في الوقت الذي يراقب العالم فيه ما إذا كان إيمانويل ماكرون سوف ينجح في إخراج فرنسا من سباتها الحكومي، لا بد أن نضع في الاعتبار أنه سوف يحتاج في بادئ الأمر إلى تجاوز بعض الدوائر والأوساط الراسخة في البلاد، أي الكادر النخبوي المثقف الذي يشرف على ويدير البيروقراطيات الفرنسية الأكثر أهمية، والتي يميل أتباعها إلى الاضطلاع بالأدوار القيادية عبر مختلف أنحاء الصناعات الفرنسية، وهم في غالب الأحيان يملكون أكبر الحصص في الوضع الراهن بالبلاد. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الأعمال والخدمات المصرفية.
وقال فرنسوا فيليروي دي غالهاو، محافظ البنك المركزي الفرنسي، في خطاب موجز ألقاه في نهاية العام الماضي: «لا تزال أوروبا تعاني من القدرات المصرفية المفرطة، والدمج العابر للحدود بات من الضرورات الملحة». وفي الولايات المتحدة، كما أشار، فإن المصارف الخمسة الكبرى تسيطر على نحو 40% من حصة الأسواق، في حين أن تلك النسبة لا تتجاوز 20% فقط في أوروبا.
وبكل تأكيد، فهو ليس الشخصية المصرفية الأولى التي تطالب بذلك. وقضية الدمج ضعيفة وواهنة بصفة عامة، ولكنها أضعف ما تكون داخل فرنسا، والطريقة التي طرح بها السيد دي غالهاو الأمر مؤخراً (وهو أحد المرشحين البارزين لتولي منصب المحافظ القادم للبنك المركزي الأوروبي) تكشف عن أوجه القصور المثيرة للإحباط من الطبقة البيروقراطية الفرنسية، والتي تهدد بالإطاحة بالإصلاحات التي شرع في تنفيذها الرئيس ماكرون.
نحن قاب قوسين أو أدنى من المستوى الذي يمكن للدمج المصرفي أن يحسن من الاستقرار المالي. فمن شأن المصارف في ظله أن تتمكن من تنويع المخاطر بصورة أفضل، وتولد الوفورات في الحجم والإنتاج، وتزيد من مستويات الكفاءة. وحيث إننا رفعنا من سلطات الرقابة والمساءلة على المصارف الكبيرة، فلا ينبغي علينا الخوف من مواجهة المشكلة «الأكبر من أن تفشل». فمن شأن الدمج المصرفي العابر للحدود أن يكفل التخصيص الأمثل للمدخرات نحو الاستثمارات الأكثر إنتاجية في أوروبا، ومن شأنه أيضاً العمل على تحسين موقف المصارف الأوروبية من حيث قدرات التنافسية العالمية.
ولكن المشكلة تكمن في أن التركيز المصرفي بوجه عام يزيد من مخاطر سيناريو «الأكبر من الفشل». وفي لمحة عابرة، يطيح السيد دي غالهاو بهذه الحجة مؤكداً أن اللوائح الجديدة الصادرة عن البنك المركزي الأوروبي قد تمكنت من حل المشكلة، إذ إن الإصلاحات التنظيمية قد قطعت شوطاً طويلاً على مسار التخفيف من المخاطر المحتملة، وهذا أمر صحيح. كما أن ارتفاع معدلات رؤوس الأموال، واختبارات الإجهاد، ووصايا البقاء، تساعد كثيراً بطبيعة الحال، ولكن ليس هناك ضمان راسخ ضد التهديدات الهيكلية.
وتعد قضية الدمج المصرفي واهنة للغاية عندما يتعلق الأمر بالجمهورية الفرنسية. إن أبرز ما يميز المصارف الفرنسية هو النخبة المحتكرة. ويستفيد أكبر المصارف الفرنسية من ضمانات «الأكبر من الفشل» والتي تعمل مثل الإعانات الضمنية غير المعلنة.
وجاء في تقرير صدر عام 2016 بعنوان «التخلص من رفاهية الشركات لصالح المصارف الفرنسية» عن مؤسسة «جينيرالسيون ليبر» الفرنسية المعنية بأبحاث الأسواق، أن رسوم المصارف الكبرى بالنسبة إلى المستهلك العادي هي أعلى بنسبة 14.5% داخل فرنسا عن المتوسط الأوروبي. وإذا تمكن كبار اللاعبين في السوق ممن يملكون المقدرة التسعيرية الكافية من فرض نسبة 15% لقاء نفس الخدمات المصرفية كما هو الحال لدى منافسيهم، فإن المشكلة ليست خارج نطاق التركيز، بل إنها على العكس من ذلك تماماً.
ولطالما اشتكى خبراء الاقتصاد من أن الاحتكار النخبوي المصرفي الفرنسي، والذي يسبب الإرهاق الشديد للشركات الفرنسية متوسطة الحجم في سوق التمويل، يسبب عائقاً كبيراً للنمو الاقتصادي في البلاد. ونظراً إلى أن السوق المصرفي الفرنسي لا يتمتع بالتنافسية الكافية، فلن تقدم المصارف الفرنسية القروض للشركات الصغيرة والتي يُفترض أنها تنطوي على مخاطر مصرفية كبيرة. وتقوم المصارف الفرنسية بعمل جيد من خلال فرض الرسوم المرتفعة أعلى من مستوى السوق على المستهلكين مع تمديد الحد الائتماني للشركات التي تملك ميزانية كبيرة فقط بدرجة تجعلهم لا يحتاجون إلى الائتمان في المقام الأول.
ولقد استعرض تقرير صادر عن مجلس التحليل الاقتصادي الفرنسي عام 2009، الأدبيات الأكاديمية بشأن تقنين الائتمان للشركات الصغيرة. والاستعراض المذكور، والذي لا يزال ذا صلة حتى يومنا هذا، مفيد بالنسبة إلى المقارنات الدولية، إذ خلص التقرير، عبر نفس الفترة الزمنية، إلى أن الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تعاني من التقنين الائتماني تبلغ نسبتها من 8 إلى 10% في الولايات المتحدة الأميركية، و9% في المملكة المتحدة، وتسجل نسبة فلكية تبلغ 40% داخل فرنسا. وآخر ما تحتاج إليه فرنسا الآن هو أن تصبح مصارفها الكبرى أكبر حجماً، أو أن تتراجع مصارفها الصغيرة في مواجهة المصارف الكبيرة في البلدان المجاورة، والتي، إن لم يتغير أي شيء آخر، فسوف تنضم وبكل بساطة إلى الركب.
والسيد دي غالهاو، على غرار أغلب أعضاء النخبة المصرفية الفرنسية، هو خريج «المدرسة الوطنية الفرنسية للإدارة-إينا»، وهي كلية النخبة المرموقة في المجتمع الفرنسي. ولقد أمضى، قبل تسميته لتولي منصب محافظ البنك المركزي الفرنسي، قرابة 10 سنوات يتنقل بين مختلف المناصب العليا في بنك «بي إن بي باريبا» وهو من أكبر البنوك الفرنسية، والذي سوف يكون من أبرز المستفيدين من موجة الدمج المصرفية في منطقة اليورو. وليس من شأن ذلك أن يلقي ظلالاً من الشك على دوافع السيد دي غالهاو، إذ إن السواد الأعظم من خريجي كلية «إينا» هم من المواطنين الفرنسيين الصادقين. كما أنهم، كمجموعة خاصة، يملكون الاعتقاد الضمني، ولكن الصريح، بأن كل ما يحدث ليصب في صالح زمرتهم فإنه يصب ولا بد في صالح البلاد والعالم بأسره. وهذا الافتقار إلى الوعي الذاتي هو الذي ظل يطيح بفرنسا، بدلاً من الفساد والمعاملات الذاتية على هذا النحو.
قد يكون الدمج المصرفي سيئاً بالنسبة إلى الاقتصاد، ولكنه سوف يكون جيداً للنخب كطائفة خاصة، حيث إنهم يحتلون المناصب الرفيعة على رأس أكبر المصارف الفرنسية. ويجب على الرئيس ماكرون مقاومة دعوات السيد دي غالهاو للدمج المصرفي. فلديه الكثير من الأشياء الجيدة التي يمكنه القيام بها خلال العام الجديد. ولكن دعونا نعتبرها بمثابة الإشارة التحذيرية من أن النخبة الأرستقراطية الحاكمة بالأمر الواقع في فرنسا، والتي يدين الرئيس ماكرون بالفضل العميق لها، قد لا تكون على الدوام من أفضل مصادر النصح والإرشاد.
باسكال غوبري
صحيفة الشرق الاوسط