شملت المقررات اعتبار الفترة الانتقالية التي نصت عليها الاتفاقيات الموقّعة في أوسلو والقاهرة وواشنطن منتهية بما انطوت عليه من التزامات لم تعد قائمة. وكلّف المجلس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بتعليق الاعتراف بإسرائيل إلى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود عام 1967، وإلغاء قرار ضم القدس الشرقية ووقف الاستيطان. وجدّد قراره بوقف التنسيق الأمني بكل أشكاله، وبالانفكاك من علاقة التبعية الاقتصادية التي كرسها اتفاق باريس الاقتصادي، وذلك لتحقيق استقلال الاقتصاد الوطني، والطلب من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومؤسسات دولة فلسطين البدء في تنفيذ ذلك. ودعا المجلس المركزي إلى العمل على إسقاط قرار ترامب، وأكد أن الهدف المباشر هو استقلال دولة فلسطين، مما يتطلب الانتقال من مرحلة سلطة الحكم الذاتي إلى مرحلة الدولة، والتي تناضل من أجل استقلالها، وبدء تجسيد سيادة دولة فلسطين بعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967. وأكد على حق الشعب الفلسطيني بممارسة كل أشكال النضال ضد الاحتلال، وفقاً لأحكام القانون الدولي، والاستمرار في تفعيل المقاومة الشعبية السلمية ودعمها وتعزيز قدراتها.
ربما لم ينتبه المجتمعون إلى مضمون مقرّراتهم أو دلالاتها، وربما اعتقدوا أن السقف العالي للموقف السياسي ضد قرار ترامب سيغطي على تلك الدلالات، وقد يحجب الانتباه أيضاً عن خلوها من خطة عمل محددة، أو خريطة طريق واضحة ومتماسكة، لمواجهة الواقع الجديد الذي خلّفه القرار، علماً أن تلك كان يجب أن تمثل المهمة الأساس للمجلس في دورته السابقة.
بداية؛ كان يفترض أن تنتهي الفترة الانتقالية في اتفاقية أوسلو وأخواتها في العام 1999، ولا يوجد تفسير منطقي أو واقعي يشرح كيف صبرت القيادة في السلطة الوطنية ومنظمة التحرير والمجلس المركزي نحو عشرين عاما لرؤية الحقيقة الساطعة، والإعلان عنها، وذلك يمثل إدانة للقيادة، وتأكيدا لعجزها وجمودها، كما لخواء المجلس المركزي وفشله في القيام بدوره الرقابي. وعموماً، رفضت القيادة رؤية الحقيقة والإقرار بها، لأنها تفهم معناها ودلالاتها وتداعياتها، والأهم أنها ستكون مضطرّة للمراجعة ولاستخلاص العبر، والبحث عن وسائل أخرى غير المتبعة حالياً بكل ما ينطوي عليه من ثمن، بل أثمان شخصية وسياسية.
وقد كلف المجلس قيادة منظمة التحرير بتعليق الاعتراف بإسرائيل إلى حين الاعتراف بدولة فلسطينية ضمن حدود حزيران/ يونيو 67، وإلغاء قرار ضم القدس، ووقف الاستيطان، وهذا البند وحده كاف لفضح عجز الطبقة السياسية في المجلس والمنظمة وقيادة السلطة على حد سواء. فالمجلس لم يقرّر الحسم في الملف، وهرب من المسؤولية بإحالته على اللجنة التنفيذية، علماً أنه اتخذ منذ ثلاث سنوات قراراتٍ، وليس توصيات أو إحالات بوقف التنسيق الأمني، والتحلل من الاتفاقيات، ولم ينفَّذ منها شيء، غير أن المصيبة الكبرى تتمثل بمن اعترف بإسرائيل، من دون أن تعترف هي بالدولة الفلسطينية، أو حتى بحقّ الفلسطينيين في تقرير المصير، وإقامة دولتهم المستقلة. وفق القوانين والمواثيق الدولية ومن ارتكب تلك الخطيئة، وفاوض بسذاجة، وقصر نظر وأوصلنا إلى الواقع الحالي ما زال في السلطة، لا يقر بأخطائه، بل يعطي نفسه الحق بالتجريب من دون دفع الثمن الديمقراطي الملائم لخياراته الفاشلة.
ويمكن قول أمر مماثل عن اتفاق باريس الاقتصادي الكارثي، والذي كرّس تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي، ومنع أي فرص لقيام اقتصاد مستقل مناهض يؤسس (أو يقوّي) فرص التحول السياسي نحو الدولة السيدة المستقلة، وغني عن الذكر أن القيادة الحالية هي التي فاوضت للوصول إلى هذا الاتفاق البائس وقبلته، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فهي عاجزة بالضرورة عن اجتراح الحلول والسبل للتحلل منه، كما من الاتفاقيات والتفاهمات الأخرى التي وافقت عليها بسذاجة وقصر نظر، وتفريط في الحقوق الوطنية الفلسطينية.
وحتى فيما يتعلق بقرار ترامب الذي تمحور الاجتماع حوله، فإن الرفض القوي والحازم له لم يذهب إلى الحد الأقصى، أي دفن عملية التسوية كما شهدناها منذ “أوسلو”، واستغلال القرار لكسر الأواني، والتأكيد على أن الإدارة الأميركية غير نزيهة أو محايدة (لم تكن يوماً كذلك)، وبالتالي العمل الجاد للعودة إلى الأمم المتحدة، من أجل إيجاد آلية جديدة، لكن برعاية وإشراف كاملين من المنظمة الدولية، مع وضع بدائل أو خطط أخرى، في ظل صعوبة هذا الأمر، وحتى استحالته، على المدى المنظور. ولكن مع ضمان التمرّد على الرعاية الأميركية الحصرية، وإعادة الملف إلى مكانه الطبيعي في المنظمة الأممية.
أما التناقض، وحتى السذاجة وغياب الرؤية تجاه العملية برمتها، فتجسدت في الدعوة إلى التحول نحو الدولة المستقلة، وفق مقرّرات المجلس الوطني، وإعلان الاستقلال في العام 1988، علماً أن هذا الإعلان يمثل أحد التناقضات الكبرى في مسيرة القضية الفلسطينية، فهو بني على أسس قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 181 الذي على علاّته، وعلى الرغم من إشارته إلى دولة لليهود، إلا أنه دعا لقيام دولة عربية على 45% من أراضي فلسطين التاريخية. أما إعلان الاستقلال فقد قبل بدولة فلسطينية على 22% من أراضي فلسطين التاريخية وفق قرار مجلس الأمن 242، ومع القبول المبدئي بفكرة تبادل الأراضي، بعد ذلك بات حتى هذا الأمر هشا وقابلا للتفاوض والأخذ والردّ.
ونجد تناقضا آخر في دعوة المجلس المكررة والباهتة إلى تبني المقاومة الشعبية السلمية، ودعمها وتعزيز قدراتها، علماً أنها (المقاومة الشعبية) يتيمة معزولة (أسماها الرئيس محمود عباس مرة مقاومة محمود العالول) والقيادة لا تؤمن بها قولاً وفعلاً حسب اختبار الميدان، بينما القوة المعتبرة الأخرى، أي حركة حماس، تبدو مستلبة للعمل العسكري، وليست في وارد
المراجعة أو استيعاب أن ساحة المقاومة واسعة فسيحة ورحبة، ولا تقتصر على البندقية والصاروخ والنفق. وقد قاطعت الحركة اجتماع المجلس المركزي، وعلى الرغم من المبررات التي ساقتها، من قبيل عقده في رام الله تحت حراب الاحتلال، أو عدم عقد الإطار القيادي الأعلى لمنظمة التحرير، إلا أن السبب الحقيقي والجوهري يتمثل بجمود المصالحة في غزة، التي راهنت عليها قيادة يحيى السنوار وصالح العاروري في “حماس”، في نموذج أقرب إلى النموذج اللبناني الفاشل، وأعتقد جازماً أن قيادة الحركة السابقة كانت ستشارك في الاجتماع، ولو بكلمة لتأكيد الوحدة في مواجهة قرار ترامب، والدعوة إلى التوافق، وحتى طرح خطط عملية عن كيفية مواجهته سياسياً وميدانياً، بما في ذلك إعادة بناء المؤسسات، وتحديداً المجلس الوطني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.
عموماً، عبر المجلس المركزي، بحاضريه ومقاطعيه، عن حقيقة المشهد الفلسطيني الحالي، حيث بدا مترهلا منفصلا بعيداً عن الواقع، يراوح في المكان، وعاجزا عن استخلاص العبر واستنباط الحلول. أما “حماس” فبدت مستلبة للعمل العسكري، بشكله الأحادي المتضمن البندقية والصاروخ، مع أنها وقفت عاجزة هي الأخرى، على الرغم من رفع الصوت عالياً أمام قرار ترامب بشأن القدس، وحتى أمام إغلاق الحرم القدسي نفسه الصيف الماضي.
باختصار، وبمواجهة الوقائع السياسية والميدانية التى أفرزها قرار ترامب، يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام مهمتين صعبتين، إعادة بناء المؤسسات بشكل ديمقراطي تشاركي، وتلك هي الأسهل. أما المهمة الأصعب فتتمثل بصياغة استراتيجية وطنية جامعة، تستند إلى المقاومة الشعبية السلمية بأشكالها كافة، وتقطع مع ذهنية أو بالأحرى الذهنيتين اللتين وقفتا عاجزتين أمام قرار ترامب، ذهنية أوسلو – باريس المترهلة الهرمة والعاجزة، وذهنية العسكرة الجامدة والمستلبة لشكل واحد من أشكال المقاومة، على الرغم من أثمانه الباهظة والباهظة جداً، وعلى كل المستويات السياسية الاقتصادية الاجتماعية والأمنية.