سوف يأتي يوم قريب أو بعيد، تنتهي فيه الحرب في سورية وعليها، وتعود الجحافل الباقية من «داعش» وأمثالها من حيث أتت، لكن سوف يبقى في سورية نظامها العسكري والسياسي، والإداري، وسوف تبقى الجيوش الإيرانية وقياداتها وأنظمتها اللوجستية وأجهزتها الإعلامية وبعثاتها الدينية. أما الباقي الأكبر والدائم فهو الوصي على سورية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومعه قاعدتان لأسلحة البحر، والجو، والبر، وجيش من نخب القيادات والعمليات والاستخبارات.
يمكن القول عن فلاديمير بوتين إنه ملأ الفراغ الذي تركه القادة السوفيات التاريخيون في قصر الكرملين، وإذ انتقلت موسكو من عاصمة الاتحاد السوفياتي إلى عاصمة جمهورية روسيا الاتحادية فقد استقبلت في الكرملين ثلاثة رؤساء قبل بوتين، هم: ميخائيل غورباتشوف، وبوريس يلتسن، وديمتري ميدفيديف.
هؤلاء القادة الثلاثة تضاءلت قاماتهم أمام قامات زعماء الكرملين التاريخيين، وكان آخرهم ليونيد بريجنيف… وإذ حاول الرئيس الجديد «الطارئ» غورباتشوف أن يلصق علامات الحرية والديموقراطية والانفتاح على واجهة الكرملين تصدى له بوريس يلتسن الطالع من عصبة قومية روسية ماركنتيلية مكبوتة، وقد جمع حوله أطيافاً من الروس الفوضويين الذين وجدوا فيه زعيماً صلباً، وهو كان قد تصدى لقافلة عسكرية متجهة إلى الكرملين، فقفز على مقدمة مصفحة وراح يصرخ بالجماهير المحتشدة، داعياً إلى ثورة على الرئيس غوباتشوف الذي لم يكن قد أكمل سنته الثانية، وقد نجح يلتسن واحتل الكرملين. لكنه ما إن تسلّم السلطة في العاشر من تموز (يوليو) 1991، حتى شرّع أبواب الدولة والمؤسسات العامة، والجيش، أمام طبقة جديدة من اليمين الناهض من تحت أعباء القمع، والكبت. ولم تمض سنتان حتى بدأ أصحاب البلايين الروس يظهرون في الولايات المتحدة وسائر دول الغرب، وراحوا ينافسون الأثرياء المشاهير في المضاربات على امتلاك العقارات والمؤسسات، والأسهم في البورصات العالمية.
لكن يلتسن هو الذي اكتشف فلاديمير بوتين، رجل جهاز المخابرات في الزمن الشيوعي الغابر، وقد وجد فيه الذكاء، والحزم، وقلّة الكلام، والشجاعة في اتخاذ القرار وتحمّل المسؤولية بمقدار كبير من الثقة بالنفس. وعام 1999 اختاره يلتسن رئيساً لحكومة روسيا الاتحادية، ومنها إلى رئاسة روسيا الاتحادية عام 2014.
هذه اللمحة الموجزة عن شخصية بوتين ذي الوجه الثابت، والنظرة الخارقة المعبّرة عن إدراك ما يسمع وما يرى وما يفهم، من دون أي إشارة أو تلميح لما يضمر، هي التي تحكم الرئيس الذي يتحكم في هذه المرحلة بمسار ومصير سورية، الكيان، والشعب، والدولة، والنظام.
ومن مصادفات الأحداث المتواصلة أن يتولى فلاديمير بوتين رئاسة روسيا في دورة ثانية بدأت في 7 أيار(مايو) 2012 مع بداية الثورة السورية على النظام في آذار (مارس) 2012، وهي المرحلة السورية المتفجرة التي واكبها بوتين بكل ما تملك روسيا من قرارات ونفوذ على الصعيد الإقليمي، وعلى الصعيد الدولي، فضلاً عما تملك من قوى حربية ومعدات وأسلحة متطورة وأساطيل بحرية وجوية، ومن جيوش، وقادة وخبراء، ومخابرات.
وها هي المصادفات الزمنية، والأحداث، والأحكام السورية– الروسية تمضي في مسارها، فيجد فلاديمير بوتين نفسه أمام دورة رئاسية رابعة في آذار المقبل، فيما سورية، الكيان، والدولة، والجيش، والشعب، تترنح على النار، والدمار، والدم، والفراغ، والنزوح، إلى جميع أصقاع الأرض، فيما يستمر التنقل من مؤتمر إلى مؤتمر، ومن منصة، إلى منصة، ومن مدينة إلى مدينة، وقد نزلت في التاريخ السياسي مدن جنيف، والرياض، وسوتشي، وآستانة ملتقى وفود النظام السوري مع «وفود» الشعب السوري على مدى ثلاث سنوات مضت في مناكفات، لا مفاوضات، من جانب الوفد الرسمي، والموعد الآتي قريب، ومكانه في «سوتشي» الروسية.
في مؤتمره الصحافي السنوي الذي انعقد في 14 كانون الأول (ديسمبر) الحالي، أعلن بوتين أنه سيخوض معركته الرئاسية الرابعة بصفته مرشحاً مستقلاً للمرة الأولى، ولم يوضح مبادئ «استقلاليته» وبرنامجه الرامي إلى تحديث روسيا. وهو إذ أبلغ الشعب الروسي ما يهمه من أمر الحكم والرئاسة كشف له عن أن معدل الدخل القومي الإجمالي ارتفع خلال دوراته الرئاسية الثلاث بنسبة 70 في المئة، كما تطورت البنى التحتية الصناعية بنسبة متساوية مع زيادة الدخل الفردي بنحو 3.5 في المئة.
ليس من عادة الروس، ولا من ثقافتهم السياسية في العهود السابقة، أن يحاسبوا قياداتهم على ما ترتكب من أخطاء، وعلى ما تسبّب من أضرار معنوية ووطنية تلحق بشعوب دول أخرى يختار رؤساؤها الخضوع لإمرة موسكو، كما يحصل في سورية منذ خمس سنوات، على الأقل، ولو كان للشعب الروسي ذلك الحق بالمحاسبة، أو الاعتراض على الأقل، لكانت التظاهرات عمّت روسيا، وعلى الأخص مدينة سانت بطرسبورغ (ليننغراد) مسقط روسيا بوتين، للاحتجاج على ما لحق بالشعب السوري من كوارث جعلته مبعثراً في أقطار الدنيا.
قد يقول الدفاع عن الرئيس بوتين أنه حمى سورية من السقوط، دولة، وشعباً، تحت سطوة «داعش» وفروعه من فرق ومنظمات إرهابية. لكن السوري الحر يرد بمنطق أصدق وأقوى، خلاصته وفحواه: لو أن الرئيس بوتين تخلّى عن النظام السوري، بل لو أنه أمره بالانصياع لإرادة شعبه، والتنحي عن الرئاسة، لكان حفظ سلامة سورية، كياناً وشعباً، ومقومات بلاد هي عبر الأزمنة والتاريخ، مهد حضارة، ومدنية، وعروبة، وموئل جهاد، وشهامة، وفداء… لو اتخذ الرئيس بوتين ذلك القرار لكان ربح العالم العربي بأسره، ومعه احترام وتقدير العالم الأوسع. لكنه اختار أن يربح الأسد، ويخسر العالم العربي، ومعه المجتمعات والهيئات المدنية والثقافية التي تراقب وتتابع مبادرات الدول على مختلف الأصعدة والمستويات.
في الأرشيف الإعلامي والديبلوماسي صورة مكبرة بالألوان يظهر فيها مندوب روسيا في مجلس الأمن الدولي رافعاً يده عالياً معطلاً قراراً بإدانة النظام السوري لاستعماله أسلحة كيماوية أدّت إلى موت عشرات الأولاد السوريين بين أكوام جثث الضحايا في غارة جوية على بلدة في «الغوطة الشرقية» المحاذية للعاصمة دمشق، وكانت تلك الغارة واحدة من عشرات الجرائم التي ارتكبها النظام، ولا يزال يحتفظ بكميات من تلك المواد المحرّمة دولياً.
ومنذ بداية الثورة هناك سؤال يتردد في الأوساط السورية، وسواها في المحيط العربي المعني بنتائج تلك الثورة… السؤال هو: من يكون القائد المنقذ المؤهل لرفع سورية من محنتها والمضي بها نحو مستقبل يعوّض، بالتدرّج، ما فقدت من شعبها، ومن تراثها، ومن قيمها، ومن مخزون قواها الوطنية والثقافية والجهادية عبر المحنة التي طالت؟
وسؤال آخر: من يكون القائد الموثوق به الذي يتسنى له أن يمتلك ثقة الجماهير السورية، الباقية، والمبعثرة، فيرفع بلاد العز والأمجاد من الهاوية، ويعيد الملايين إلى المدن والأرياف والربوع التي افتقدت ظلال رجالها ونداءات أبطالها لاستعادة سورية؟
أسئلة تدور في الخواطر المنكسرة، ولعل جواباً افتراضياً عنها يمتلكه الرئيس فلاديمير بوتين ذاته، لا سواه.
الجواب: ما دام الرئيس الروسي يملك قرار خلاص سورية، وهذا ليس افتراضاً، فهل له أن «يكتشف» بين القيادات السورية الشعبية الوطنية «رجلاً» إذا لفظ اسمه سمع ثناء واحتراماً؟
عدد رجال سورية من ذلك الرعيل ما زال كبيراً، وقد صار الرئيس بوتين الخبير الأول في شؤون سورية، ولديه جهاز سياسي، قيادي، عسكري، إستراتيجي قادر على أن «يكتشف» المرشح المؤهل لأن يعيد لسورية شعبها المغيّب، وأن يعيد إليها دورها وأمجادها الوطنية والقومية، وقواها وأرصدتها السياسية والمعنوية، ومؤهلاتها وكوادرها العلمية، وطاقاتها البشرية متنوعة المهن والاختصاصات والإمكانات، ومعظمها صار في أقطار الشتات.
ليس من باب الاستسلام القول أن سورية تحتاج إلى منقذ، وليس من دواعي الضعف القول أن مصير سورية بات أمانة في عنق فلاديمير بوتين. فهذه هي الحقيقة، وهي مدعاة شرف للرئيس بوتين أن يفتح أمام سورية باباً تطل منه على العالم بهالة من الأمن والسلام، فتستعيد دورها ومكانتها بين الدول والأمم. وحيث تكون الأمانة بوزن دولة، وكيان، وشعب، يكون لحاملها الشرف الكبير.
أما السؤال، أو التساؤل، عن «الديموقراطية» و «الوطنية» و «حرية» الرأي والقرار في الانتخاب على المستوى الرئاسي، ومادون، فهو من حواضر الخواطر.
يبقى أن هناك باباً لمساعدة الشعب السوري في التعبير عن حقيقة رأيه وقراره، لو بالإمكان تنفيذه، وهو أن يعطى السوريون في أقطار شتاتهم حق الاقتراع لرئيس جديد في أماكن وجودهم برعاية وإشراف منظمة الأمم المتحدة، كما لا بدّ من رعاية المنظمة الدولية لعمليات الاقتراع في سورية… هذا، إذا أجريت انتخابات!
عزت صافي
صحيفة الحياة اللندنية