وضع الموت حدا لرحلة الكاتب والصحافي المصري صلاح عيسى (14 أكتوبر 1939- 25 ديسمبر 2017) بعد صراع مع المرض، لتنطوي أوراق مسيرة حافلة ومثيرة للجدل خاضها الراحل في مجال الصحافة وفي دروب الفكر والتاريخ والاجتماع والثقافة والأدب والعمل السياسي.
معارك وأزمات لا حصر لها اقترن بها صلاح عيسى دائما؛ بدءا باعتقاله الأول في ستينات القرن الماضي في عهد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، مرورا بانقضاض اليسار عليه في السنوات الأخيرة من منطلق أنه تخلى عن مبادئه وصار صديق السلطة، وانتهاء بمحنة مرضه التي وضعت أمام دقات قلبه نقطة الختام، على أنها لم توقف الخلاف الدائر حول أفكاره وآرائه ومواقفه.
الجدل المستمر حول عيسى يعكس في أحد أوجهه زخما وثراء بالغين، فتلك المعارك التي صارت مرادفا لاسمه في شتى الميادين لم تكن لتحدث لولا أهمية وثقل ما يكتبه ويفعله على الأرض كمثقف عضوي، بغض النظر عن الاتفاق معه أو الاختلاف.
مثل هذه القيمة المجردة للرجل، من دون تقييمها أو تمحيصها، هي ما توقفت عندها الثقافة الرسمية والجماعة الصحافية في نعيه، فأعرب حلمي النمنم وزير الثقافة عن أسفه لفقدان الساحة الثقافية والصحافية ركنا كبيرا من أركانها، ورائدا من روادها، تاركا بصمة ستبقى في ذاكرة المصريين، فصلاح عيسى هو “الكاتب والصحافي المتابع للأحداث، والمؤرخ الناجح، وصاحب الآراء المؤثرة”.
معارك وأزمات لا حصر لها اقترن بها صلاح عيسى دائما؛ بدءا باعتقاله الأول في ستينات القرن الماضي في عهد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، مرورا بانقضاض اليسار عليه
وجاء نعي عبدالمحسن سلامة نقيب الصحافيين متفاديا أيضا ذلك الالتباس في أطروحات عيسى، على اعتبار أن اجتهاده الدائم هو بحد ذاته الدور الذي يستحق عليه التقدير. الرجل يمثل قيمة متعددة الأوجه، وأي مجال يطلب منه الخوض فيه كان يعطي فيه دون تردد، وطوال الوقت كانت له بصمته ودوره في المجال الفكري والثقافي.
اهتمامات صلاح عيسى المتعددة، تكاد تخلع عليه صفة الموسوعية، فابن قرية “بشلا” بمحافظة الدقهلية في دلتا النيل حاصل على بكالوريوس الخدمة الاجتماعية في العام 1961، وبدأ حياته أديبا يكتب القصة القصيرة وقدم مجموعة بعنوان “جنرالات بلا جنود”، ثم اتجه سريعا للكتابة في التاريخ والفكر السياسي والاجتماعي، ومارس العمل الصحافي على نحو احترافي منذ 1972 في جريدة الجمهورية.
أسس عيسى وشارك في إدارة تحرير صحف ومجلات عدة؛ منها: “الثقافة الوطنية”، و”الأهالي”، و”اليسار”، كما رأس مجلس إدارة وتحرير “القاهرة”، التي تصدرها وزارة الثقافة، واقترن اسمه بها في السنوات الأخيرة قبل رحيله.
وقدم العشرات من الكتب في التاريخ والاجتماع والفكر السياسي والأدب؛ منها “الثورة العرابية”، “تباريج جريج”، “مثقفون وعسكر”، “دستور في صندوق القمامة”، “رجال ريا وسكينة”، “جلاد دنشواي”.
علاقته باليسار، دفاعا عنه وانقلابا عليه، هي البارود الذي أشعل أغلبية معاركه، وشيئا فشيئا، بدأت علاقته باليسار تتذبذب، حتى كان انضمامه الصريح إلى مؤسسات الدولة من خلال عمله في صحيفة “القاهرة”، وبرر عيسى خفوت حدة صوته كمعارض على طول الخط، بقوله “ليست الحكومة كلها فاسدة، ما المانع من التعاون مع من يفتح منها طاقة نور للمعارضة؟”. لكن منتقدي عيسى يرون مثل هذا التبرير الذي قدمه تلفيقيا وليس توافقيا، فليس ممكنا أن يتحول المثقف من يسار السلطة إلى يمينها، .
ظل الرجل حتى رحيله مؤمنا بأن اليسارية والتعامل مع المؤسسة لا يتعارضان، وبروح اليسارية هذه، شن هجومه على الجماعات الإسلامية ورموزها، كما اعتبر أن اليسار سيظل حاضرا وفاعلا بقوة طالما أن قضية العدالة الاجتماعية موجودة، فاليسار قد يكون تراجع كتيار أو تنظيم سياسي، لكن لم يتراجع كتيار فكري واجتماعي بين العامة والبسطاء الملتفين حول العدالة الاجتماعية. دافع عيسى عن ثورة 25 يناير 2011، واصفا إياها بأنها انفجار عفوي طبيعي وثوري، لكن أزمتها الافتقار إلى الحد الأدنى من التنظيم.
صحيفة العرب اللندنية