افضت الطائفية السياسية التي اتخذت اطارا مؤسسيا في العراق بعد عام 2003 إلى تقويض التماسك الاجتماعي عن طريق استثارة المعتقدات المذهبية الموروثة ضد “الآخر”، بحيث حولت التنوع إلى صراع يستند إلى مشروع ايديولوجي مذهبي وسياسي متعصب لتتشكل بموجبه وحدة بنيوية تنظيمية ثقافية واجتماعية وعسكرية، دفعت باتجاه سلوك التعصب حيال المجموعات الأخرى بإظهار التباين معهم.
وكان من نتائجها الفُرقة والتناحر والتباغُض بل إن الأمر لا يتوقف عند هذا، إذ انتهى بصورة نزاعات دموية تهدد كيان الدولة من داخلها، بعد ان عجزت الاخيرة في معاملة الفرد وفقاً لصيغ قانونية محكمة مجردة وعلى أساس مبدأ المواطنة.
على هذا الأساس، ووفقاً لواقع ما يحدث في العراق، فان أساليب التحريض الطائفي التي تعتمدها بعض الجماعات السياسية والميليشياوية تؤشر إلى استمرار الفشل في بناء دولة حديثة وانسداد أفق قيام حياة سياسية سليمة، وتحول الساسة إلى رجال طوائف، يجرون البلاد إلى حال من التفكك لا محالة؛ جراء غياب القدرة على دمج التنوع الديني والإثني ضمن هوية وطنية واحدة بصورة توافقية تجعل الانتماء للوطن في مقدمة الانتماءات والهويات الفرعية الأخرى، وليس العكس إذ لا يصح وضع هذه الانتماءات الفرعية في وضع متعارض مع ذلك الانتماء الأشمل والأعمق.
لقد بات البعد الطائفي اداة ذرائعية يستدعيها هذا الطرف أو ذاك بشكل حاد وعنيف لخدمة أغراضه السياسية، ما ادى إلى تهجير وقتل الالاف ونهب الممتلكات بعد ان تم توظيفه في خدمة مصالح اقليمية، حرضت باتجاه استهداف المخالف في المذهب، والعمل على بث الفرقة والتشتت بين أبناء الدين الواحد والوطن الواحد في سبيل تحقيق مصالح لهذا المحور الدولي أو الإقليمي أو ذاك. وكان من بين نتائج هذا المناخ الطائفي تشكل الميليشيات كآلية سياسية وحركية بشكل رسمي، تلقت الدعم والتدريب والتمويل من إيران، لتمارس افعالا عدوانية عمقت التنافر المجتمعي.
البلطجة الطائفية
ولعل أكثر ما يصدم في السلوك الطائفي الذي يظهر بوضوح اليوم في مرحلة ما بعد معارك طرد “داعش”، انه يغطي جزئية صغيرة من الأعمال الوحشية المرتكبة في العراق، ويرافقه الرفض الخجول الذي ابداه بعض الساسة لما يحدث، واكتفاؤهم بالاشارة الى فردية هذه البشاعات بينما تلقى معاناة المعتقلين في السجون وما يلاقونه من انتهاكات وتعذيب بشع تعتيما وانكارا رسميا، حمل على رفض تقارير نشرتها جهات حقوقية مستقلة دولية عن فداحة ما يدور هناك، وعلاوةً على ذلك، بدت العمليات العسكرية حلقة من حرب انتقامية، ضد من تعدهم حواضن “داعش” من العرب السنّة، وتبدى هذا الامر في فيديوهات تم تسريبها تغص بعبارات الشتم والسباب واللعن، لتكون مصدراً لا يستهان به للتطرف الطائفي.
وليس الميليشياوي “ابو عزرائيل” ــ الذي يعد اليوم مقاتلا اسطوريا يحمل فأسا للانتقام، ويحظى بالاعجاب لافعاله بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي العراقية، حيث يتم تناقل صوره وهو يلوح بالسيف، او يمثل بجثث مقاتلي “داعش”، ــ الا تعبيرا عن مزاج يزداد اتساعا، معليا من شأن القتلة ومادحا اعمالهم، بينما يطالب في الوقت ذاته بالقضاء على القتلة من الجهة الاخرى وابادتهم. وما بينهما بشر يسحقون بيد “ابو عزرائيل” الذي اقسم بطحنهم، فيما من معه من رجال الميليشيات تقتل تحت مظلة “الجهاد الكفائي” او أن يُقتَلوا على يد “داعش” ورجال خلافته المزعومة، واستعير هنا قول آية الله السيد الصرخي في وصف ما يجري قائلا “…أبُيدت عوائل، أُبيد أشخاص، قُتلت مجاميع، قُطعت الرؤوس، نُكّل بالإنسان هنا وهناك، التكفيري ينكّل ويقتل، والمليشياوي ينكّل يقتل، بشاعة في بشاعة، قباحة في قباحة.”
ويبدو اننا امام اتساع ظاهرة “البلطجية الطائفية” التي تضم أفرادا يفتخرون بقوتهم الجسمانية ولا يتحرجون من استخدام الكلمات البذيئة، ولتحقيق أهدافهم، لابد لهم من التمرد ضد القانون، وهم مستعدون للتضحية بأنفسهم من أجل مقدسات مزعومة، ويعلنون دفاعهم عن الوطن ومواطنيه ولكن في الخفاء لا يبالون بارتكاب افظع الجرائم بما فيها جرائم الاعتداء الجنسي.
إن بروز هذه الظاهرة وتغلغلها في المجتمع السياسي وفي المؤسسات الحكومية الرسمية، أدى إلى غض الطرف عنها. ونشير هنا الى صور “ابو عزرائيل” وهو على متن مروحية تابعة للجيش العراقي ويحمل سلاحا رشاشا يرافقه عدد من قادة الميليشيات، وفي ظل الوضع الراهن لا نعتقد أن بوسع القضاء ان يضع حد لمثل هذه الأعمال الإجرامية التي باتت تقلق الجميع. وما يمكن ان يستنتج هنا ان المجتمع قد وصل إلى حالة حرب الجميع ضد الجميع، ما يعد محصلة لانهيار الدولة وضياع الامن، وهي إفراز طبيعي لسيادة أجواء عدم احترام القانون، وانتهاك سيادة الدولة ومؤسساتها، فضلا عن انتهاك العقد الاجتماعي المنعقد بين الدولة والشعب، والذي بموجبه تنازل الشعب عن حقه في اللجوء للعنف والتعدي على القانون، مقابل قيام الدولة ومؤسساتها بحمايته وتوفير الخدمات العامة له، وردع الجماعات الخارجة على القانون.
ولا يختلف عن هذا الوصف تنظيم “داعش” الارهابي المتطرف، الذي تندرج افعاله في نشر الفوضى العارمة وزعزعة الاستقرار في المنطقة، ما امكن إيران من توسيع تمددها في البلاد بحجة مقاتلته والتصدي لجرائمه وتقديم الصورة المشوهة عن الإسلام السنّي على وجه الخصوص، وتصويره بأنه مصدر الإرهاب والخطر على المصالح الغربية. فمخرجات ممارساته انتهت في مصلحة النظام الايراني، لجهة زيادة اشتعال نار الفتنة الطائفية، وتوحيد القوى الشيعية المتصارعة، وفتح الأبواب أمام طهران بمباركة اميركية، للتدخل العسكري في العراق تحت ذريعة حماية المقدسات الشيعية، والتصدي للإرهاب. وبعبارة اخرى فان تمزق التماسك الاجتماعي، يحمل جماعات طائفية تم استبعادها في لحظات معينة، لتتحرك خارج السيطرة مدعومة باطراف خارجية، وانتزاع ما تعتقده حقا لها ولم تتمكن من الحصول عليه، عندما تتسنى لها الفرصة بذلك.
ايران النووية.. مظلة لحماية الميليشيات
يجادل باحثون في ان أحد أهداف البرنامج النووي الإيراني قد يكون توفير مظلة لحماية هذه الجماعات الميليشياوية، ودعم ادوارها في إطار تعزيز السياسة الإقليمية لإيران في المنطقة، وليس هذا التحليل بالامر المجانب للصواب. إذ اريد به ان يستخدم درعا ضد الانتقام من أعمال قتالية لجماعات خارجة على الدولة، وعابرة للدول في سياستها الإقليمية التي تعاضد التمدد الإيراني في المنطقة، وهو ما يوفر نفوذا لطهران في دول تضم اقليات شيعية، وهذا واضح الآن في لبنان والعراق، ونظام الاسد بانتمائه العلوي.
وما وجود ميليشيات أو أحزاب على أساس شيعي أو أقلوي داخل الدول العربية الا لاحداث الانقسام في نظمها السياسية، ثم اضعافها، بما يمكنها من التسلل الى الدولة والهيمنة عليها لملء الفارغ الناجم عن تخلخل السلطة، و”حزب لله” اللبناني نموذجا. وما يزيد من التمادي الإيراني ذلك التغاضي الامريكي عن سلوك طهران السياسي في المنطقة، إذ وقفت ادارة اوباما موقف المتفرج على دمار سوريا، تحارب “داعش” وتصمت حيال الميليشيات الشيعية في سوريا والعراق. وتكون بذلك قد افسحت لهم مجالا للقيام بانشطة مستقبلية معادية لنظم عربية هي حليفة للولايات المتحدة الامريكية.
المعارك وثقافة النهب
اكد رئيس أركان الجيوش الأميركية الجنرال مارتن ديمسي ان هناك 20 ألف عنصر من الميليشيات الشيعية الممولة والمجهزة من إيران اشتركوا في معركة تكريت. وان الكثير منهم حرق مئات المنازل والمتاجر خلال اليومين الماضيين في المدينة، بعد نهب كل ما فيها. وكان رئيس الوزراء حيدر العبادي قد أمر بسحب جميع عناصر الحشد الشعبي من تكريت ونشر قوات الشرطة والجيش لحفظ الأمن واعتقال عناصر المليشيات الذين قاموا بعمليات النهب والحرق، وهو ما رفضته مليشيا ما يسمى “كتائب حزب الله” لتواصل تفجيرها المنازل ونهب ممتلكات المواطنين في المدينة خاصة في حي القادسية، ووفقا لتقرير بثته وكالة رويترز تسابق الكثير من افراد ميليشيا الحشد الشعبي بعد طرد “داعش” من مدينة تكريت، على كتابة اسمائهم على جدران البيوت، ويؤكد التقرير مشاركة مقاتلين ايرانيين في المعركة، والتي قال احدهم: انه “فخور للمشاركة في المعركة، ومؤكدا ان إيران والعراق الآن دولة واحدة. وبمعنى آخر فان ما بعد معركة تكريت سيكون النموذج الذي يكشف عما ستؤول اليه الاوضاع في العراق، واحتمال تكرار ما حدث في هذه المدينة في معركة الموصل المرتقبة، التي يخشى أبناؤها، حتى من المتضررين من حكم “داعش”، على مدينتهم وأرواحهم من دموية وازهاق ارواح سترتكب في حال دخلت ميليشيات الحشد الشعبي الموصل.
ميليشيات الحشد الشعبي ..التوسع في الاقليم
من الخطأ الافتراض أن نشاط هذه الجماعات العسكرية الموالية لإيران يقتصر على محاربة تنظيم “داعش” أو العمل في سوريا أو العراق وحدهما. إذ بدأت بالتصرف كعناصر إقليمية تتوخى اهدافاً اوسع. فعلى سبيل المثال٬ وجهت “كتائب حزب الله” و”كتائب الإمام علي” وجماعات مماثلة تهديدات متكررة إلى المملكة العربية السعودية على خلفية حكم الإعدام الصادر بحق رجل الدين الشيعي نمر النمر٬ بعد إدانته بتهم إشعال الفتنة الطائفية وجرائم مرتبطة بها في تشرين الأول /أكتوبر 2014.
وسنورد هنا بعضا من المعلومات المتاحة لنا عن انشطة عسكرية تؤكد ما ذهبنا اليه من اتساع في حركية العمل الاقليمي لميليشيات مرتبطة بإيران:
– تدريب عناصر من الحوثيين والافغان الشيعة على حرب الشوارع وعمليات صنع العبوات الناسفة في معسكر يقع باطراف مدينة النجف، تحت اشراف سرايا الخراساني، ، وسيتم تأهيل هذا المعسكر ليكون معسكرا دائما لتدريب مقاتلين شيعة من البحرين او السعودية، بدلا من ذهابهم إلى إيران.
– عقد تجمع حاشد في محافظة كربلاء بدعوة من قبل منظمة العمل الاسلامي للتنديد “بعاصفة الحزم” ، وقد حضر التجمع عناصر قيادية من الحشد الشعبي منهم حيدر الجابري من التيار الصدري، وحبيب الحلاوي عن “عصائب اهل الحق” وجاسم الجزائري ممثلا عن “كتائب حزب الله”. واكد الحلاوي ان قيادة الحشد الشعبي مستعدة لارسال مجاميع من عناصرها للقتال إلى جانب الحوثيين، كما فعلوا للدفاع عن نظام الاسد في سوريا، وانهم الان ينتظرون طلبا حوثيا بهذا الصدد.
– وتقرر في هذا التجمع فتح باب التبرع المالي والتطوع لدعم الحوثيين، باعتبارهم يقاتلون السعودية ويدافعون عن المذهب الشيعي، وقد خصص مصرف الرشيد-فرع كربلاء حسابا رقمه 550 لاستلام التبرعات المالية، بينما فتح مكتب الحوثي في النجف أبوابه لتسجيل اسماء المتطوعين.
– التواصل مع المعارضة السعودية في الخارج، حيث جرى لقاء في بيروت بين احمد الفرطوسي ممثل التيار الصدري والمعارض السعودي احمد محمد آل ربح، في الضاحية الجنوبية من بيروت، لمناقشة ما وصفوه بـ”العدوان السعودي” على الشيعة في اليمن، ما يتطلب تنسيق الجهود وتحريك الشيعة في المنطقة الشرقية من المملكة، لخلخة الاوضاع الداخلية فيها.
– يعد الدور الذي قام به ابو مهدي المهندس٬ في تشكيل “كتائب حزب الله” و”كتائب الامام علي” وجماعات خاصة مقاتلة شيعية أخرى. تلبية لهدف إيران الاستراتيجي المتمثل بتكوين المزيد من المنظمات التي تتخذ من “المقاومة الإسلامية” أسلوباً لها. إذ أسهم في إنشاء ميليشيات شيعية تتخذ من سوريا مقراً لها مثل “لواء أبو الفضل العباس”٬ فضلا عن جماعات تتخذ من العراق مقراً لها مثل “حركة حزب الله النجباء.” وقد استبق الحكومة العراقية والمرجعيات الدينية في دعواتهم العامة إلى حشد شيعة العراق ضد “التنظيم”.
– يُنظر إلى العدد الكبير من الميليشيات المدعومة من إيران، بوصفه اسلوبا ناجعا لإحداث التداخل والفوضى في المنطقة، مما يتيح لطهران ولوكلائها امكانية نفي ممارساتها وتمويه افعالها الإجرامية. كما يقدم هذا التنوع في الميليشيات مساحة واسعة للمنتمين لها قائمة على وهم حرية الاختيار والاستقلال في العمل، واستجابة لمقاربة المنتمين وقناعاتهم. ولهذا من الخطأ الافتراض أن نشاط هذه الجماعات يقتصر على محاربة تنظيم “داعش” فالتوسع يغري بمزيد من احداث النفوذ والتأثير.
حروب الطوائف، مهما طالت لابد ان تنتهي. ولكن ترك الميليشيات الشيعية تعيث فساداً ونهباً وحرقاً وتشريداً في مناطق تم طرد “داعش” منها، لا ينطوي في احد جوانبه على الانتقام مما ألحقته “الدولة الإسلامية” فحسب. بل هو مسعى إيراني لتوسيع مناطق نفوذه لتشمل معظم العراق. إذ اضحت ميليشياتها دولة داخل دولة. ولا قدرة لحكومة حيدر العبادي على ردعها. رغم زيارة العبادي السرية إلى طهران مؤخرا، والطلب من المرشد الاعلى التدخل لوضع حد لسطوة الميليشيات التي تتحرك بالتنسيق مع رجل ايران نوري المالكي، الا ان امرا من هذا القبيل لم يحصل ويتوقع انه لن يحصل.
وخلاصة القول إن مواصلة طهران نهج اللعب بالطائفية، سيجعلها تكتوي بنيرانها في قادم الايام.
د.هدى النعيمي