كان من المقرر أن يقوم نائب الرئيس الأمريكى مايك بنس بزيارة إلى القاهرة فى الشهر الماضى، إلا أنه قد تم تأجيلها إلى منتصف الشهر الحالى. وقيل وقتها فى تبرير تأجيل هذه الزيارة أن هناك تصويتا فى الكونجرس الأمريكى يقتضى وجود نائب الرئيس. إلا أن الجميع كان يعلم أن السبب الحقيقى وراء تأجيل هذه الزيارة هو ما استشعره الجانب الأمريكى، وبعد إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها، من أن الأجواء العامة فى المنطقة لم تكن مواتية لإتمام مثل هذه الزيارة. ورغم الإعلان عن موعد جديد للزيارة، إلا أنه قد تم الإعلان أخيرا أيضا عن تأجيلها وللمرة الثانية، ودون تقديم أى مبرر أو تحديد موعد لاحق لها. فهل كان موضوع القدس وحده سبب تأجيل هذه الزيارة مرتين؟ أم أن هناك أسبابا أخرى كانت وراء قرار إلغاء هذه الزيارة وليس فقط تأجيلها؟ وأخيرا كيف يؤثر إلغاء الزيارة على مجمل العلاقة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية؟
بداية، يجب أن نعود لعنوان المقال، وهو زيارة بنس التى كان من المفترض أن تتم هذا الشهر، وما تم تداوله من أنباء من أن نائب الرئيس الأمريكى كان يعتزم إثارة موضوع الأقباط المصريين أثناء زيارته للقاهرة. وقد تواكب ذلك أيضا مع مشروع القرار الذى قدمه ٦ من أعضاء الحزبين الجمهورى والديمقراطى فى الكونجرس بعنوان «القلق من ازدياد الهجمات الإرهابية على المسيحيين فى مصر». ويطالب هذا المشروع بربط المعونة الأمريكية لمصر باتخاذ القاهرة لخطوات لضمان المساواة وإنهاء تهميش المسيحيين فى المجتمع المصرى. وقد أثار هذا الأمر ردود فعل سلبية للغاية، وعن حق، لدى العديد من الفئات والأوساط المصرية، وعلى رأسهم الأقباط أنفسهم. وتم اعتبار مشروع القرار تدخلا غير مشروع وغير مقبول فى الشأن الداخلى المصرى. من جانب آخر، فقد ربط آخرون بين طرح مشروع هذا القرار والموقف المصرى من موضوع القدس، حيث اعتبروه «عقابا» لمصر على تصويتها فى مجلس الأمن ضد قرار واشنطن بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
ولا شك أن تزامن هذين الحدثين، الموقف المصرى من الاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل وإثارة موضوع المسيحيين فى مصر، يثير العديد من علامات الاستفهام والشك حول نوايا واشنطن وتوجهاتها نحو مصر والمنطقة. فهذه ليست المرة الأولى أو الثانية التى تشهد فيها العلاقات المصرية الأمريكية أزمة كبيرة منذ أن دخل دولاند ترامب إلى البيت الأبيض. فقد سبق الأزمة الحالية قرار تخفيض وحجب جزء من المعونة الأمريكية المقدمة لمصر، كما شهد الكونجرس الأمريكى جلسات استماع تنتقد فيها الأوضاع فى مصر. هذا فضلا عن العديد من الأزمات الأخرى «المكتومة» مثل الموقف من قانون الجمعيات الأهلية المصرية، أو الموقف من بعض القضايا المعروضة على القضاء المصرى ويمثل أمامها مواطنون أمريكيون أو ممن يحملون الجنسية المصرية الأمريكية المزدوجة.
هذا، وقد كتب الكثير أثناء كل أزمة، ولكن دون ربط هذه الأزمات بعضها ببعض، وكأن كل أزمة قائمة بحد ذاتها، ولا تعبر عن نهج واحد فى التعامل مع مصر، سواء كان لدى الإدارة أو لدى الكونجرس الأمريكى. وكان يتم اختزال الأمر فى كل مرة بأحد أمرين؛ إما أن هذا الموقف الأمريكى ناجم عن سوء فهم لحقيقة الأوضاع فى مصر، وبالتالى فإن كل المطلوب هو إعادة شرح وتوضيح لحقيقة الأمور لدى الجانب الأمريكى. أو الأمر الثانى، وهو المؤامرة الدولية التى تحاك ضد مصر وتمثل الولايات المتحدة أحد أركانها الرئيسية. ولا شك أن لكل من هذين الرأيين من الحجج والأدلة ما يدعم بها وجهة نظره، وسواء كان الأمر فعلا سوء فهم أو سوء نية، فإن ذلك لا يستقيم مع حالة التفاؤل الشديدة والأمال العريضة التى صاحبت وصول الرئيس الحالى إلى سدة الحكم. ولكننا بدلا من أن نرى تعزيزا للعلاقات بين الدولتين، فقد رأينا سلسلة من الإخفاقات والأزمات التى ما كانت متوقعة أو منتظرة من الذين رحبوا بقدوم ترامب، وكأننا الآن نتعامل مع رئيس مختلف عن الرئيس الذى سبق وأن احتفلنا بقدومه، وكأن القرارات الأمريكية الأخيرة وما كان نائب الرئيس الأمريكى ينوى من إثارته أثناء زيارته التى لم تتم، لا يتفق مع السياق العام الذى جاء بترامب وبنس إلى سدة الحكم فى واشنطن، وتم التغافل أو التعامى عنها من جانبنا لأسباب مختلفة.
يعزى الذين تفائلوا خيرا بترامب وإدارته أن ما تشهده العلاقة المصرية الأمريكية من أزمات وخيبة أمل إلى التحقيقات التى يتعرض لها الرئيس الأمريكى حول علاقته هو شخصيا أو حملته الإنتخابية بروسيا. وأن ذلك يدفع ترامب إلى الارتماء فى أحضان اليمين المسيحى المتطرف واللوبى الصهيونى والخضوع لابتزاز العديد من جماعات الضغط الأخرى. وبالتالى كان قرار القدس ومن قبله قرار الكونجرس حول المعونة لمصر. وكأن ذلك لم يكن مبيتا أصلا، أو أن ترامب وبنس لا يمثلون بالأساس أقصى اليمين المسيحى المتطرف. ورغم تبنى ترامب لخطاب عنصرى شديد الكراهية للمسلمين والعرب والأمريكيين الأفارقة ومن ذوى الأصول اللاتينية، إلا أن البعض فضل التعامى عن كل ذلك مركزا فقط على عداء ترامب للإدارة السابقة وتعهده بتغيير سياساتها. ولم ينظر هؤلاء لمجمل خطاب ترامب وتوقع قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أو أن يسعى نائبه لإثارة موضوع الأقليات المسيحية فى المنطقة. وأن هذين الموضوعين سالفى الذكر يعبران بصدق عن توجهات ترامب الفكرية وقاعدته الانتخابية بصرف النظر عن التحقيقات الجارية حاليا. ولذلك، وبعد أن كان ترامب الشخص الأكثر شعبية فى الإعلام المصرى حين تولى الحكم، أصبح اليوم الأكثر كراهية، وأصبحت الولايات المتحدة العدو الأول.
يدعونا ما تقدم، ليس فقط إلى إعادة النظر فى مواقف الرئيس ترامب وإدارته، ولكن إلى ضرورة إعادة النظر فى مجمل العلاقات مع أمريكا، وما إذا كان الرئيس ترامب يمثل ظاهرة عابرة تستقيم بعدها الأمور مع الرئيس القادم، أم أنه يعبر عن مواقف وسياسات أصبحت تمثل قناعات راسخة لدى قطاعات ومؤسسات داخل الولايات المتحدة تتعارض بشدة مع مصلحتنا الوطنية. وهو الأمر المنتظر حدوثه فى حال تولى مايك بنس نائب الرئيس الأمريكى لمقاليد الحكم فى واشنطن حيث أنه مرشح بقوة لخلافته. فماذا نحن فاعلون؟ هل ننتظر الإدارة القادمة لعل وعسى أن تكون أكثر تقاربا وتفهما لمواقفنا؟ وهو ما فعلناه سابقا مع إدارة بوش الابن ثم إدارة أوباما، أم نبدأ فى فهم الواقع الأمريكى على حقيقته ودون التعلق بأى أوهام أو تمنيات ومع ما يقتضيه ذلك من إعادة تحديد أولوياتنا وسياستنا الخارجية ومعرفة الأصدقاء من الأعداء، ولهذا حديث آخر.
علاء حديدي
صحيفة الشروق