبل.
وسمحت هذه الفرصة لروسيا باستعمال الدبلوماسية الماكرة وقلة القيود الداخلية وتسامحا أكبر مع المخاطر تمكن من استعمال ما يكفي من القوة القسرية في الحرب في سوريا حتى تصبح جزءا من الحل السياسي للصراع، لكن لا يزال من المبكر التكهن بالأثر النهائي لهذه السياسة، وفق يوفال ويبر الباحث بمعهد أبحاث السياسات الخارجية الأميركي، الذي يشرح في دراسة توجهات السياسة الخارجية الروسية وإلى أي مدى يمكن أن تنجح في تحقيق ما يسعى إليه الروس منذ سنوات طويلة.
البحث عن مكانة قوة عظمى
عندما فاز أوباما أصبح من الممكن تلخيص سياسته الخارجية على أنها تتمثل في الحد من المزيد من التوسع للمصالح والتعهدات الأميركية، والسعي لعقد اتفاق عدم انتشار نووي مع إيران لمنع تلك الدولة من الحصول على سلاح نووي وتحفيز سباق تسلح نووي إقليمي.
وعلى أساس أن أي اتفاق نووي لا يحتاج الدعم الدولي فحسب بل وكذلك المساندة من روسيا بوصفها القوة النووية العالمية الأخرى، اعتمد أوباما سياسة “إعادة الضبط” بهدف تشريك روسيا في هذه المفاوضات.
التدخل في إحدى المناطق الأكثر تعقيدا يمكن أن يساعد روسيا على تحقيق تطلعها إلى الاعتراف بها كقوة عظمى
وأعادت مشاركة روسيا في مجموعة ‘الخمسة زائد واحد’ هذا البلد إلى الشرق الأوسط، وهي منطقة أثارت اهتمامها منذ القرن التاسع عشر عندما توسعت الإمبراطورية الروسية جنوبا في اتجاه الإمبراطوريتين الفارسية والعثمانية.
ومع ذلك، لمرات عديدة ولفترات طويلة أثناء الإمبراطورية والحقبة السوفييتية وفي الشكل الحالي من الفيدرالية الروسية، كانت روسيا لاعبا هامشيا أو متناقضا في المنطقة. فهل يمكن أن تكون هذه المرة مختلفة؟
وما من شك في أن روسيا مارست ما يكفي من القوة القسرية لتشكيل نتيجة الحرب في سوريا والقتال العابر للدول ضد داعش. هذا الواقع الذي لم يكن متصورا حتى قبل سنتين أو ثلاث سنوات يسمح لصانعي السياسات الروس بتحقيق هدفهم الأساس المتمثل في الاعتراف العالمي بمكانتهم كقوة عظمى.
ومن وجهة نظر صانعي السياسات الروس سيأتي الاعتراف الخارجي لمكانة بلدهم كقوة عظمى عندما يتعذر تحقيق حل لأزمة دولية كبرى تتعلق بعدة قوى عظمى وإقليمية دون مشاركة روسية، عندها ستأتي تلك المكانة مع مجموعة مغرية ومهمة جدا من المنافع: القدرة على وضع القواعد للتفاعلات السياسية والاقتصادية الدولية، أو القدرة على اقتطاع استثناءات لأنفسهم.
ويتمثل التحدي أمام روسيا في تجسير الهوة بين التكتيكات والإستراتيجية. إن التدخل (وبالتوسع المشاركة) في إحدى المناطق الأكثر تعقيدا من الناحية السياسية يمكن أن يساعد روسيا على تحقيق عدد من الأهداف ذات أهمية مركزية بالنسبة إلى هدفها الأكبر المتمثل في الاعتراف بها كقوة عظمى من قبل المنافسين الأنداد.
من بين هذه الأهداف حماية حكومة الأسد لتجنب سقوط دولة أخرى تحت الضغط الغربي، وحماية دول حليفة من أجل رسم مقارنة صارخة مع الولايات المتحدة التي تركت عدة حلفاء قدماء ينهارون، واستعراض القوة في منطقة ليست منطقتها، وعرض سلاحها “في نافذة العرض”، وكسب خبرة على أرض المعركة لجنودها وضباطها، وتحولها إلى جزء من حل سياسي في الشرق الأوسط يمكن احتمالا أن يؤدي إلى ربط هذه المسألة بقضية أخرى في مكان آخر مثل أوكرانيا.
وتمثل هذه الإنجازات وهذه الأهداف أحسن سيناريو. وحاليا هذا الظرف هو الأنسب للتدخل الروسي، ففي عهد الرئيس باراك أوباما كانت الولايات المتحدة ملتزمة شديد الالتزام بعدم توسيع حضورها في الشرق الأوسط والتدخل في صراع إقليمي آخر.
وفي عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب، تبدو السياسة الأميركية غامضة في أفضل الحالات. وفي غياب الجهود الأميركية المتضافرة لوقف التدخل الروسي أو صياغته أو الحد منه، يمكن لروسيا إنقاذ حكومة الأسد من تكبد هزيمة عسكرية على يد داعش والمتمردين المحليين في عدة أجزاء من أراضيها، لكن محاربة جيوش متمردة غير مجهزة جيدا مهمة تختلف كثيرا عن محاربة جيوش عصرية قادرة على الرد.
الأهم من كل ذلك هو الوعود الزائفة التي يقدمها التدخل التكتيكي والأهداف الإستراتيجية العامة معا. فالأمر المسكوت عنه هو ما هو شكل النجاح المتوسط والطويل المدى بالنسبة إلى روسيا في حال لم تتحقق كل أفضل السيناريوهات؟ مثلا إذا صعّدت السعودية من حضورها وتدخلت بشكل صريح في الحرب السورية دون دعم أميركي ضمني لإعاقة داعش بل في الواقع لمجابهة إيران، هل تكون روسيا مستعدة لمجاراة ذلك التصعيد؟
إذا أدت سكرات الموت عند داعش في جنوب غرب سوريا إلى شن هجمات على القوات الإسرائيلية في مرتفعات الجولان، هل ستحمي روسيا حلفاءها المباشرين وغير المباشرين، سوريا وقوات حزب الله من جهة وإسرائيل من جهة أخرى؟
وإذا استدعى تغيير في السياسة الأميركية الاضطلاع بدور أكثر نشاطا في المنطقة لتحدي روسيا بشكل مباشر وحماية الحكومات الحليفة في العراق والأردن والسعودية والدول الخليجية وغيرها، فما هي مسالك الخروج عند روسيا؟ إلى حد الآن حددت روسيا أهدافها ومنافعها النهائية المتأتية من التكتيكات المنخفضة التكلفة نسبيا، لكن كيف ستحمي البلاد موقعها في حالة حصول تغيير في الظروف الخارجية؟
امتحان للإرادة الروسية
الجواب المنطقي بخصوص تمديد دفع خاص بالسياسة الخارجية من التكتيكات إلى الإستراتيجية، يتمثل في الأخذ في الاعتبار قوة وديمومة الائتلاف الذي يتم بناؤه من أجل الصمود أمام التغيرات القصيرة المدى.
فهل يملك صانعو القرار الروس التزاما طويل المدى لفائدة الائتلاف مع إيران وسوريا وحزب الله، أم سيحاولون التصرف حسب المصلحة والحفاظ على ائتلافات مصلحية محتملة مع دول أخرى، وبالتحديد مصر والسعودية وقطر وتركيا، وهي دول تعتبر نفسها الأضواء الموجهة في المنطقة؟
هل سيبقى صانعو السياسة الروس على تعهداتهم المتواضعة نسبيا المتعلقة بالمال والجند (تتراوح تقديراتها بين 1 و2 مليار دولار في السنة وبين 3000 إلى 6000 جندي في أي وقت)، أم هل سيقاومون الإغراء بزيادة هذه التعهدات إذا ومتى انفجر عنف أكبر حجما؟
يعطي الرأي العام الروسي بعض الإشارات عن السؤال الأخير، فبالرغم من أن الحرب تم خوضها بعدد قليل جدا من الضحايا المعلن عنهم وقُدمت في الأخبار الليلية على أنها مصدر للقوة والاحترام على المستوى الدولي، وجدت وكالة سبر الآراء لمركز لفادا أن 49 بالمئة من المستجوبين في سبتمبر 2017 يرغبون في إنهاء العملية، و30 بالمئة يساندون مواصلة القتال و21 بالمئة يجدون من الصعب التعبير عن رأي قوي.
ووجد الاستطلاع نفسه أن 56 بالمئة من المستجوبين لا يتابعون التطورات في سوريا عن كثب، و26 بالمئة لا يتابعون الأحداث هناك بالمرة، و18 بالمئة فقط يتابعون الأخبار والتحاليل حول سوريا عن كثب.
وفي الوقت الحاضر، تبدو الظروف بالنسبة للتوسع الروسي في الشرق الأوسط جيدة لكن وإذا تغيرت الظروف ستجد روسيا نفسها في موقع وجدت الكثير من القوى الخارجية نفسها فيه، ألا وهو تخصيص المزيد من الموارد للحفاظ على الموقع أو الهيبة، أو المكافحة من أجل الخروج بكرامة.
ترجمة: منصف الخروبي
صحيفة العرب اللندنية