تواجه حركات الاحتجاجات في الشرق الأوسط عقبات قمعية هائلة، ونادراً ما تنتهي إلى نهايات سعيدة. وحتى عندما “ينجح” المتظاهرون في الإطاحة بمستبد، فإنهم نادراً ما ينجحون في إنهاء الاستبداد.
في إيران، تبدو العقبات التي تحول دون تحقيق النجاح مرعبة. ففي حين أن معظم دول الشرق الأوسط يحكمها مستبدون علمانيون يركزون على قمع المعارضة الإسلامية في المقام الأول، فإن إيران هي أوتوقراطية إسلامية تركز على قمع المعارضة العلمانية. ولا يبدو أن هذه الدينامية –وقوف هؤلاء المواطنين الذين يسعون إلى الكرامة الاقتصادية والتعددية عُزّلاً، بلا تنظيم وبلا قيادة، في مقابل ثيوقراطية حاكمة منظمة وضارية ومدججة بالسلاح وتعتنق مبدأ الشهادة- لا يبدو أنها تشكل وصفة للنجاح.
مع ذلك، وعلى خلفية هذه الخلفية القاتمة، كانت احتجاجات إيران المناهضة للحكومة التي انتشرت مثل الفطر -وإن كانت أصغر بكثير من نطاق انتفاضة البلاد في العام 2009- غير مسبوقة في نطاقها الجغرافي وشدتها. فقد بدأت يوم 28 كانون الأول (ديسمبر) في مشهد، مدينة الحج الشيعية التي لطالما اعتُبرت معقلاً للنظام، حيث ردد المتظاهرون شعارات مثل “دعوا سورية وشأنها، وفكروا فينا”. وسرعان ما انتشرت إلى قُم، المدينة الأقدس في إيران، حيث أعرب المتظاهرون عن الحنين إلى عصر رضا شاه، المستبد والمحدِّث في القرن العشرين الذي قمع رجال الدين بلا رحمة. واستمرت هذه الاحتجاجات في مدن المحافظات، حيث كان الآلاف يرددون “لا نريد جمهورية إسلامية” في نجف أباد؛ و”الموت للحرس الثوري” في رشت؛ و”الموت للديكتاتور” في خرم أباد. وانتشرت التظاهرات بعد ذلك إلى طهران نفسها، وتم اعتقال المئات، وفقاً لما ذكرته هيئة الإذاعة البريطانية نقلاً عن مسؤولين إيرانيين.
أما السبب الذي أطلق هذه الاحتجاجات، فهو موضوع نقاش –حيث تشير بعض الأدلة إلى أنها تلقت التشجيع في البداية من القوى المتشددة في إيران بهدف إحراج الرئيس حسن روحاني. لكن ما أثارها في الغالب هو نفس المظالم التي تُمِد الحركات المناهضة للحكومة بالطاقة في كل مكان: ارتفاع تكاليف المعيشة، والفساد المزمن، والاحتيال، وسوء الإدارة. وفي إيران، تُمكن إضافة ذلك المزيج المرير من القمع السياسي والاجتماعي على حد سواء، وكلها شؤون تنبع من القاعدة الأخلاقية للثيوقراطية الإسلامية.
على الرغم من أن هذه المظالم كانت تتقلب تحت السطح لسنوات -بل ولعقود في واقع الأمر- يبرز “الهاتف الذكي” من بين عشرات العوامل التي تميز احتجاجات اليوم عن نظيرتها في العام 2009. ففي العام 2009، عندما احتج ما يقدر بنحو 2 إلى 3 ملايين إيراني بصمت في طهران، كان أقل من مليون إيراني يمتلكون مثل هذا الجهاز، وعدد قليل منهم خارج طهران. أما اليوم، فيعتقد بأن عدداً مدهشاً هو 48 مليون إيراني يمتلكون الهواتف ذكية، وجميعها مزودة بوسائط التواصل الاجتماعي وتطبيقات التواصل. ويُعتقد بأن نحو 40 مليون شخص يستخدمون تطبيق “تيلغرام” وحده، وهم بعيدون عن سيطرة الحكومة، وإنما ليسوا في مأمن من إغلاق للاتصالات إذا حاولت طهران خنق الإنترنت.
في حين أن لدى الإيرانيين فهماً أفضل بكثير لكيفية عيش الناس في الأماكن الأخرى، فإن لدى بقية العالم فكرة أقل وضوحاً عن كيفية عيش الإيرانيين، نظراً لتشويه طهران الفعال للتغطية الإعلامية الغربية. ومنذ العام 2009 -وحتى قبل ذلك- كان الصحفيون المهنيون المحترفون الذين يغطون إيران، بما في ذلك فارناز فسيحي من صحيفة “وول ستريت جورنال”، ونضيلة فتحي في صحيفة “نيويورك تايمز”، ومزيار باهاري من مجلة “نيوزويك”، وباريزا حفيظي من “رويترز”، وباباك دغانبيشه، وعشرات الآخرين، قد تعرضوا للتخويف والطرد، والسجن في بعض الحالات. ويعيش الصحفيون المتبقون في إيران مع القلق على سلامتهم الشخصية. كما أن العديد من أفضل الكتاب والعلماء والفنانين الإيرانيين من جيلهم تعرضوا للنفي من إيران أيضاً.
في الوقت نفسه، وفَّر النظام تأشيرات الدخول لمن يعرف أنهم سيقدمون تغطية إخبارية أكثر وديّة. وكان وزير الخارجية جواد ظريف فعالاً بشكل خاص في استغلال الصحفيين والمحللين والمسؤولين الغربيين. وقد خلق هذا الوضع مساحة لسلالة جديدة من صحفيي الرأي والمحللين -الذين يسعى البعض منهم في الوقت نفسه إلى تعزيز فرص أعمالهم في إيران- ويخففون من لهجة الانتقاد للحفاظ على وصولهم.
ما الذي يَحدُث الآن؟
لدى الحكومة الإيرانية سجل معدل الإعدامات الأعلى بالنسبة لحصة الفرد في العالم، وهي تعامل المرأة كمواطنة من الدرجة الثانية، وتضطهد المثليين والأقليات الدينية، وتخنق حرية التعبير. وفي حين أن هناك ميلاً طبيعياً بين الناس المحترمين في كل مكان إلى أن يشهدوا نجاح حركة سلمية للحقوق المدنية في إيران، فإن هناك الكثير من الأسباب التي تدعو إلى الاعتقاد بأن مثل هذه الحركة لن تنجح. فمؤسسات النظام القهرية –قوات الحرس الثوري وميليشيا الباسيج- منظمة ومسلحة ووفيرة، ومتمرسة جيداً في علم القمع الوحشي. في حين أن المعارضة للحكومة، على النقيض من ذلك، غير مسلحة، بلا قيادة، وبلا دفة. وبالإضافة إلى ذلك، لدى إيران عشرات الآلاف من رجال الميليشيات الشيعية تحت تصرفها -بما في ذلك حزب الله اللبناني- الذين كانت ترعاهم منذ سنوات، وفي بعض الحالات منذ عقود. وبالنسبة لهذه القوات المتمرسة في القتال، فإن سحق المتظاهرين الإيرانيين العزل هو مهمة أسهل بكثير من محاربة الثوار السوريين أو الجهاديين السُّنة.
بينما أعرب البعض عن الأمل في أن تجبر هذه الاحتجاجات الحكومة الإيرانية على محاولة مخاطبة المظالم الشعبية، فإن التاريخ يُظهر أن العكس هو الصحيح على الأرجح. وفي الأسابيع والأشهر القادمة، يجب أن يتوقع المرء من النظام أن يصبح أكثر قمعية باطراد. وعادة ما تزدهر قوات الأمن الإيرانية عندما يكون هناك انعدام للأمن. بل إن بعض الإيرانيين يخشون أن تكون قوات الحرس الثوري قد سمحت للمتظاهرين بالازدياد حتى تستخدم ذلك ذريعة لتوسيع سلطتها باسم الأمن القومي.
ما الذي يمكن أن تفعله الولايات المتحدة؟
من الطبيعي أن تستدعي الثورات الشعبية ضد نظام شعاره الرسمي “الموت لأميركا” دعماً قوياً من الساسة الأميركيين. والسؤال الآن، كما كان دائماً، هو: ما الطريقة البناءة أكثر ما يكون، والتي تستطيع بها واشنطن أن “تدعم” مثل هذه الاحتجاجات؟ في أعقاب حرب الخليج في العام 1991، جاء تشجيع الرئيس جورج بوش الأب الشائن للشيعة العراقيين على الثورة ضد صدام حسين. وعندما فعلوا ذلك تعرضوا للذبح، وتوجه الغضب العالمي إلى بوش أكثر من صدام. وفي العام 2009، عرضت إدارة أوباما دعماً فاتراً فقط للـ”الحركة الخضراء” في إيران، وهو موقف وصفته هيلاري كلينتون لاحقاً بأنه كان أكثر شيء ندمت عليه كوزيرة للخارجية.
ما الذي يجب على القادة الأميركيين أن يفعلوه إذن؟ بينما تكون التعبيرات المصاغة بعناية للتضامن مع الناس –وإنما ليس التحريض- جيدة مبدئياً، بالنظر إلى نفوذ واشنطن الضئيل على طهران، فسوف يكون لمثل هذه التصريحات على الأرجح تأثير محدود فقط (على النقيض من التصريحات الرسمية عن الأنظمة الاستبدادية التي للولايات المتحدة نفوذ حقيقي عليها، مثل نظام مبارك في مصر). ولعل الأمر الأكثر أهمية من التصريحات العامة هو السياسات الأميركية التي يمكن أن تكبح قدرة النظام القهرية وإمكانية قيامه بتعتيم وقطع الاتصالات.
أحد الاقتراحات الملموسة هو إيضاح أن الشركات والبلدان في جميع أنحاء العالم التي تتواطأ مع مؤسسات إيران القمعية –بما فيها تلك التي تقدم تقنية الرقابة التكنولوجية- سوف تواجه التوبيخ والعقاب من الولايات المتحدة. كما يجب على الولايات المتحدة أن تقوم أيضاً بتحشيد الشركاء الدوليين الذين لديهم علاقات عاملة مع إيران –بمن فيهم أوروبا، واليابان، وكوريا الجنوبية والهند- لإضافة أصواتهم في التعبير عن القلق والإدانة لقمع طهران. وكانت رئيسة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، فيدريكا موغيريني، صامتة بشكل ملحوظ.
بالنظر إلى غموض النظام الإيراني وعدم إمكان الوصول إليه من أجل إجراء تحقيق مستقل، فإن الأيام والأسابيع المقبلة لا يمكن التنبؤ بها على الإطلاق. ويبدو خامنئي وحراسه من الحرس الثوري الإيراني متخندقين بقوة لدى النظر إليهم من على بعد آلاف الأميال، ولكننا نعرف أيضاً من التاريخ أن الاستقرار الاستبدادي يمكن أن يكون وهماً. ففي آب (أغسطس) 1978، قدّرت وكالة المخابرات المركزية الأميركية بثقة أن الملكية البهلوية في إيران “ليست في وضع ثوري -أو حتى قبل ثوري”. وبعد خمسة أشهر، غادر الشاه -الذي أصيب بسرطان متقدم من دون أن تعلم بذلك حتى أسرته- لتكون مغادرته بلا عودة. وكانت صحة خامنئي مصدراً للتكهنات الكثيرة لسنوات، لكنه تم كتم حقيقتها باعتبارها سراً من أسرار الأمن القومي.
كان الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي يحب أن يقول: “أنا متشائم بسبب الذكاء، وإنما متفائل بسبب الإرادة”. وتعرض ألفان وخمسمائة سنة من الحضارة الفارسية وسعي بطول قرن من أجل الديمقراطية الأمل في نجاح الإرادة الإيرانية التي لا يمكن كبحها من أجل التغيير. لكن تاريخ الجمهورية الإسلامية الذي دام أربعة عقود من الوحشية يشير إلى أن التغيير لن يأتي بسهولة، ولن يكون سلمياً، أو قريباً.
كريم سادادبور
صحيفة الغد