كيف تعيدُ برمجة بلد بعد هزيمة “داعش”؟

كيف تعيدُ برمجة بلد بعد هزيمة “داعش”؟

وصلنا إلى هنا هذا الشهر، تماماً مع إعلان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي تحقيق النصر النهائي على ما تدعى الدولة الإسلامية “داعش”. وقد جئنا إلى هنا كباحثين موفدين من المركز الدولي لدراسة التطرف العنيف، بهدف إجراء مقابلات مع بعض أعضاء “داعش” في السجون، لنكتشف فجأة أن خططنا قد تعطلت: فقد كان الجميع في عطلة عندما أعلن رئيس الوزراء يوم العاشر من كانون الأول (ديسمبر) يوم عطلة وعيداً وطنياً.
وكان وسط بغداد يعج بمسيرات منظمة على الأرض، وبالطائرات الحربية وهي تهدر في الأعلى. وكانت الشوارع مفعمة بالنشاط والحياة بسبب الاحتفالات المرتجلة. وفي إحدى المراحل، شاهدنا مجموعة من الشباب العراقيين يركبون حافلة صغيرة، ويحاولون الحفاظ على توازنهم بينما يهتفون مبتهجين وملوحين بالأعلام العراقية.
أخذنا استراحة قصيرة في الشارع 52 في بغداد لتناول طعام خفيف وحلويات، وجلسنا مع عراقيين في أحد المطاعم -يعيشون حياتهم كالمعتاد. وبدا كما لو أن كابوساً قد انتهى.
في ذروة قوته بين العامين 2014 و2016، كان “داعش” يحتفظ بالسيطرة على ثلث مساحة العراق تقريباً. وسممت دعايته أفكار الآلاف، كما عانى العراقيون كثيراً بطرق ما يزال يصعب على الكثيرين منهم التحدث عنها -فالأهوال صعبة جداً على التحمل.
عاش نحو 300.000 طفل ومراهق تحت حكم “داعش”. وقد تم تدمير جامعاتهم واستبدال مناهج المدارس الابتدائية والثانوية بأيديولوجية “داعش” وتلقينه، بما في ذلك إدراج دروس عن كيفية تصنيع أجهزة التفجير البدائية والانخراط في القتال، أو شن هجمات انتحارية.
بعض الشباب تم تجنيدهم وأجبر آخرون على الانضمام إلى المعسكرات، بينما كان آخرون يُعلمون في المدارس التي يديرها “داعش” -من بين أمور أخرى- كيفية قطع رأس إنسان. أما الذين نجح آباؤهم في الإبقاء عليهم في المنزل، فقد ظلوا عرضة لوحشية “داعش”؛ وكلما خرجوا من المنزل كانوا يشاهدون دعاية التنظيم التي يجري بثها بلا توقف على شاشات التلفزة المنصوبة في المدن التي يسيطر عليها التنظيم. والأسوأ أنهم شاهدوا بأعينهم عمليات قطع رؤوس وأعمال العنف الأخرى التي يرتكبها “داعش”.
تنعى البرلمانية العراقية، ميسون الدملوجي، الافتقار التام إلى وجود برامج علاجية تستهدف هؤلاء الأطفال، وتطالب بأن يتم تنظيم هذه البرامج بسرعة وفعالية.
عندما يتعلق الأمر بدحض دعايات “داعش”، وهو أحد اختصاصات منظمتنا، فإننا نتفق جميعاً على أن التنظيم كان ماهراً في الطريقة التي استخدم بها وسائل الإعلام -وخاصة وسائل الإعلام الاجتماعية- بينما احتاج اللاعبون الوطنيون والدوليون الذين عارضوه إلى لعب لعبة المطاردة.
ويقول سعد معن، الناطق بلسان وزارة الداخلية العراقية، أن الحكومة العراقية تعلمت كيفية رد القتال عبر استخدام وسائل الإعلام لمواجهة أكاذيب “داعش” بسرعة، بما في ذلك عرض شهادات الذين ظلوا على قيد الحياة من التنظيم وألقي القبض عليهم ولم “يستشهدوا” في عمليات التنظيم. كما أظهرت وزارته حقيقة أن بعض الهجمات التي ادعى التنظيم تنفيذها وعرضها على أنها هجمات مجيدة، لم تحدث أبداً في الحقيقة. وقد استخدم الجيش الأميركي، في مناسبات عدة، أفلام فيديو ملتقطة من الجو بواسطة طائراته الحربية والطائرات المسيّرة لتبديد الادعاءات التي ينشرها التنظيم عن عملياته الخاصة.
في بغداد، قيل لنا إنها لا تكاد توجد عائلة لم تفقد أحد أحبائها في القتال ضد “داعش”. وكان الضحايا من المدنيين والجنود على حد سواء.
وإلى الشمال، أسفر القتال ضد “داعش” عن التدمير شبه الكلي لمدينة الموصل التي تمت استعادتها مؤخراً، والتي كانت ذات مرة حاضرة حيوية وثاني أكبر المدن العراقية. لكنها تبدو الآن مثل سطح القمر.
في المؤتمر الذي عقده رئيس الوزراء العراقي، العبادي بعنوان “مؤتمر مواجهة دعاية وأيديولوجية داعش”، تناول أحد المتحدثين العراقيين موضوع المقاتلين الأجانب الذين أتوا من أوروبا وغيرها، وسافروا إلى سورية والعراق للقتال مع “الخلافة”.
وقد أشرت ملاحظاته عن المواطنين الاسكندنافيين والبريطانيين والفرنسيين -من بين آخرين- الذين أتوا إلى بلده لمحاولة الإطاحة بحكومتها، على كم هو غريب غير تقليدي وغير اعتيادي أن يصل ما يقترب من 40.000 مقاتل أجنبي إلى بلد المرء (وإلى سورية المجاورة) للانضمام إلى تنظيم مصمم على تدمير وتحطيم شكل الحكم في بلده.
كان القتال ضد داعش صعباً. وكان جهداً لفريق؛ حيث قدم التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والمكون من أكثر من 30 بلداً الدعم الفني والقوة الجوية، بينما هزمت الميليشيات والجيش العراقيين بشجاعة واحداً من أكثر الأعداء رعباً في العالم.
مع ذلك، وبينما نشاهد الهزيمة الكلية لتنظيم “داعش” في العراق، فإننا نسمع أيضاً من كل الخبراء العراقيين الموجودين هنا، كما كنا قد سمعنا في الأشهر الماضية، عن قلق كبير من من الفيض الهائل من الرسائل التي صدرت عن “داعش” وغمرت وسائل التواصل الاجتماعية، وما تزال موجودة حتى الآن.
هنا في المؤتمر، قال قائد قوة العملية المشتركة الموحدة -عملية العزم المتأصل- الجنرال بول فانك، أن قدرة “داعش” الإعلامية قد تراجعت بنسبة 85 في المائة.
ومع ذلك، ما يزال الجيش والشرطة وخبراء الحكومة العراقيون يعربون عن المخاوف من أن تكون استراتيجية التنظيم التي انغرست عميقاً في عقول الكثيرين، وخاصة الشباب الذين عاشوا تحت حكمهم، ربما تكون ما تزال قوية. وهم يخشون من شرها وأصدائها المستمرة. وإذا دامت أيديولوجيته التنظيم، فمن الممكن أن نشهد إعادة صعود التطرف العنيف هنا، ربما تحت مسمى جديد.
وفي الحقيقة، أصبحنا نشهد أصداء “داعش” وهي تتردد بعيداً خارج حدود العراق. وقد ترددت أصداؤه مؤخراً في مدينة نيويورك حيث لبى أوزبكي أولاً ثم مهاجر بنغالي الدعوة إلى شن هجمات وسط منهاتن. وشهدنا الشيء نفسه يحدث في أوروبا أيضاً. وقد فقدت المجموعة الأرض، لكنها لم تفقد ماركتها.
سأل أحد المؤتمرين: “كيف لنا الآن أن نقنع شبابنا بأنهم يمكن أن يكونوا جزءاً من صنع القرار، وبأن نوفر لهم فرصاً اقتصادية ومستقبلاً بعيداً عن المجموعات المتطرفة؟”، وتساءل أيضاً: “مَن بين الناشطين والحكومة يستطيع المساعدة في التوصل إلى حلول؟”.
في وقت لاحق من الأسبوع أجرينا مقابلة مع أحد المنشقين عن “داعش”، المنشق رقم 66، السجين أو العائد الذي تحدثنا معه من أجل مشروعنا. وفي ذلك الوقت، كنا في سجن بغداد حيث استمعنا إلى “أبو جهاد” بعد أن طلبنا منه إخفاء اسمه الحقيقي. ولم يكن بعيداً عن المنزل -الشاب البالغ من العمر 23 عاماً من ضاحية الدورة في بغداد- لكن الوقت سيكون طويلاً قبل أن يتمكن من رؤية ضاحيته مرة أخرى.
كان “أبو جهاد” قد جند كقاصر في “داعش” خلال سجنه فترة قصيرة. لكنه كان قد تحول كلية مع خروجه من السجن؛ فقد سمم أحد مجندي “داعش” عقله. وعند الإفراج عنه اتصل من فوره بـأعضاء في “داعش” كان الشخص الذي جنده قد طلب منه الاتصال بهم، فلم يضيعوا أي وقت لتدريبه وتجهيزه لشن الهجمات بالقنابل ضد الشرطة ومن يدعون مخبري الدولة العراقية، وكان يضع المتفجرات عادة خارج أبوابهم ثم يقوم بنسفها عن بعد.
بعد هجومه الخامس، علم “أبو جهاد” أنه لم يقتل الشرطي الذي كان الهدف المقصود، وإنما قتل بدلاً منه طفلاً صغيراً. وقال لنا “أبو جهاد”: “لا استطيع إغلاق عيني من دون رؤية ذلك الطفل… وأنا مسكون بما فعلته وأضرع إلى الله أن يغفر لي”.
وعندما سألناه عما إذا كان الانضمام إلى “داعش” قد راقه، قال: “إن ‘داعش’ يكذب. لقد كذبوا علي بخصوص إقامة دولة إسلامية. وأنا أردت أن أصدقهم لأنني أردت قيام دولة إسلامية حتى أنال حقوقي. لكن تصديقي لهم أدخلني السجن، حيث أعيش مع الكوابيس المستمرة دائماً. لقد دمرتُ حياتي”، وقد ينقضي الكثير منها أو كلها خلف القضبان.
وكان “أبو جهاد” قد أفلت من عقوبة الإعدام لأنه كان قاصراً عندما انضم إلى صفوف “الخلافة”.
وبعد مقابلته، مررنا بما بدا عرضاً غير منته من إطلاق الرصاص على رؤوس عدد من السجناء الآخرين. وكانت تتدلى من جثثهم شاخصات تقول إنهم أعدموا لأنهم نفذوا جرائمهم نيابة عن “داعش”.
قد يحل قتل الرجال بعض المشاكل التي خلقتها “خلافة” داعش، لكن النصر النهائي في هذه الحرب لن يتحقق إلا عند تفكيك أفكار “داعش” وتحطيمها أيضاً.
آن سبيكارد؛ وأرديان شاجكوفشي

الغد