مع تصاعد حدة الضغوط التي تفرضها السياسات الأميركية إزاء الاتفاق النووي وتدخلات إيران في المنطقة، بدأت الأخيرة في البحث عن خيارات أخرى لحث القوى الدولية التي تفاوضت معها حول الاتفاق على دعم استمرار العمل به.
انعكس ذلك في مقال وزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، ودعا فيه الدول الأوروبية إلى “العمل مع إيران وعدم الانسياق خلف الجهود الأميركية الساعية إلى إجهاض الاتفاق النووي” مستندا إلى انسحاب واشنطن من بعض الاتفاقات الدولية. لكن هذه الدعوة لا تخفي أن إيران تتبنى سياسة انتهازية في هذا السياق تعمدت من خلالها الربط بين الاتفاق النووي والملفات الخلافية الأخرى العالقة مع تلك القوى، خاصة الدول الأوروبية، على غرار ملف مزدوجي الجنسية حيث اعتقلت السلطات الإيرانية نحو 30 شخصا منهم خلال الفترة التالية للوصول إلى الصفقة النووية.
ولا تتعلق المسألة في هذا السياق بالقوانين الإيرانية التي لا تعترف بازدواج الجنسية، وإنما ترتبط بمحاولة إيران استغلال هذا الملف لممارسة ضغوط على الدول المعنية من أجل دفعها إلى تغيير سياستها في ملفات أخرى.
واكتسب هذا الملف تحديدا اهتماما خاصا من جانب بريطانيا، بسبب قضية نازانين زغاري راتكليف مديرة مشروع في مؤسسة تومسون رويترز، التي اعتقلتها السلطات الإيرانية في 3 أبريل 2016 بتهمة محاولة الإطاحة بالنظام الإيراني والعمل في شبكة إعلام بريطانية تشارك في حملة دعائية ضد إيران وصدر ضدها حكم بالسجن 5 سنوات في 10 سبتمبر من العام نفسه، وأضيفت إليها تهمة أخرى في نوفمبر 2017، خاصة بالتحريض على النظام، بعد إدلاء وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون بتصريحات قال فيها إن “راتكليف كانت تقوم بتدريب صحافيين إيرانيين”.
هذه التصريحات أثارت ردود فعل قوية داخل بريطانيا وصلت إلى حد المطالبة باستقالة جونسون، خاصة بعد أن استغلتها السلطات الإيرانية لاتخاذ إجراءات أكثر تعقيدا في هذه القضية.
هدفان رئيسيان
اللافت في هذا السياق، هو أن إيران حاولت استغلال تصاعد الاهتمام بهذه القضية داخل بريطانيا لتحقيق هدفين:
الأول، حث بريطانيا على إزالة العوائق التي ما زالت تحول دون رفع مستوى التعاملات المصرفية بين الطرفين، بشكل ساهم في منع حكومة الرئيس حسن روحاني من الحصول على عوائد اقتصادية أكبر من الاتفاق النووي.
وهنا، كان لافتا أن معظم المسؤولين الإيرانيين الذين التقاهم جونسون خلال زيارته التي بدأت في 9 ديسمبر الجاري واستغرقت يومين، ركزوا على تراجع الدعم البريطاني للاتفاق واستثمار تداعياته الاقتصادية، بالمقاربة بانخراط بعض الدول الأوروبية الأخرى في صفقات اقتصادية كبيرة مع إيران، وفي مقدمتها فرنسا وإيطاليا وألمانيا.
والثاني، دعم فرص الوصول إلى تسوية لقضية الديون العالقة بين إيران وبريطانيا منذ فترة ما قبل عام 1979، بعد فشل إتمام صفقة عسكرية وقعت بين الطرفين في ذلك الوقت، والتي تصل قيمتها في الوقت الحالي إلى نحو 528 مليون دولار.
وبدا لافتا أن السلطات الإيرانية تعمدت تأجيل جلسة الاستماع الخاصة بقضية راتكليف، التي كان متوقعا عقدها في 10 ديسمبر الجاري، بالتوازي مع زيارة جونسون، بشكل يوحي بأنها تربط فعلا بين الملفين وأنها تبدي مرونة ملحوظة في الملف الأول لتحقيق اختراق في الملف الثاني. وقد أثار الربط بين قضيتي راتكليف والديون الإيرانية حملة انتقادات عنيفة ضد حكومة تيريزا ماي، التي تواجه ضغوطا داخلية قوية في الفترة الحالية، ما دفع المتحدث باسمها إلى نفي وجود أي صلة بينهما.
سياسة مستقرة
ورغم أن إيران سارعت بدورها إلى نفي ذلك، إلا أن ثمة سوابق عديدة تشير إلى أنها تتبنى تلك السياسة بالفعل في علاقاتها مع القوى الدولية، حيث سبق أن تم الربط بين قيام الولايات المتحدة، في 17 يناير 2016، بدفع 400 مليون دولار نقدا بعملتي اليورو والفرنك السويسري إلى إيران، وتمثل قسما من ديون مستحقة للأخيرة لدى واشنطن تعود إلى صفقة عسكرية أخرى لم تتم قبل عام 1979، وبين إفراج السلطات الإيرانية عن 4 محتجزين أميركيين، في إطار صفقة لتبادل معتقلين من الجانبين.
وفرض ذلك بدوره ضغوطا قوية على إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما التي اتهمت بالخضوع لابتزاز إيران، واستغلها الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، الذي كان مرشحا للانتخابات الرئاسية آنذاك، لتوجيه انتقادات للإدارة السابقة، باعتبار أن ما قامت به “سوف يؤدي إلى انتقال تلك الأموال إلى أيدي الإرهابيين”.
الإجراءات الاستفزازية التي تتخذها إيران تعزز من جهود الإدارة الأميركية لإعادة إيران من جديد إلى مرحلة العزلة
تداعيات وخيمة
إن سعي إيران إلى ممارسة ضغوط قوية على الدول الأوروبية، على نحو ما فعلت مع فرنسا سابقا عندما ربطت بين مصالحها الاقتصادية مع إيران وإصرارها على فتح ملف الصواريخ الباليستية، سوف ينتج في النهاية تداعيات سلبية عليها.
فقد دفعت هذه السياسة الدول الأوروبية، وخاصة بريطانيا، إلى الاقتراب تدريجيا من السياسة الأميركية تجاه إيران، خاصة في ما يتعلق بعدم التعويل على التزامها بالاتفاق النووي والتركيز على التهديدات التي تفرضها تدخلاتها في المنطقة.
وانعكس ذلك في ثلاثة مؤشرات رئيسية:
أولها، ظهور اتجاه داخل بريطانيا يحذر من مخاطر التغاضي عن أنشطة إيران التخريبية في المنطقة، حيث أكد وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، في 2 نوفمبر الماضي، على أن “سلوك إيران يخلق وضعا خطيرا للغاية”، مشيرا إلى أن “الاتفاق النووي لم يؤد إلى تغيير السياسة الإيرانية في الشرق الأوسط، ودعا نواب بريطانيون، في ندوة عقدت بمجلس العموم في 8 ديسمبر الجاري، إلى “التصدي لأنشطة إيران المدمرة في المنطقة”.
وثانيها، انضمام بريطانيا إلى كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا في التنديد باستمرار إجراء إيران تجارب لإطلاق صواريخ باليستية، بما يتناقض مع الاتفاق النووي الذي توصلت إليه تلك الدول مع إيران، حيث شاركت بريطانيا في الرسالة الجماعية التي وجهتها الدول الأربع إلى الأمم المتحدة، في 2 أغسطس 2017، ونددت فيها بتجربة إطلاق صاروخ “سيمرغ”، التي اعتبرت أنها لا تتسق مع قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي أضفى شرعية دولية على الاتفاق النووي.
وثالثها، اهتمام بريطانيا بدعم الجهود المبذولة لإنهاء تمرد الحوثيين على الشرعية الدستورية في اليمن والتعامل بقدر أكبر من الحسم مع تهديداتهم لدول الجوار، ولا سيما السعودية، وبدا ذلك واضحا في استضافتها للاجتماع الخماسي حول اليمن، في 28 نوفمبر الماضي، والذي ضم وزراء خارجية بريطانيا والسعودية والإمارات وسلطنة عمان والمبعوث الأممي إلى اليمن ووكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية.
وأهم ما خرج به هذا الاجتماع هو توجيهه رسالة قوية لإيران بأن دعمها العسكري للحوثيين، الذين قاموا بإطلاق صواريخ باليستية عديدة على السعودية كان آخرها في 4 نوفمبر، يمثل انتهاكا لقرارات مجلس الأمن ولا سيما القرارين 2216 و2231، وأن ذلك يمكن أن يدعم من احتمالات نقل الملف الإيراني برمته إلى مجلس الأمن من جديد، الذي قد يتخذ، حسب البيان الصادر عن الاجتماع، إجراءات مناسبة للتعامل مع ذلك.
وهذه الخلافات المتصاعدة بين الطرفين سوف تدفع إيران إلى تبني سياسة أكثر تشددا في التعامل مع بريطانيا تحديدا، خاصة في ظل الحساسية التاريخية الإيرانية في التعامل مع ما تصفها بـ”الدولة الخبيثة” حسب تصريحات المرشد الأعلى علي خامنئي، والتي ساهمت من قبل في قطع العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين عقب قيام محتجين إيرانيين، بإيعاز من السلطات، باقتحام مقر السفارة البريطانية في طهران، في 29 نوفمبر 2011، قبل أن تعود مرة أخرى في 21 أغسطس 2015 بعد الاتفاق النووي.
ومن دون شك، فإن هذه الإجراءات الاستفزازية التي تتخذها إيران تعزز من جهود الإدارة الأميركية في تكوين حشد دولي وإقليمي مناهض لتدخلات إيران في المنطقة ودعمها للإرهاب، بشكل يمكن أن يعيد إيران من جديد إلى مرحلة العزلة والعقوبات الدولية التي تعرضت لها قبل إبرام الصفقة النووية.
العرب اللندنية