ذهبت خلافة “داعش” التي طالما تبجح بها التنظيم، وسحقتها قوة الطائرات الحربية الروسية والسورية والأميركية والمليشيات المدعومة إيرانياً، والقوات الكردية والجيوش التي حشدتها كل من دمشق وبغداد. ولكن، في حين أن العام 2017 ربما شهد نهاية حلم ما يدعى “الدولة الإسلامية” بالحكم برؤيته المشوهة للمجتمع المثالي، فقد انتهى العام بعلامة مشؤومة على أن حملة التنظيم الدولية المميتة ضد العديد من الناس والأديان الذين يراهم أعداء روحيين، قد جمعت زخماً جديداً.
ففي يوم الخميس، 30 كانون الأول (ديسمبر)، قتل العشرات من المدنيين في العاصمة الأفغانية، كابول، في هجوم انتحاري استهدف مركزاً ثقافياً شيعياً. وكان هذا الهجوم هو الأحدث من هجمات مستمرة يشنها تنظيم تابع لـ”داعش”، الذي أثبت أنه عنيد على الرغم من مواجهة حملة غير متوقفة ضده في الأشهر الأخيرة.
ووفق المنفذ الإخباري “أعماق” المرتبط بـ”داعش”، فقد وقعت ثلاثة تفجيرات في المجمع الذي يؤوي أيضاً وكالة للأنباء. ثم فجر الانتحاري حزاماً ناسفاً كان يرتديه في المركز الثقافي “تبيان”. وقتل نتيجة ذلك 41 شخصاً على الأقل، بينما جُرح 90 آخرون.
ووقع الهجوم على الرغم من حملة مكثفة تشنها الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية لاجتثاث التهديدين التوأمين من “داعش” وحركة طالبان، خاصة بعد تولي دونالد ترامب الرئاسة في البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) من العام قبل الماضي. وولّد توجيه ضربة داخل العاصمة الأفغانية، على الرغم من التصعيد في الإجراءات الأمنية والعسكرية، مخاوف أيضاً من استمرار قدرات المجموعة، حتى مع انهيار “الخلافة” التي أسستها في السابق في العراق وسورية.
في نيسان (أبريل) الماضي، ذهبت الولايات المتحدة إلى حد إلقاء “أم كل القنابل” على قاعدة تابعة لـ”داعش” في أفغانستان، في إشارة إلى ضراوة الحملة ضده. لكن هذه الحملة غير المتوقفة فشلت في اجتثاثه. وفي الأشهر الأخيرة، أشار خبراء ومسؤولون إلى نجاح جهد التنظيم التابع لـ”داعش” في زرع جذور له داخل العاصمة، مع تجنيد العشرات من الأعضاء المحليين، بمن فيهم أطفال.
في أفغانسان، استطاع “داعش” أن يفعل الكثير جداً بالقليل جداً. وفي ليبيا، على سبيل المثال، كان للمجموعة مئات من المقاتلين المحليين الذين قست قلوبهم المعارك، مع خبرة تمتد وراء إلى الأعوام المبكرة من حرب العراق، والذين لعبوا دوراً محورياً في الجهود المبكرة التي بذلها “داعش” في سورية في العام 2014، لكن حظوظه تضاءلت في العامين الماضيين.
لكن تراجع التنظيم في المناطق ربما يفاقم تمردات أخرى، إذا ملأ المتشددون الصفوف في المنظمات التابعة في البلدان الأخرى.
على النقيض من ذلك، يواجه فرع التنظيم في أفغانستان منافسة من متشددي طالبان المنبعث مجدداً، والذين لهم روابط أعمق مع البلد. لكنه استطاع مع ذلك تعميق حضوره. وتؤشر الضربة الأخيرة في داخل العاصمة على أن المجموعة تطورت بنجاح من منظمة تقاد من الخارج إلى واحدة تصبح أكثر محلية على نحو متزايد.
وبالإضافة إلى استمرار هذه المنظمة في أفغانستان، فإن طبيعة هجوم يوم الخميس المذكور تشكل نذيراً بما سيأتي، بالنظر إلى أن “داعش” آخذ في خسارة خلافته في العراق وسورية. وفي بيانه عن الهجوم، ادعى المنفذ الإعلامي لـ”داعش” بأن المركز الثقافي كان يتلقى التمويل من إيران التي تدفع رواتبه وترعاه. وقال البيان: “إن هذا المركز واحد من أكثر المراكز النشطة في الدعوة إلى التشيع في أفغانستان”، كما أضاف البيان أنه “يتم إرسال الشباب الأفغان إلى إيران ليتلقوا دراسات أكاديمية على أيدي رجال دين إيرانيين”.
وكان “داعش” قد سعى إلى تنصيب نفسه مدافعاً عن السنة في عموم المنطقة، ويهدف انتقاء عباراته في بيانه إلى تأكيد هذه الرسالة. ويرجح أن تكون الثيمة الطائفية هي التركيز الرئيسي للمجموعة في الأعوام المقبلة، فيما هي تتراجع من خلافة إلى حركة تمرد. ويساعد السرد الطائفي المجموعة على تقديم “أيديولوجية متواصلة” من أفغانستان إلى سورية، مكان الخلافة التي تبدو أنها فقدتها. ورسالتها إلى أتباعها هي أن ضحايا هجومها كانوا جنوداً محتملين في الجيش الذي تشكله إيران في كل مكان.
بعرض نفسه على أنه آخر خط للدفاع ضد إيران، سوف يضمن “داعش” أن تكون لعملياته المحلية ثيمة إقليمية عامة، حتى مع أنه خسر خلافته العالمية. وكانت هذه الثيمة تتردد منذ صعوده في العام 2014، لكن التنظيم يركز بازدياد على الطائفية -وليس ضد الشيعة وحسب، وإنما أيضاً ضد المسيحيين والأقليات الدينية الأخرى.
وكان هجوم المجموعة في داخل إيران في حزيران (يونيو) الماضي يهدف إلى تحقيق هذا الهدف، كما أن الهجمات التي تصورها على أنها موجهة ضد مصالح إيرانية، مثل ذلك الذي نفذ في كابول، تخدم غاية مماثلة. وبفعله ذلك، يسعى “داعش” إلى دخول سوق لا يستطيع حتى القاعدة ولا طالبان منافسته فيها بالعزم نفسه، نظراً لأنهما يميلان إلى التركيز على كفاح أقل طائفية نسبياً في خطابهما. وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، قتل مفجرون انتحاريون مرتبطون بالتنظيم 57 مصلياً في مسجد شيعي في كابول.
يصنع تركيز “داعش” على الطائفية منه أكثر إثارة للمشاكل في البلد والمنطقة الأوسع. وقد أعلن التنظيم غداة هجوم كابول مسؤوليته عن هجوم على كنيسة في القاهرة، والذي أسفر عن مقتل دزينة من الأشخاص، وكان واحداً من عدة هجمات استهدفت مدنيين وكنائس قبطية في البلد في الأعوام الأخيرة.
الدرس الذي نستخلصه من هذه الهجمات هو أن المجموعة الإرهابية ما تزال تستطيع أن تكون مميتة، بغض النظر عن انكماشها في العراق وسورية. وفي الحقيقة، قد يؤذن تراجعها المناطقي بتفاقم حالات التمرد في أماكن أخرى إذا استطاع المتشددون أن يهربوا بأمان من ساحات المعارك لملء الفراغات التي تكون قد شغرت في صفوف التنظيمات التابعة في بلدان أخرى. وكانت تقارير تحدثت عن هروب المتشددين من الخلافة المنهارة قد طفت على السطح مؤخراً.
على سبيل المثال، أوردت وكالة الصحافة الفرنسية (أجانس فرانس بريس)، في وقت مبكر من الشهر الماضي، أن مقاتلين فرنسيين وجزائريين سافروا إلى أفغانستان من سورية للانضمام إلى فرع “داعش” هناك. وسُجلت اتجاهات مشابهة في مصر وليبيا. كما حذر مسؤول في الاتحاد الإفريقي في الشهر الماضي من أن الكثيرين من نحو 6.000 مقاتل الذين كانوا قد سافروا إلى سورية في العام 2014 قد يعودون إلى أوطانهم.
سيكون باستطاعة هؤلاء المقاتلين تغذية وإنعاش حركات التمرد المنتشرة في عموم المنطقة بطريقة لم يستطيعوها عندما كان تركيز المجموعة منصباً على مركزها في العراق وسورية. وقد ظل حجم فروع “داعش” التي ظهرت محدوداً بينما ضعف بعضها لأن تجمع المتشددين كان صغيراً. والآن، من الممكن أن يتغير هذا الوضع، نظراً لأن المقاتلين السابقين شقوا طريقهم من سورية والعراق متجهين إلى بلدان في المنطقة؛ حيث من الأسهل عليهم الالتحاق بتنظيمات تابعة موجودة، مقارنة بسفرهم إلى أوطانهم الأصلية، مثل أوروبا وبريطانيا. والمعروف أن المجموعة تنتعش على الاستقطاب؛ حيث تشكل لها الأقليات الدينية أهدافاً ناعمة لجعل الناس ينقلبون على بعضهم بعضاً.
تمكن هذه الأهداف “داعش” من إعادة قولبة نفسه كمعارض لتنظيم القاعدة وغيره من المجموعات الإسلامية الأخرى. وبالإضافة إلى الركود السياسي والنزاعات المستمرة، سوف تستمر الطائفية في تزويد المجموعة بفرص النمو في منطقة تشهد انقسامات أعمق في غمرة الدور المتزايد لإيران في الشرق الأوسط.
تأمل المجموعة في أن تتمكن روايتها من الاحتفاظ بقبولها بين أولئك الذين يرون في إيران مغتصباً لأراضيهم والقوة الطائفية المهيمنة في المنطقة. وقد يخفف الأفول المناطقي للخلافة من التهديدات ضد الغرب. أما بالنسبة للمنطقة المباشرة، وحيث يستطيع التحرك بسهولة أكثر، فسوف يستمر “داعش” في استغلال الانقسامات المجتمعية والركود السياسي لإعادة رص صفوفه وتكريس نفسه من جديد.
حسن حسن
صحيفة الحياة اللندنية