من خلال استخدام نهج جيوستراتيجي يدمج الخطابات القديمة مع الوضع الراهن، يبدو أن “استراتيجية الأمن القومي” التي أطلقها الرئيس ترامب لتوّه تثير تساؤلات كثيرة تضاهي بعددها الأجوبة التي تُوفرها حول كيفية قيادة إدارته للسياسة الخارجية. فـ “استراتيجية الأمن القومي” الجديدة تُضيف نظرةً عالميةً – تعود إلى القرن التاسع عشر أكثر منها إلى القرن العشرين – على سياساتٍ تُشبه كثيراً ما كانت الولايات المتحدة تقوم به منذ عام 1940، إنّما مع التشديد على الصحة الاقتصادية والمنافسة والقوة العسكرية الأمريكية أكثر من الإدارات السابقة. والخبر السّارّ هو أن هذه النظرة تتفادى الانعزالية، في حين يبدو أنها تصحح بعض الشوائب وتُضيء بعض نقاط الغموض في السياسة الخارجية الحديثة للولايات المتحدة، سواء من خلال التشديد على المخاطر المتأتية من الصين وروسيا، أو عدم التشديد على “فعل الخير” العالمي، أو رفض فكرة أن الانتصار العالمي للقيم الليبرالية هو أمرٌ لا مفر منه.
ومع ذلك، لم تستطع “استراتيجية الأمن القومي” الإجابة على سؤاليْن أساسييْن هما: هل هناك نظام عالَمي مشترك يساهم في تقدّم أكثر من مجرّد المصالح الأمريكية، وهل يستحق هذا النظام الحفاظ عليه والدفاع عنه؟ فمن دون هذا المبدأ التنظيمي الأوّل، تغدو الاستراتيجية الكامنة وراء الوثيقة كخطة قد يؤيّدها بكلّ سرورٍ فلاديمير بوتين – الذي لطالما كان من المعجبين بنظام القرن التاسع عشر.
ما الذي يجعل “استراتيجية الأمن القومي” مختلفة هذه المرة؟
على عكس التكرارات السابقة لـ “استراتيجية الأمن القومي”، ثمة قناعة بأنّ “الاستراتيجية” الجديدة تنبثق عن الرئيس نفسه، مما يجعلها أكثر أهمية بكثير من تلك الوثائق التي طالما صدرت بشكل غير منتظم. فقد أثار ترامب المرشّح والرئيس مراراً وتكراراً التساؤلات حول المضمون الجوهري للانخراط العالمي الأمريكي، وأصبحت بعض وجهات نظره المعروفة رسمية وصريحة في هذه الوثيقة.
وعلى كل استراتيجية للأمن القومي أن تجيب على ثلاثة أسئلة أساسية وهي: ما هي الرؤية المحورية حول الانخراط الأمريكي في العالم؟ وما هي الأدوات والسياسات العامة التي ستُستخدَم لتعزيز هذه الرؤية؟ وكيف يختلف العنصران الأوّلان (إذا كان ذلك ممكناً) عن الوثائق السابقة الخاصة بـ “استراتيجيات الأمن القومي”؟ إن “استراتيجية الأمن القومي” الخاصة بترامب خارجة عن المألوف لدرجة أنّ الإجابة على السؤال الأول ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإجابة على السؤال الأخير.
ويمكن قراءة نظرة الرئيس القومية للغاية مباشرةً في المقدّمة: “إنّ «استراتيجية الأمن القومي» هذه تضع أمريكا أولاً”. إلّا أن العديد من وثائق السياسات العامة الماضية اتّسمت بنسخة أخف وطأةً من هذه النبرة القومية ذاتها. وتشير “استراتيجية ترامب للأمن القومي” بوضوح إلى الدور الأمريكي التقليدي، معتبرة أن “قوة أمريكا لا تكمن في المصالح الحيوية الخاصة بالشعب الأمريكي فحسب، بل أيضاً في مصالح أولئك في جميع أنحاء العالم الذين يريدون أن يكونوا شركاء الولايات المتحدة، سعياً لتحقيق مصالح وقيم وتطلّعات مشتركة”. فما هي المشكلة في هذه المقاربة؟
وباختصار، تكمن الإجابة في ما امتَنَعَ عن ذكره. فقد أصدرت إدارة أوباما وثيقتيْن مختلفتيْن تماماً حول “استراتيجية الأمن القومي” في عامي 2010 و2015، لكنّها حافظت على اللهجة التالية في كلتيْهما لوصف المصالح الوطنية الأمريكية الأساسية: “نظام دولي قائم على القواعد تقدّمه القيادة الأمريكية لتعزيز السلام والأمن والفرص عبر التعاون الأقوى لمواجهة التحديات العالمية”. ولا شيء من هذا القبيل في نسخة ترامب. ويقول مسؤولو الإدارة الأمريكية أن لهجة “التعاون مع المعاملة بالمثل” تشير ضمناً إلى الولاء للنظام العالَمي، لكنّها ليست مساوية له.
وبالتالي، لا تبدو الرؤية التنظيمية لـ “استراتيجية الأمن القومي” الجديدة كنظرة عالمية انعزالية أو دولية، إنما كنظرة عالمية توحي بحقبة “القوى العظمى” في القرن التاسع عشر. فعلى سبيل المثال، تؤكّد هذه الرؤية أن “المنافسة على القوة هي استمرارية أساسية في التاريخ. والفترة الزمنية الحالية ليست مختلفة”. فلا يجب تجاهل الدبلوماسية، لكن لا بدّ من إعادة هيكلتها “لخوض المنافسة في البيئة الراهنة واعتناق تفكيرٍ تنافسي” – وهو أمرٌ بعيدٌ كلّ البعد عن الدبلوماسية بصفتها تنظّم وتدير نظاماً عالميّاً تعاونيّاً.
وتبرز طريقة تفكيرٍ توحي أكثر بالعولمة على ما يبدو في أحد الأركان الأساسية الأربعة للوثيقة، وهي “دفع النفوذ الأمريكي قدماً”، ما يدعو إلى الإحتفاء بـ”النفوذ الأمريكي في العالَم كقوة إيجابية… لتحقيق السلام والازدهار وتطوير مجتمعات ناجحة”. ومع الإشارة إلى أن العالَم معجبٌ بـ “مبادئ أمريكا”، يَعِد النص بإقامة علاقات شراكة مع “أولئك الذين يشاركوننا تطلعاتنا للحرية والازدهار” ويفيد بأن “الحلفاء والشركاء يشكّلون قوةً كبيرةً للولايات المتحدة”. ثم تُقاوم الوثيقة العناصر الصريحة من الاستراتيجية العالمية التي تقدّم بها الرئيسان السابقان. فانتقاداً لإدارة بوش، تتعهد الوثيقة بأن أمريكا “لن تفرض قيمها على الآخرين”، مع التشديد على الإرادة الحرة والمصالح المشتركة بدلاً من ذلك. ثمّ تناهض أحد المواضيع الرئيسية التي تحدّث عنها الرئيس أوباما، وهي الحتمية العالمية للديمقراطية الليبرالية: “ليس هناك تطوّرٍ تاريخي يضمن أن النظام السياسي والاقتصادي الحر لأمريكا سوف يسود تلقائيّاً”. وتشير مثل هذه التصريحات إلى أنه حتى المقاطع التي توحي أكثر من غيرها بالعولمة بشكلٍ معلَن تركز على الموضوع الأساسي الخاص بالمنافسة العالمية الداروينية تقريباً.
فعلى سبيل المثال، توضح “استراتيجية الأمن القومي” أن الولايات المتحدة تواجه “ثلاث مجموعات رئيسية من المنافسين – وهي القوتان التعديليتان روسيا والصين، والدولتان المارقتان إيران وكوريا الشمالية، والمنظمات التي تشكّل خطراً عابراً للأوطان، لا سيّما الجماعات الإرهابية الجهادية”، وكلّها “تنافس بنشاط ضد الولايات المتحدة وحلفاءنا وشركاءنا”. بالإضافة إلى ذلك، هذه “صراعات سياسية بشكلٍ أساسي بين أولئك الذين يفضّلون الأنظمة القمعية ومَن يفضّلون المجتمعات الحرّة”، مما يجعل العالَم في وضعٍ معلَّق حيث لا يعيش الخصوم في حالة “سلامٍ” أو “حربٍ”، بل في “ميدان المنافسة المستمرة”. وعلى الرغم من إقرار ترامب بهذه التهديدات هو اختلافٌ مرحَّب به عن “استراتيجية الأمن القومي” لعام 2015 (والتي، لكي نكون منصفين، تم إصدارها قبل إطلاق كوريا الشمالية الصواريخ البالستية العابرة للقارات وتدخل روسيا في سوريا)، إلّا أنّه يسلّط الضوء على كيفية تصديها للولايات المتحدة، وليس للنظام العالمي الذي تُديره أمريكا.
إن عدم القدرة على إنشاء رابط بين هذين الأمرين تدفع إلى التساؤل حول ما الذي يُلزم هذه الدول على تحدّي واشنطن بهذا الشكل المباشر، بما أنه لا يبدو أن أحداً منها يسعى إلى الهيمنة العالمية الفعلية (باستثناء الصين، وهو موضوع قابل للجدل). والإجابة الواضحة هي أن هذه الدول لا تتحدى الولايات المتحدة بقدر ما تتحدى قيود “النظام الدولي القائم على القواعد الذي تقدّمه القيادة الأمريكية”، وفقاً لما ورد في “استراتيجية الأمن القومي” الخاصة بأوباما. وإذا اعتبرت إدارة ترامب أن هذا النظام غير جدير بالذكر، ناهيك عن التأييد، فقد يتساءل المرء عما يوقف أمريكا وأعداءها من تخفيف حدة المخاطر المحتملة على بعضهما البعض من خلال تقاسم العالَم على غرار “مؤتمر فيينا” عام 1815.
إلى أي مدى قد تتغير السياسة الأمريكية بشكل فعلي؟
إنّ الاستنتاج الأهم الذي يمكن استخلاصه من “استراتيجية الأمن القومي” هذه هو أن إدارة ترامب تُعلن موقفها رسميّاً وتؤيّد أمرين متناقضين على ما يبدو وهما: الرؤية المحورية التي تنحرف إلى حدّ كبير عن التركيز على “النظام العالمي” كالإدارات السابقة، ومجموعة القيم والأعمال المألوفة التي لا بد أن تخدم هذا النظام العالَمي. وإذا كانت الإدارة الأمريكية تلتزم بهذه الاستراتيجية ككل، فستتماشى مقاربتها مع السياسة التقليدية التي اتُبعت على مدى السنوات السبعين الماضية (وأيدتها بشكل مدهش نسبة كبيرة من الأمريكيين في استطلاع للرأي أجراه مؤخراً “مجلس شيكاغو للشؤون العالمية”)، ولكن من دون أي حجة ملزمة وشاملة تدفع إلى القيام بذلك خارج نطاق “المصالح الأمريكية”. حتى أن أسماء الأركان الأساسية في “استراتيجية الأمن القومي” يرتجع صداها قبل محاولة تجريد جهود هذه الاستراتيجية من الشعور القومي: “حماية الشعب الأمريكي وأرض الوطن ونمط العيش الأمريكي”؛ و”تعزيز الازدهار الأمريكي”؛ و”الحفاظ على السلام عبر القوة”؛ و”دفع النفوذ الأمريكي قدماً”. كما أن اللائحة الطويلة من الأعمال المحددة التي تدعم هذه الأركان مألوفة أكثر، بالإضافة إلى التركيز الأكبر على الجوانب العسكرية والاقتصادية فضلاً عن ذكر التهديدات الصاعدة كالسيبرانية منها بكثافة أكبر.
ومن الجدير بالذكر أن العديد من المجالات قد جرت تغطيتها بشكلٍ سريعٍ جدّاً. فلم يستحق الشرق الأوسط إلا جزءاً واحداً قصيراً جُمعت فيه عناصر التوسع الإيراني وانهيار الدولة والإيديولوجيا الجهادية والركود الاجتماعي والاقتصادي والخصومات الإقليمية كمولّدات لعدم الاستقرار، من دون تقديم أي علاج ناجع. بالإضافة إلى ذلك، تصرف الوثيقة النظر عن مقاربتيْ بوش وأوباما (التحول الديمقراطي وفك الارتباط، على التوالي) في حين تقدم القليل كبديل عنهما، فلا تعِد إلّا بأن تكون “واقعية” فيما يخص توقعات الولايات المتحدة بشأن المنطقة – مما يشكّل نداءً خافتاً للتأهب.
وعلى أقل تقدير، تولّد “استراتيجية الأمن القومي” وردود الفعل المحلية الأولية إزاءها نقاشاً تشتد الحاجة إليه حول الحد الذي يجب أن تحافظ عليه الولايات المتحدة من النظام العالمي التقليدي. على سبيل المثال، كتب ديفيد فروم في مجلة “ذي أتلانتيك” مقالةً نقدية دولوية كلاسيكية، وأشار بشكلٍ خاص إلى افتقار الوثيقة للتشديد على القيم الديمقراطية الخاصة بـ”القوة الناعمة”، التي يراها محورية للنفوذ الأمريكي. غير أن مبالغة إدارة بوش في التشديد على هذه القيم في أماكن كالعراق وأفغانستان كلّفت أمريكا ثمناً باهظاً – وهي مشكلة لم يعبّر عنها ترامب فحسب، بل أيضاً كثيرون من الجناح الدولي المناهض لترامب عموماً. حتى أن الرئيس أوباما تجنّب بناء الأمّة (بصرف النظر عن الجهود الفاترة التي بُذلت، والمتراصفة مع الطفرة الأفغانية) ولم يفعل الكثير لنشر القيم الأمريكية خارج ميدان الخطاب. ويستشهد فروم أيضاً بعدم شعبية ترامب كنتيجة التخلي عن نظامٍ مبني على القيم. لكنّ نقداً كهذا يفترض أن الدور العالمي لأمريكا يقتصر على الشعبية – وهي فكرة سيتصدى لها العديد من المراقبين بعيداً عن الرئيس الأمريكي.
وفي النهاية، لا يمكن إطلاق أحكام على هذه “الاستراتيجية للأمن القومي” إلا من خلال مراقبة درجة تقيّد الرئيس الأمريكي وكبار مستشاريه بها ككل. فإذا نفّذوها بحذافيرها، سيختبر العالَم نموذجاً خاصّاً بترامب فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية التقليدية. ولكن إذا أرادوا الانحراف عن تلك السياسة، فإن الوثيقة توفر ما يكفي من التبريرات لإطلاق مقاربةٍ مختلفة جدّاً للعالَم، كما أشار الرئيس بنفسه على الأقل عند إشادته ببوتين في خطابه الذي أعلن فيه عن “استراتيجية الأمن القومي”.
جيمس جيفري
معهد واشنطن