يدين العالم بأسره، ناهيك عن ثلثي الشعب في هذا البلد، ويشجب دونالد ترامب. فالعالم يرفض عنصريته وخطابه الجنسوي وإعلاناته الموحشة والحمقاء وعجرفته وتجسيداته الوفيرة للنرجسية الخبيثة. والعالم يدين انسحابه من اتفاق باريس ورفضه للاتفاق النووي مع إيران الذي كان نتاج مفاوضات متعبة، والآن قراره -الذي يعارضه مستشاروه البارزون (باستثناء صهره جاريد كوشنر)- الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو ما لا تقدم عليه أي دولة أخرى باستثناء إسرائيل قوة الاحتلال.
لقد كان التصويت الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي يدين ضمناً قرار ترامب -والذي أثار حفيظة السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة- توبيخاً شديداً لترامب. ولكن، ألم يعكس إنكاراً أعرض وأوسع للولايات المتحدة الأميركية المعاصرة؟ كان استطلاع حديث لمعهد بيو، والذي كان قد أجري قبل إعلان القدس، قد أظهر أن 49 % فقط من سكان العالم ينظرون نظرة إيجابية إلى الولايات المتحدة.
في الأثناء، يحاجج ترامب بأنه أضفى الصفة الرسمية على ما درجت عليه السياسة الأميركية منذ العام 1995، عندما مرر الكونغرس، تحت ضغط من اللوبي الإسرائيلي “قانون سفارة القدس”. ولم تكن تلك الخطوة تنطوي على مشكلة في داخل الولايات المتحدة؛ وفي نفس الوقت، قالت نسبة تقترب من 50 % من المواطنين الأميركيين لمستطلعي آراء الناخبين أنهم يعتقدون بأن “الله منح إسرائيل لليهود”. وهكذا، كان خليط من نفوذ اللوبي والاعتقاد المسيحي الإنجليكاني بالخرافة التوراتية والجهل التاريخي العام واللامبالاة العنصرية بمحنة شعب تعرض للقمع والإذلال، وراء إنتاج ذلك التصويت في الكونغرس (374 في مقابل 37 في مجلس النواب، و93 في مقابل 5 في مجلس الشيوخ).
يعني ذلك أن هذا الاعتراف المنافي للعقل والمنطق بالسيادة الإسرائيلية على كل القدس، بما في ذلك -كما يفعل بالضرورة- شن هجوم مفتوح على الحقوق الفلسطينية، ليس مجرد عمل أخرق آخر من ترامب فحسب. إنه في الحقيقة نتيجة طبيعية للثقافة الإمبريالية الأميركية.
كانت رئاسة أوباما قد أظهرت كيف يستطيع زعيم الاستمرار والتوسع في هجوم سلفه على الشرق الأوسط أن يحافظ على تصنيف محلي عالٍ، والتمتع باحترام قادة الدول الحليفة مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا. وإذا كان باستطاعتنا تصديق الاستطلاعات -حتى قبولاً إيجابياً بشكل عام من شعوب العالم.
لكن رئاسة ترامب تظهر كيف يستطيع زعيم يبقي على نهج سلفه في أفغانستان والعراق -وحتى في سورية إلى مدى كبير (هذه الانخراطات ودعم إسرائيل مع الركوع لها كونها المصدر الرئيسي للكراهية العالمية للولايات المتحدة)، كيف يستطيع أن يحظى بدعم ثلث الشعب الأميركي فقط. وهذا يعود إلى جهله المطبق وتعصبه الديني وتهريجه العام. ويظهر أيضاً أن هناك حدوداً لاحترام الحلفاء الغربيين. فقد كان لدى أنجيلا ميركل وتيريزا ماي وإيمانويل ماركون كلمات قاسية عن المناخ وإيران والتجارة والهجرة والإسلام وتهديدات كوريا -والآن القدس.
هذا جيد، فالتفكك في التحالف غير العملي الذي يدعى الناتو، التحالف المعادي للروس والذي سعت إدارات أميركية متعاقبة إلى توسيعه وأصبح الآن في ظل ترامب يضم مونتينغرو، يستطيع الآن أن يكون إيجابياً.
دعوا شركاء واشنطن الإمبرياليين الحاليين يستنتجون أن الولايات المتحدة لا تستطيع قيادة العالم نحو وجهة تفيدهم. دعوهم يستنتجون أن قرار القدس غير العقلاني وغير المنطقي، والذي يستطيع إفراز المزيد من العنف، هو القشة الأخيرة. ودعوا الشعوب الأوروبية تدرك أن أزمة اللجوء في أوروبا هي من ثمار التدخلات الأميركية في أفغانستان والعراق وسورية وليبيا، والتي لم يكن لها معنى. دعوهم يدركون أن دفع واشنطن باتجاه ضم أوكرانيا إلى الناتو من خلال انقلاب شباط (فبراير) 2014 قد دفع موسكو إلى ضم القرم، وأن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا تدمر الاقتصادات الأوروبية. دعوهم يدركون أن التمارين العسكرية في أوروبا الشرقية والموجهة أميركياً هي استفزازات مكلفة ولا حاجة إليها. ودعوهم يعيدون التفكير في كل العلاقة مع القوة الأكثر دموية في العالم المعاصر، والتي تحتفل عملياً بشهوة سفك الدم الإسرائيلية من دون تفكير في التداعيات.
دعوا الروس والصينيين والهنود والبرازيليين والجميع في كل مكان يفهمون أن الولايات المتحدة لا يجب أن تكون، ولا تستطيع أن تكون، ما تتظاهر راهناً بعنجهية بأنها تمثله: أنها قائد العالم والمثال الأخلاقي. بل إنها وحش كاسر في طور الانحدار والانكفاء، وكيان فاسد بلا رجاء وظالم في الأساس. وأنها، على الرغم من ثروتها الهائلة وقوتها العسكرية الضارية، غير قادرة على السيطرة على مسار التطورات العالمية -أو حتى التنمر على أقرب حلفائها ودفعهم إلى الطاعة.
لم يكن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 21 كانون الأول (ديسمبر) الماضي مجرد رد على إعلان أحمق لرجل وحسب، بل إنه أيضاً رد متأخر على كل هذا القدر الكبير من الإرهاب الذي ترتكبه ما وصفها مارتن لوثر كينغ في العام 1967 بأنها “أعظم متعهد للعنف في العالم”. وكان ذلك العالم خاضعا لسيطرة القوتين العظميين مع تحالفات حازمة وراءهما. أما هذا العالم، فتحكمه فوضى أنتجها مهيمنٌ محتمَل، والذي يقوم بتنفير الحلفاء، وأشباه الحلفاء، والأصدقاء من غير الحلفاء والأعداء المعلَنين على حد سواء.
إن الرئيس، وفق تقييم وزير خارجيته، هو شخص مغفل: فهو لا يعرف شيئاً عن التاريخ. وبينما يتجاهل التفاصيل الخاصة بالسياسة الخارجية والمحلية، فإنه ينزل عند مطالب إسرائيل غير آبه بالعواقب. وفي ظل إدارته، طالما استمرت، سوف تتراجع الولايات المتحدة أكثر كقوة عالمية. وسوف تكون أميركا “عظيمة” مرة أخرى من خلال نمو اقتصادي يتجاوز الجماهير، وعبر توسع عسكري لا ينجز أي شيء سوى المزيد من الغضب والسخط العالمي. ثم، مثلما حدث مع إسبانيا وهولندا والمملكة المتحدة واليابان من قبل، سوف تذبل الولايات المتحدة بينما يتوسع اقتصاد الصين بلا توقف، بينما تظهر أوراسيا كأكبر سوق ديناميكية مشتركة في العالم.
يبدو أن دور ترامب التاريخي غير المقصود هو المساعدة إيجابياً في دفع هذا التداعي. وما أعلنه الرئيس على أنه “مقاربة جديدة للنزاع بين إسرائيل والفلسطينيين” و”خطوة مستحقة منذ وقت طويل للتقدم بعملية السلام وللعمل باتجاه تحقيق اتفاقي دائم” هو في الحقيقة خطوة أخرى نحو أسفل المنحدر.
غاري ليوب
صحيفة الغد